مجلة الرسالة/العدد 867/الأدب الأسود

مجلة الرسالة/العدد 867/الأدب الأسود

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 02 - 1950



للأستاذ عبد الفتاح الديدي

مسكين الأديب!

مسكينلأن الناس بتتالي العصور وتوالي الأيام قد ركبوا في رؤسهم فكرة لا يريدون أن يتراجعوا فيها ولا يحبون أن ينثنوا عنها. فمنذ قديم نسبت الحكمة إلى الأديب وعرف بالأخلاق الحميدة بين الناس وشاع عنه أنه واحد من هؤلاء الأفراد الذين يخدمون الفكرة حتى الموت، ويقومون في محراب الفن والتأمل بتقديس المثل الأعلى مهما بلغت خسائرهم في الروح ومهما أصابهم الإملاق من ناحية الرزق. ولو صدق ما يقوله المؤرخون الأدباء من أن كلمة الأديب قد عرفت في العصور الأولى من حياتها بأنها التهذيب الخلقي، وأنها قد أخذت أخذا من مجال التربية لتوضع وضعا في قاموس اللغة والأدب، لعرفنا مقدار الصعوبة التي يجدها الأديب الآن في معاشه اليومي. أنه الوحيد الذي يلزمه الناس - من بين أصحاب الحرف جميعاُ - بالمحافظة على سمعته والاحتفاظ بكرامته والتعالي عما يدنس نفسه من الفعال.

ولا أحسب أن هذه الضرورة قد نشأت من شئ إلا من هذه الفكرة الخاطئة التي ملأت نفوس العامة بالنسبة إلى الأديب في الأزمنة الماضية، ثم بقيت لنا حتى اليوم بآثارها البالية من غير أن تنحرف قيد أنملة عما كانت عليه في الأصل. إن الأديب كغيره من عباد الله يريد أن يعيش، على الأقل كما يعيشون، ويتشوف إلى حياة كريمة، لا تليق بمهمته القدسية، وإنما تليق بكرامة البشر العاديين. . ومع هذا فهو مطالب بأكثر مما تحتمله الأساود الضارية في المفارات والأدغال، ومحمل بالمسؤولية التي توجع ظهور النوق في مستهل الرحيل.

ألا لعنة الله على هذه الحرفة التي بموت صاحبها من الجوع ويعاني من جرائها كل آلام الفقر والمرض ثم يطالب بعد هذا كله أن يكون عفيفاُ فلا يطلب، وان يكون كريماً فلا يخضع، وان يكون متكبراً فلا يجارى. إنهم يريدون له أن يحقق ذلك المفهوم الذي اتفقوا عليه فيما بينهم بخصوص الأخلاق والمبادئ. وتسألهم من ثم إذا كانوا يقتنون له كتباً ويملكون من آثاره ونتاجه شيئاً فيجيبونك بالنفي القاطع. ولو أحببت أن تعرف تفسيراً معقولاً لهذا العمل أو إذا دفعك الفضول لأن تقف علىالسر في عدم الإقبال عليه لأخبروك بأنه لا يكتب في موضوعات مستحبة ولا يعالج المسائل الشيقة ولا يتناول بقلمه تلك المشاكل القريبة إليهم الأثيرة عندهم.

أفليس هذا بالشيء الغريب حقاً؟ يطالبون الأديب بان يكون داعية للخير وبوقاً من أبواق السلام وواعظاً أو ناصحاً بين الشباب. . . فإن تمشى مع رغائبهم وجارى ميولهم ملوه وسئموا منه، واحتجوا في النهاية بأنه لا يحاول الكتابة السهلة اليسيرة في الموضوعات التي تلائم نفوسهم وتتعلق بالظروف التي تحيط بهم، فيضطر تحت تأثير الحاجة والعوز إلى أن يلفت أنظار القراء وأن يغريهم بالحكايات المبتذلة والروايات الرخيصة، أو أن يكون دعامة لحزب من الأحزاب ومنادياً لمذهب من المذاهب، أو أن يكون بهلواناً يعرض صنوفاً من فقراته، ويسوق إليهم السخيف من شطحاته. وعندئذ تراهم يتهامسون: لقد زل فلان وانحدر من مكانته الرفيعة وهبط من قمة التفكير والتأمل إلى كلام الأزقة وروايات الماجنين. ويطالبونه في الحال بأن يعود من حيث أتى، وأن يدبر من حيث أقبل، مهما كانت البطن فارغة والحال رقيقة.

كيف يكون هذا بالله؟ أهذا منطق يقبله الدماغ ويرضى عنه الحس والشعور ويؤيده شيء من واقع أو شيء من خيال؟ ليت القراء يعرفون أن الأديب إنسان من دم ولحم، وأنه يريد أن يقتات، وأنه من الضروري بالنسبة إليه أن يأوي إلى بيت وأن يتستر باللباس. وليتهم في الوقت نفسه ينزعون من رءوسهم هذه الفكرة الخاطئة التي تمسكوا بها عن الأديب ومهمته، أو على الأقل يدعونه كغيره من خلق الله حتى يحصل على ما يحقق له حياة فيها بعض الهدوء والاطمئنان. هذه مع العلم بأن الأديب هو أعجز الناس وأقلهم حولاً وأضعفهم سلاحاً، وأنه مهدد كما لا يمكن أن تهدد الحياة إنساناً سواء وإذا هبطت به إلى المعيشة الاجتماعية فستلمس هذا كله بوضوح عندما تصطدم أحلامه بمطامع الناس وأمانيهم العملية. فمن الغبن للأديب أن نطلبه بنوع معين من الكتابة وأن نحظر عليه الكلام في غير ما يريده له الناس. دعوه يقول فيما يشاء وكما يشاء، حتى إذا جاء وقت الحساب، ذروا شره وتركوا آثامه وتعلقوا بالجانب الممتاز الذي ينتجه في ظلال العيش الكريم لماذا يتاح للموظف مثلاً أن يستغل نهاره في العمل التافه العقيم من أجل أن يعيش كريماً معززاً في نصف نهاره الثاني؟ ألا يرى الإنسان العادي فيم يمضي وقته وكيف يستغل عقله استغلالاً رخيصاً حتى يستبقى لنفسه بعض الساعات التي يحقق فيها كل ما يرجوه من عزة وإباء وعيش كريم؟ وكذلك أدب الأديب. . . فليس كله متساوياً من ناحية القيمة والدرجة وإنما بعضه عماد للبعض الآخر، ونصفه الثاني عالة على نصفه الأول. إذا قام الأديب بالدعاية في صف الأحزاب السياسية فلكي يضمن لنفسه بعض الساعات التي يخرج فيها القصيدة التي تشجيك والفن الذي يرضيك والعمل الأدبي الذي يطربك. وإذا استحل لنفسه أن يكون رخيصاً عند الوصف ومتبذلاً في الكشف وفاجراً من ناحية انتقائه للموضوعات فذلك كله على أساس أن يتحصل على الدريهمات التي تضمن له بعض الوقت والتي تمكنه من التفرغ للعمل القيم والمؤلف الثمين.

ثم لاحظ شيئاً آخر، وهو أن ما اصطلح الأدباء الأوربيون في العصر الحاضر على تسميته بالأدب الأسود، ويعنون به ذلك الأدب الصريح في مسائل الجنس، أو ذلك الأدب إلي يهتم بنواحي الضعف في الإنسان ويبرز جوانب الحياة المظلمة، إنما هو نتيجة طبيعية لعدم الرغبة في القراءة لدى الناس. فقد أصبحت القراءة ثقيلة على نفس الإنسان المتمدن وصار يقتصر في استقاء معلوماته على ما تتحفه به الصحف اليومية. وأصبح الأديب المتخصص في خطر المشغوليات الحيوية والدواعي المادية التي تكاثرت حول الإنسان وجعلت تتخاطفه تخاطف التجار على الزبون الحائر. فهم غير مستعدينلأنيبقوا على بعض ساعات من يومهم للقراءة الخالصة الرفيعة والاطلاع على مسائل الفكر والروح. ومن هنا ترى الأديب قد اضطر اضطراراً إلى أن يتناول بقلمه بعض النواحي التي تجذب القراءة، وأن يقص بطريقة شيقة بعض الحوادث الخاصة التي يبدعها خياله عن طبيعة الصلة فيما بين الرجل والمرأة. لقد فطن الأديب إلى مدى التأثير الذي تحدثه هذه المسائل في نفس القارئ فشاء أن يلفت نظره بواسطتها حتى يستولي على دراهمه أولا، ثم من أجل أن يحبب إليه الفكرة التي تستعصي على فهمه، والتي ما كان ليقبل عليه ويتدبرها ثانيا.

فالأدب الأسود أو الأدب الذي يخاطب الغرائز الإنسانية طبيعي جداً في هذه الآونة بالذات بعد أن استحال على الأديب أن يجد رزقه بين مخالب الآدميين من حوله، وبعد أن أصبح من العسير أن يقبل القارئ من تلقاء نفسه على الأدب الخالص والفكر البحت فلا يلومن أحد أديباً لأنه استثار غرائز القراء، أو لأنه خاض في تلك الروابط الخفية المستترة فيما بين الرجل والمرأة؛ فشأنه بالضبط في هذا العمل شأن التاجر الذي يعلن عن نوع بضاعته فوق لوحة قد رسم عليها امرأة عارية. أو شأنه شأن الأنثى التي تتبرج قليلاً من أجل تصيد الزوج في الحلال.

فمن ناحية المبدأ نحن نريد أن نزيل من رءوس الناس هذه الفكرة التي شاعت بينهم عن مهمة الأديب؛ إذ نحن نؤمن بحق الأديب في أن يتكلم كما يشاء، وفي أن يختار وسائله كما يحلو له، وفي أن يستعين بكل ما من شأنه أن يجذب القارئ وأن يدفعه دفعاً إلى الإقبال على الكتب والنظر في الصحف. فهذا كله يؤدي إلى عناية الإنسان المتمدن بالقراءة وإلى أن يظل مستوى التعليم محتفظاً بدرجاته ومقوماته عقب خروج الشبان من معاهد التعليم. ومن نتيجة ذلك أيضاً أن الأديب يستطيع أن يوصل أفكاره إلى أدمغة الناس وأن يشترك مع الصحافة اليومية والمحاضرات العامة ووسائل الثقافة الاجتماعية في ترقية المستوى والاحتفاظ بالمنسوب الحضاري. ثم يلاحظ من ذلك أن الأديب لابد له أن يعيش في المجتمع الحديث مثلما تضطره الحياة إلى أن يكون. أعني أن الأديب في العصر الحاضر ملزم بأداء بعض المهمات التي لم يكن الأديب في العصور السالفة مسئولا عنها ولا مطالباً بها. أديب العصر الحاضر هو الإنسان المتخصص في الفن الذي لا يؤدي إلى فائدة مادية فعالة؛ ولا يعطي مكسباً ظاهراً ولا يجني محبذوه ومشجعوه غير أوجاع القلب وهواجس النفس. هذا بينما تلح الحياة من حوله - بكل مظاهرها العملية وبكل مقوماتها المادية - على نبذ الأشياء المثالية وإهمال الكماليات، فالعلم والميكانيكا والطب والهندسة وغيرها من المواد التي يتثقف بها الناس والتي يقبل عليها غالبية الشبان، تعود عليهم في أوقات وجيزة بالخيرات المضمونة وتجعل مستقبلهم حافلا بالأعمال والوظائف الهامة، أما الأدب فتستطيع أن تصف أهله بأنهم طائفة من الفارغين البطالين، وهذا صحيح في الوقت الذي لا تضمن من صناعة الأدب غير التفرغ لأعباء ثقيلة تشغل منك الساعات الطوال وتتطلب منك الجهد الكثير ولا تجازيك بعد ذلك إلا أيسر الجزاء.

ففي هذا الخضم الهائل من الشهوات المتضاربة نريد أن نوقف الأديب مكتوف الأيدي وأن نحرم عليه نفس الوسائل التي يتاجر بها سواه من الناس والتي يحصلون بها على الأموال المكدسة والثروات الطائلة! وباسم الإنسانية والمروءة وأخلاق الفضل والكرامة نتقدم إليه حاملين أكاليل الورد وأكفان الموت كيماً نحمله آسفين إلى بطن الثرى، مترحمين على شبابه النضر.

فالأدب الأسود إذن هو صرخة طبيعية من جانب الشاعر الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من الهلاك المحتوم، وانقلاب ضروري على مظاهر الحياة التي تلزمه وحده من بين الآدميين جميعاً ودون أصحاب الحرف قاطبة بأن يكون عفيفاً شريفاً مكرماً! ليس هذا فحسب، وإنما يشعر الأديب في قرارة نفسه بأن أعماله توجب عليه شيئاً من النزول أو الارتفاع كما نستطيع أن نقول إلى الجموع كيما يخلق من بينها طائفة من القراء إن الأديب لم يعد قادراً على الاكتفاء بالطبقة الوسطى حيث يظهر عادة هواة الفن وطلاب اللذة الروحية في الكتب والآثار، ولا بد له غذ شاء أن يكون من بين قرائه عمال وتجار، وأن يستطعم كتاباته المتخصصون وغير المتخصصون، وأن يتحبب لدى الطبقة الكادحة من أبناء الشعب ليصيروا من بين قرائه أقول إذ شاء الأديب أن يكون على هذا النحو فلا بد له من أن يخاطب الغرائز أحياناً، وأن يؤثر على أصحابها ذلك التأثير الذي يخدرهم ساعة دفع الثمن إلى الكتب، وإلا فسيظل محكوماً عليه إلى الأبد بأن يخاطب طائفة معينة وأن يقتصر تأثيره على وسط بالذات وألا يتعدى هذه الحدود المصطنعة التي أوجدها هو بيديه عند ترفعه وادعائه للتسامي. . .

لقد آن للأديب أن يخاطب أبناء عصره مباشرة وأن يحصل على المجد - إن صح أن هناك مجداً - وهو حي يرزق. أما أن يسلم كلامه للمؤرخين كيما يحكموا له أو عليه وأن يحتفظ بكتبه وآثاره لتكون مصدر لذة وسبباً في متعة الأجيال التالية فهذا ما لا يقبله عقل ولا يسلم به منطق. إذا كنت كاتباً فأنا كاتب بالنسبة إلى هؤلاء الناس والأفراد الذين يعيشون من حولي، وقرائي هم من الطائفة التي تعاصرني في الزمن ويستحيل أن اقتصر من وراء كدحي على إفادة قوم ليسوا مني في شيء. . . إنني وليد هذا العصر بظروفه وأوضاعه، ومصدر الوحي عندي هم هؤلاء الذين يعيشون في هذه الفترة، والتجاوب فيما بيني وبينهم هو كل مالي من عمل ورجاء فوق الأرض، فإذا تنازلت عن هذا الحق - أو عن هذه الضرورة، كما ينبغي لها أن تكون - فأنا أفقد عنصراً أساسياً في عملي الفني، وفي الوقت نفسه سأجد فرصة إذا أصابني الفشل، لأزعم أنني واحد من هؤلاء الذين يسبقون أو انهم ويتقدمون عصرهم. وهذا غير طبيعي عندما أكون مالكاً للأداة أو الوسيلة التي تعينني على تحقيق أغراضي والتي تكفل لي كل ما أتمناه على أيدي القراء (المحترمين) من رخاء ومجد، وتلك هي وسيلة الإغراء بالكتابات المكشوفة.

بعد هذا نحاول أن ننظر في المضرة التي تقع من جراء الصراحة الجنسية والتأثير الغريزي فإذا بالحقيقة تشدهنا وإذا بالتجارب تسخر منا للعلل الآتية: أولاً لأن هذا العمل من جانب الأديب الحريص يكون أجدى على قارئه مما لو استخدم الجد والوقار والفضيلة، وثانياً لأن هذه المسائل لم تعد جديرة بأن يتحفظ الإنسان عندما يتكلم فيها ويذكر تفاصيلها كما هو الحال من قبل. وثالثاًلأن الأسلوب الرمزي قد يؤدي إلى أخطر النتائج في التأثير على نفسية القارئ كما أنه يسهل على الأديب - وهذه هي العلة الرابعة - في تلك الآونة أن يملأ دماغ القارئ بما يجب أن يذيعه من المبادئ والآراء، ذلك أن القارئ يكون في حالة التأثر بما يقرأ في هذه الناحية شديد الحساسية مرهب الشعور، فينتهز الكاتب تلك الفرصة من أجل أن يقحم الأفكار إلى رأسه فيكون لها مفعولها في روحه ووجدانه وعقله جميعاً

وهكذا تراني في جانب هذه الطائفة من الأدباء الذين استطاعوا أن يعرفوا موقفهم بالضبط وأن يدركوا مهمتهم على الوجه الصحيح فإذا طلبت إلي أن أقول كلمة واحدة في هذا الباب تواريت واستحيت، وطلبت منك الغفران لهذه الظاهرة التي تلمسها بوضوح فينا جميعاً، وهي أننا نقفز بالعقول إلى الأشياء التي لم تستطع عواطفنا بعد أن تتقبلها راضية مطمئنة.

عبد الفتاح الديدي