مجلة الرسالة/العدد 867/مصر تنتقم من وزير

مجلة الرسالة/العدد 867/مصر تنتقم من وزير

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 02 - 1950



للأستاذ عطية الشيخ

تشابه الطبائع:

الناس معادن وفصائل، منهم الأخيار والأشرار، ومهما تقدم العقل البشري وامتدت المدنية، وزاد الرخاء، وتنادى الناس بالإخاء، فإنك لا تزال تلمس في هذا المجتمع الراقي فصائل من البشر لا يميزهم عن إنسان الغاب إلا طراز الأزياء، وتقاليد سطحية، ليس لها في أعماق نفوسهم أثر وهل تعي الببغاء مما تقول شيئاً؟ وعل يعني النسناس مما يؤدي من الحركات أمراً؟ ففي فجر التاريخ تميز خيار الناس من شرارهم في محاورة قابيل وهابيل البني آدم، حين هم الأول بقتل الثاني، فلم يزد هابيل على أن قال (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين) فهل أثر هذا الموقف الكريم في النفس الشريرة. كلا لا طوعت له نفسه قتل أخيه فقتله. ثم امتدت الحقب، وتتابعت الأولاد والأحفاد، وتوالت الأجيال، ومازال في أبناء آدم قابيل وهابيل، لم تختلف الأرواح وإن تغيرت الأسماء وها هي ذي الأمثال والحكم التي أجرتها الحوادث على لسان الأمم البائدة. يتمثل لها أبناء اليوم كأنها قيلت بالأمس القريب.

علم الدين سنجر الشجاعي:

مملوك من مماليك السلطان المنصور قلاوون، أتسم بقلب حجري، وبأس قوي، وحب للشر وشهوة في الانتقام، ورغبة أكيدة في الكيد للناس، لا يسلم من شره أقرب الخلق منه، ولا أكثرهم إحساناً إليه، تولى الإشراف في أيام سيده المنصور قلاوون على بناء البيمارستان، فكان يتصيد الصناع والفعلة من أعلى سقالة بالبندق، وإذا سقط أحدهم جثة هامدة لا يظهر عليه تغير ولا يتحرك من مكانه ولا يسأل عن أهله وذويه، بل يأمر بالإسراع في دفنه حتى لا يتعطل العمل.

إلى الشام:

ثقل على المصريين أمر الشجاعي، وكان في الشام بقايا صليبيين، فرأى الملك المنصور أن يرسله إلى دمشق، عله يجد متنفساً لشره وظلمه في أعداء الدولة إذ كان لا بد للأفعى من أن تنهش وللعقرب من أن تلدغ، وقد صدق ظن الملك ففي الشام وجد الشجاعي متسعاً للأذى في غير المسلمين حتى أحبه أهل دمشق.

السلطان خليل:

مات المنصور قلاوون وتولى بعده الملك ابنه الأشرف خليل وكان كما يقول الذهبي في كتابه تاريخ الإسلام (بطلاً شجاعاً مقداماً مهيباً عالي الهمة، تخافه الملوك في أمصارها، والوحوش في آجامها) فلم يكد يستقر في الملك حتى صمم على طرد الصليبيين من بلاد الشام جملة، وكان أمنع حصن لهم (عكا) فجهز جيشاً جراراً وحاصرها، وهناك قابله الشجاعي، وأخذ يسمم أفكاره ضد من معه من الأمراء والوزراء (والشجعان دائماً أضعف فريسة للختل والمكر والدهاء) فقبض خليل على من معه من أمراء أبيه وقواده ولم ينتظر حتى تنتهي المعركة (وحصل للناس قلق شديد، وخشوا من حدوث فتنة تكون سبباً في تنفيس الخناق عن أهل عكا المحصورين)

حتى الوزير:

كان وزير الأشرف خليل هو محمد بن عثمان التنوخي الدمشقي، وكان له صديق شاعر، خاف عليه لؤم الشجاعي وكيده، فأرسل إليه البيتين الآتيين يحذره منه.

تنبه يا وزير الأرض واعلم ... بأنك قد وطئت على الأفاعي

وكن بالله معتصما فإني ... أخاف عليك من نهش الشجاعي

فهل أغناه التحذير كلا بل ذهب الوزير صريعاً بيد الشجاعي أمر قراقوش فضربه ألفاً ومائة عصا حتى مات تحت التعذيب.

رقعة دسة:

أخذ الشجاعي بترقي في وظائف الدولة أيام السلطان خليل، بدسه وسعيه ضد أكابر الدولة وزجهم في السجون والمعتقلات، حتى أنابه السلطان عنه في السلطنة، وأنزله قلعة الجبل حين ذهب للصيد في مديرية البحيرة، ولما قتل السلطان خليل، وتولى الملك بعده أخوه الناصر، أتفق الأمراء على أن يكون نائب السلطنة الأمير كتبُفاً، ووزيرها الشجاعي، وكان الملك صغير السن، ونائب السلطنة كتبفاً رجلاً ديناً طيب القلب، فأنتهز الشجاعي هذه الفرصة واستبد بالأمر (وكان موكبه يضاهي موكب السلطان من التجمل.

الاستئثار أو النار:

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه، والحوت لا يلهيه شيء يطعمه، يصبح ظمآن وفي الماء فمه، وشهوة الشر لا تشع وإن سبعت شهوة الخير، فلم يكتف الشجاعي بما وصل إليه، وأخذ يعمل على استئصال جميع معارضيه، والانفراد بالحكم وحده فدبر مع بعض الأخساء مؤامرة لقتل جميع الأمراء والعلماء والقادة والعظماء، ووعدهم بأن من قتل أميراً أو عظيماً فله جميع تركته، وأخذ ينفق من خزانة الدولة في سبيل هذا المأرب، حتى بلغ ما أنفقه في يوم واحد ثمانين ألف دينار، وعين لتحقيق الغرض يوما معلوماً وأوصى بالتكتم حتى يؤخذ الخصوم على غرة.

وتقدرون:

كان من بين من أغراهم الشجاعي ومناهم سيف الدين قنقغ التتاري، فأخذته العصبية الجنسية للأمير كتبفاً لأنه كان تتاري الجنس، وحذره وأطلعه على كل شيء، فجمع كتبفاً أمراء الدولة وعظماءها وبعد أن تحققوا من صدق الرواية ذهبوا إلى القلعة وحاصروها ليقبضوا على الشجاعي.

الذهب والشعب:

أغلق الشجاعي أبواب القلعة، وأخرج صرر الذهب من الخزانة، وأخذ يفرقها على البرجيه حتى انحاز إليه فريق منهم، وظل يعد ويمني ويرشو حتى تجمع حوله العدد الكافي. فخرج من القلعة وهاجم كتبفا وأصحابه فهزمهم وفروا إلى يلبيس. ورأى الشعب ذلك فثارت ثائرته وتدخل في الأمر ضد الشجاعي الظالم وهجم الأهالي هجمة رجل واحد حتى أدخلوا الشجاعي ومن معه قلعة الجبل وحاصروهم وقطعوا عنهم الماء، فعاد كتبفا ومن معه وانضموا للشعب، ودام الحصار (إلى أن طلعت الست خوند والدة السلطان الناصر محمد بن قلاوون إلى أعلى السور وكلمتهم بأن قالت لهم! إيش هو غرضكم حتى إننا نفعله لكم؟ فقالوا مالنا غرض إلا مسك الشجاعي وإخماد الفتنة) فأمرت بإغلاق باب منزل الشجاعي عليه وكان داخل القلعة، فأصبح في حصارين أحدهما خارج الأسوار، والثاني داخل القلعة.

ولما رأى أصحابه ذلك، ولا ينحاز إلى مثله بالطبع إلا كل خسيس نفعي، يكثر عند الطمع ويقل عند الفزع، والطيور على أشكالها تقع، أقول لما رأى أصحابه ذلك، تفرقوا عنه وانضموا إلى أعدائه ثم انقض عليه بعضهم وقطع رأسه وأظهره للشعب من وفق سور القلعة، فدقت البشائر وعمت الأفراح جميع البلاد.

الثأر من رأس الغريم:

علم بعض صيادي المال من المصريين كراهية الشعب للشجاعي فاستولوا على رأسه وطافوا به الأنحاء على أعلى رمح، وتسابق المصريون في شفاء صدورهم من رأس عدوهم، فتهافتوا على النيل منه وغالى حاملو الرأس في تقاضي الثمن (حتى بلغت اللطمة على وجهه المداس نصف درهم، والبولة عليه درهم) ولم يكف المخدرات صنيع الرجال، فطلبن من أزواجهن المشاركة في الإهانة (فكانوا يأخذون الرأس ويدخلونه بيوتهم فتضربه النسوة بالمداسات) ولم يفرغ حاملو الرأس من مهمتهم حتى امتلأت جيوبهم وبعد أن جبوا عليه مصر والقاهرة وحصلوا مالاً كثيراً، وغلقت أسواق القاهرة وحوانيتها خمسة أيام ابتهاجاً بزوال عهده (وسبب ذلك ما كان اشتمل عليه من الظلم ومصادراته للعالم وتنوعه في الظلم والعسف).

دالت الدولة:

بعد أن هدأت الفتنة وأصبح الشجاعي في خبر كان، قبض كتبفا نائب السلطنة على أعوانه والمتآمرين معه، وأطلق سراح المعتقلين، وكان من جملتهم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير الذي تسلطن بعد ذلك على الديار المصرية، ومن الله على الذين استضعفوا في الأرض وجعلهم أئمة وجعلهم الوارثين.

حتى الترحم عليه:

قال قاضي القضاة نجم الدين بن شيخ الجبل: كنت ليلة نائماً فاستيقظت وأنا أحفظ البيتين الآتيين:

عند الشجاعي أنواع منوعي ... من العذاب فلا يرحمه الله

لم تفن عنه ذنوب قد تحملها ... من العباد ولا مال ولا جاه وكان ذلك في نفس الليلة التي قتل فيها الشجاعي نعوذ بالله من سوء الخاتمة.

عطية الشيخ

مفتش المعارف بالمنيا