مجلة الرسالة/العدد 867/المسرح المصري

مجلة الرسالة/العدد 867/المسرح المصري

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 02 - 1950



للأستاذ محمود سامي أحمد

يأسى كل محب لفن التمثيل لهذا المصير المحزن الذي آل المسرح المصري اليوم، ولكن أنى للأسى والحزن أن يقوماً ما اعوج من الأمور، أو أن ينفخا الروح في الجسد الهامد المستكين؟

لن يصبح للمسرح المصري شأن إلا يوم يتكاتف العاملون من رجاله، فينصرفون إلى البحث الهادئ ووضع الخطط السليمة دون ميل مع الهوى، أو خضوع لأي مؤثر عاطفي، ودون أن يقفزوا إلى نتائج مبتسرة لا تسندها مقدمات منطقية معقولة.

وقد رأيت أن أدلي على صفحات الرسالة ببعض ما يعن لي من آراء، راجياً أن يقابلها رجال المسرح بصدر رحب، وألا يسخطوا علي ما قد يكون فيها من صراحة تؤلم، فإنه الألم من مشراط الجراح يعقبه البدء بإذن الله.

نشأة المسرح المصري مفتعلة:

المتأمل في نشأة المسرح في مختلف البلاد يجد أنه انحدر من صلب العقيدة الدينية، وأن أولى خطواته كانت من عمل الكهان ورجال الدين، وأولى حفلاته كانت تقام في المناسبات الدينية.

فهذا المسرح اليوناني، وهو أقدم المسارح المعروفة لنا، والمدروسة دراسة واضحة؛ نشأ هذا المسرح عن ديانة الإله ديونيسوس إله الخمر عند اليونان.

كانت عبادة ديونيسوس ترمي إلى حياة الكروم، هذه الأشجار التي تجف سوقها وتذبل أوراقها في الشتاء، ثم تعود مع الربيع إلى الحياة، فتدب الحياة في تلك السوق، وتظهر الأوراق اليانعة وتثمر ثمرها الشهي، فإذا طاب الثمر عصره القوم وخمروه ليبعث في نفوس شاربيه السرور والنشوة. فديونيسوس إذن إله يحيا ويتألم ويموت، ثم يبعث حيا!

ولما كان الكرم هو أهم المحاصيل اليونانية، وكانت الماعز هي أهم ما يربى من حيوان، فقد احتفل اليونانيون بإله الخمر بعد أن مزجوا عبادته بعبادة الماعز، فكانوا يقيمون الحفلات العامة في أواخر مارس وأوائل إبريل، ويجعلون من مذبح الإله، وهو ما كانوا يسمونه (التيميليه)، مركزاً للاحتفال، فكانت جوقة المنشدين تجتمع لتدور حوله مغنية راقصة، بعد أن يلبس أفرادها جلود التيوس، ومن ذلك الوقت اصبح الديترامبس وهو الغناء التوقيعي الذي تقوم به الجوقة يسمى التراجيديا أي غناء التيوس (وهو لفظ مركب من أي التيوس وأي غناء) ومن ذلك الوقت أصبح الكهنة والمتعبدون يلبسون جلود التيوس في حفلاتهم الدينية تشبهاً بالساتير وهم صحابة الإله ديونيسوس.

ولم يقتصر الأمر على الغناء والرقص، وإنما عمد الكهان إلى تمثيل طرف من حياة الإله يصلح لأن يكون نواة التمثيلية، فكان أحد الكهنة يمثل شخصية عدو من أعدائه الذين يريدون به الشر، ويطارد حورية من حوريات الإله وقد أمسك بيده فأسا يهددها به، فتجفل الحورية، وتفر منه وقد ملأها الرعب واستبد بها الخوف. واستمرت الحال زمناً، ليس إلا رقصاً وغناء لا يجمعه نظام خاص، وإلا مشاهد صامتة فيها طرف من أسطورة وطرف من حركة ولكن لا حوار فيه. استمرت الحال كذلك إلى أن جاء الشاعر أريون، الذي حول هذا النشيد الساذج إلى فن، إذ فصل بين الجوقة ورئيسها، وجعل هذا يعني فردياً لم يكن موجوداً من قبل، فترد عليه الجوقة مجتمعة، ومن هنا نشأ الحوار.

ثم جاء دور تسبيس الذي يعتبر المبدع الأول للمأساة اليونانية إذ أنه حول هذه الأغاني والرقصات إلى حوار كامل، رفعه أئمة المسرح اليوناني اسكيلوس وسوفوكليس يور وبيديز إلى مرتبة الفن الكامل.

وكما تطور الفن المسرحي من الرقص والغناء الساذج إلى المسرحية الفنية الكاملة، كذلك تطور الموضوع، فبعد أن كان وقفاً على تمثيل حياة الآلهة، أضاف اليونانيون إليه حياة الأبطال، فأخذوا يتغنون بها، ويمثلون قصصاً منها، معتمدين في ذلك على القصص الطرادي والقصص الطيبي، ثم طغى تمثيل حياة الأبطال على حياة الآلهة، وانفرد بالأمر، ولم يعد للآلهة مكان على المسرح، ولكنها ظلت مع ذلك في المسرح اليوناني تسيطر على أعمال الناس وتتحكم في مصائرهم.

ولم يشذ المسرح المسيحي عن ذلك، ومن عجب أن ينشأ المسرح في أحضان الكنيسة، وهي التي حاربت التمثيل الروماني وكانت سبباً من أسباب انهياره! ولكن لا غرابة في ذلك، فقد أثبتت الدراسات المختلفة في علم الاجتماع وطبائع الشعوب، أن كل ذين قابل لأن ينشئ حادثة مسرحية، وأن جميع الطقوس الدينية قابلة لأن تتخذ الشكل الدراماتيكي، والدليل على ذلك أنه نشأ عند الفرس نوع من التمثيل لم يتطور إلى المسرحية الكاملة وقد نشأ عن الاحتفال باستشهاد الحسين رضي الله عنه.

ولد المسرح المسيحي إذن من طقوس الدين، وذلك للتأثير في قلوب المؤمنين، فكان القس والرهبان يمثلون بعض مشاهد من حياة المسيح، فيمثلون رفعه ثم يمثلون مولده، وأقدن الوثائق التي تصف لنا هذه المشاهد هي الوثيقة التي تركها الراهب الإنجليزي سانت إنلوولد، فكان القس يضعون إلى جانب المذبح تابوتاً يرمز إلى القبر، ثم يتقدم قسان يحملان صليباً ملفوفا بالقماش يرمزون به إلى المسيح، فيضعانه في التابوت، يتخلل ذلك كله الأناشيد، وأقدم التمثيليات ذات الحوار هي تلك التي كانت تمثل في عيد الفصح، إذ كان يتقدم قسيسان يلبسان مسوحا بيضاء يمثلان ملكين، ثم يلتقيان بآخرين يمثلان امرأتين ويقف الجميع أمام التابوت الفارغ، فيسأل أحد الملكين

- عمن تبحثان في الضريح؟

فتجيب إحدى المرأتين:

- إننا أيها السماويان نبحث عن الذي صلب.

فيرد الملك الثاني:

- لن تجداه هنا، فقد ارتفع إلى السماء كما تنبأ، فاذهبا وأعلنا في كل مكان ذلك؛ أعلنا أنه ارتفع من ضريحه إلى السماء

وهكذا نشأ المسرح المسيحي بهذه التمثيليات الدينية ثم تطورت بعد ذلك إلى مناظر كاملة ضاقت عنها الكنيسة، فخرج التمثيل إلى فناء الكنيسة أو المقبرة، ثم إلى دور البلديات.

ولانحدار التمثيل من صلب العقيدة الدينية نظر الجمهور إلى هذا المسرح نظرة القداسة، وكانوا يؤمون المسارح أو أي مكان يقام فيه التمثيل كما يؤم المؤمن معبداً يؤدي فيه الفريضة لله. وهكذا تأصل حب المسرح في النفوس، حتى أصبح الأوروبيون يرون للمسرح رسالة روحية، وحتى أصبح في نظرهم ضرورة من ألزم ضرورات الحياة.

أما في مصر، فالمسرح نقل إلينا دون أساس قومي أو ديني، نقل إلينا بما ترجم أو أقتبس من الروايات الأوربية، ومثلت هذه الروايات دون أن يراعى فيها في أول الأمر اتفاقها وعقلية المصري وتقاليده، ولهذا ظل المسرح بعيداً عن أفئدة الجمهور، ذلك الجمهور الذي أقبل على دور اللهو الأخرى التي تخاطب حسه وغريزته، وانصرف عن المسرح الجدي الذي يخاطب فيه العقل والذوق، فكاد نجم ذلك المسرح أن يأغل مع كل ما تقدمه الدولة من أموال لإعانة الفرقة المصرية.

وليس أمر المسرح المصري بدعا في ذلك، فالمسرح الروماني القديم نال نفس المصير، فقد نشأ نفس النشأة المفتعلة بترجمة المسرحيات اليونانية أو اقتباسها أو تقليدها، فلم يجد الإقبال الكافي، حتى أن مسرحيات سنيسكا الفليسوف لم تمثل، وإنما كانت تقرأ على الناس في قاعة للمحاضرات تسمى الأوديون، وهذه القاعة ابتدعها الرومان ليستمع الناس فيها إلى المحاضرات أو ما يقرأ عليهم من التمثيليات. وهكذا تحول المسرح الروماني على مر الزمن إلى مسرح استعراضي يعتمد على الرقص والغناء واستثارة الغرائز الدنيا للمشاهدين.

لهذا السبب - وهو النشأة المفتعلة للمسرح المصري - امتلأت المسارح الاستعراضية والفكاهية؛ وخوى مسرح الفرقة المصرية، ولهذا السبب أيضاً امتلأت الروايات السينمائية المصرية بمشاهد الرقص والغناء بمناسبة وبغير مناسبة.

فالواجب على القائمين على أمر المسرح أن يستميلوا الجمهور إلى فهم، ولا أقصد بذلك أن يتبدلوا فيما يعرضون، كما تحاول الفرقة المصرية اليوم، وإنما أقصد إلى أن يبثوا حب المسرح في النفوس، وأن يرتفعوا بهم رويداً رويداً حتى يحلقوا في أبعد الآفاق وأرفعها.

ودليلنا على أن أفراد الجمهور المصري لا ينقصهم الإحساس الفني، أنهم يقبلون على مشاهدة الروائع السينمائية الأجنبية، وفيها القصص الدسمة والموضوعات العميقة، وهم راضون عما يرون، بل إنهم أصبح الآن ينصرفون عن كل رواية ضعيفة ولو اختفى ضعفها وراء الإخراج الرائع والتمثيل المتقن.

فيجب، والحالة هذه، أن نبث حب المسرح في النفوس، وذلك باستلهام التاريخ الإسلامي في وضع المسرحيات، ويجعل مادة التمثيل مادة أساسية في المدارس كما هي حال القصص الآن، بالإكثار من وحدات المسرح الشعبي التي تجوب الأحياء والبلاد ولا لتعرض هذه التفاهات التي تقدمها، وإنما لتعرض قطعاً غنية جمعت بين المتعة والفن. ولا بأس من أن تعرض في كل مرة مسرحية فكاهية لاجتذاب الجمهور، ثم تتلوها مسرحية جيدة تخاطب العاطفة الدينية أو القومية في النفوس، ويتذوق فيها النظارة الفن الحقيقي الرفيع.

محمود سامي أحمد

أستاذ في الآداب