مجلة الرسالة/العدد 867/علي الجارم بك

مجلة الرسالة/العدد 867/علي الجارم بك

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 02 - 1950



بمناسبة ذكراه الأولى

للأستاذ عبد الجواد سليمان

من دلائل رقي الأمم ونهوضها أن تذكر أبناءها الراحلين الذين تركوا أثراً حسناً فيها، وأسهموا في بناء نهضتها، ذلكم لأن في هذه الذكرى وفاء خلق ضروري للأمم الناهضة. وكثيراً ما تتوفر للأمم أسباب الرقي ومقومات النهوض ولكنها تفتقر إلى الأخلاق؛ قلا يحالفها من أجل هذا النجاح في مراحل نموها وتطورها، ولذلك لم يكن أمير الشعراء مبالغاً عندما شاد بالأخلاق قائلاً:

فإنما الأمم الخلاق ما بقيت ... فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وعلي الجارم كان من رجالات مصر العاملين الذين خدموا وظنهم وخلفوا وراءهم آثاراً ناطقة بما لهم من فضل يستحقون من أجله الذكرى والخلود.

لم يكن (الجارم) شاعراً فحسب أو كاتباً فقط، أو عالماً ليس غير أو. . . أو. . . بل كان كل أولئك وأكثر.

عمل (الجارم) أستاذاً في دار العلوم، فأشرف على إعداد جيل من أساتذة اللغة العربية كان يحاول في دراسته أ، يطبعهم بطابعه؛ ويحبب إليهم دراسة لغتهم ويدربهم على الغوص في خضمها لاقتناص شواردها، ويعودهم كيف يكون البحث اللغوي في حاجة إلى صبر وأناة واستعداد قد لا يتوفر للكثير من طالبي العلم ورواد الثقافة ثم عمل. . . رحمه الله - في ميدان التفتيش عن الأساتذة في المدارس على اختلاف مراحلها، فكان في ذلك طرازاً فريداً، هيهات أن يوجد له نظير بين من تعاطوا هذه المهنة ممن أتوا بعده، فلم يكن في تفتيشه مفتشاً فقط يكتفي بالمرور على المدارس لتسجيل الزيارة وكتابة التقارير، كما يفعل غيره ممن يؤدون هذه المهمة كعمل رسمي آلي نيط بهم متجاهلين أو ناسين الغرض الأول من هذا العمل، بل كان مفتشاً يرشد الضال ويأخذ بيد الخامل ويشجع العامل، وينفخ من روحه في الضعيف ليتنفس ويقوى، ويتلمس في لباقة وهدوء الفذ الممتاز بين المئات حتى يهتدي إليه ليثيبه وينبه وينبه إليه ليأخذ مكانه الذي هيأه له عمله وجده واستعداده. وكان أستاذاً يعلم الجاهل ويهدي المخطئ إلى الصواب ويوجه التوجيه الحر القويم، يفعل ذلك عن يقين بصواب طريقته وتمكن من مادته، وثقة بنفسه، واعتزاز بعلم أشعل في تحصيله فحمه الدياحي. فلم يكن غريباً في زمانه - أن يحسب له المدرسون حساباً وألف حساب فيتنافسوا في الاطلاع لاحياء مادتهم ومراجعة مسائل العلم لتجديد معلوماتهم علماً منهم أن التقصير لن يخفى على (الجارم) وأن العمل لن يروفه أو يجازى عليه بالثناء إلا إذا أدى بإخلاص ويقظة وأمانة وإتقان.

ولم يكن غريباً - في زمانه - على المدارس أن تعد العدة لاستقبال الجارم، لأنه لن يجامل في الحق ولا يخشى فيه لومه لائم. ولن أكون مبالغاً إن قلت إن هذا الجو قد اختفى اليوم من المدارس أو كاد يختفي إذ غدت طائفة المفتشين كطوائف المعلمين في المادة والكفاية فليس في المفتشين إلا في القليل النادر تميز واضح عن المدرسين، فلذلك تراهم أهملوا الجوهر واكنفوا بالقشور وشغلوا عن اللباب وقطعوا الوقت في توافه الأمور وأصبحت مهمتهم محصورة في المحاسبة على الهمزة والمؤاخذة على النقطة، واتخذوا الدرس وأرقام صفحاته هدفاً يصوبون إليها سهام مناقشتهم ومحاسبتهم، أما الموضوع، وأما العلم، وأما الأسلوب وأما النقد الأدبي؛ وأما الطريقة فقل على ذلك كله العفاء.

ومن هنا استهان المدرسون بالمفتشين عنهم، وتغيرت العلاقة بين الفئتين فأصبحت قائمة على (الجاسوسية) من جانب المفتش يتلمس الخطأ ويتمناه ويتجسس الهفوات ويسعى إليها؛ (والتغرير) من جانب المدرسين يعنون بالكم دون الكيف، ويعملون للتقرير لا للفائدة العلمية والإنتاج، وسلكوا إلى هذا التقرير أقرب الطرق ولو جانب مكارم الأخلاق، واستوى في نظر (المفتش) العامل والخامل والعالم والجاهل.

وعمل (الجارم) في ميدان التأليف العلمي والأدبي، فألف في (علم النفس) كتاباً مدرسياً كان بمثابة نواة أو بذرة أولى نمت وترعرت فأثمرت مؤلفات في هذا العلم سلك أصحابها أو الكثير منهم مسلك الجارم في مؤلفه فجاءت وافية في مادتها قريبة المنال في تحصيلها معبدة في طرائقها.

وألف في علوم اللغة كتباً أشهرها (كتب النحو الواضح والبلاغة الواضحة) فكانت بحق فتحاً جديداً في آفاق النحو والصرف والبلاغة، وقد انتشرت هذه الكتب في الشرق العربي انتشاراً ضمن لها البقاء، وكفل لصاحبها الخلود، إذ ألف الجارم بين أمثلتها بأسلوب الأستاذ الأديب والعالم المحقق، فجاءت غاية في الوضوح وآية في الدقة، وسهلت على تلاميذ المدارس نفهم هذه النظريات الجافة من النحو والصرف والمعاني والبيان والبديع، وستبقى هذه الكتب متخذة مكانتها في عالم التأليف مهما تقادم عليها العهد، وستظل مرجع المؤلفين كلما عن لواحد منهم أن يضع لبنة في صرح المؤلفات العربية.

وتحضرني في هذا المقام شهادة سجلها لهذه الكتب الدكتور حافظ عقيقي باشا في كتابه على هامش السياسة عند كلامه عن تعليم اللغة العربية بمصر إذ قال بعد أن استعرض بالنقد ما ألف من كتب في هذه المواد من الغبن بعد هذا أن ننكر ما قام به بعض أساتذة هذه اللغة في ميدان الإصلاح والتأليف، فلقد وضع الأستاذان علي بك الجارم ومصطفى أمين كتابي (النحو الواضح) والبلاغة الواضحة، وسلكا فيهما طريقة منطقية مشوقة هي إيراد الأمثلة الحديثة التي يجدر بالتلميذ أن يستعملها في أحاديثه وشرح هذه الأمثلة واستخلاص القاعدة أو القواعد منها وهي طريقة بيداجوجية حديثة).

أما مؤلفاته الأدبية فقد دلت على سعة باعه في اللغة، وتمكنه من ناحية البلاغة العربية، فهو يحاكي في أسلوبه الكتابي مذهب القدامى من كتاب القرن الرابع سلامة ألفاظ، وإشراق ديباجة، وسمو معان وانسجام أسلوب.

وعندي أن هذه المميزات في الأسلوب الكتابي يتفق فيها أربعة من أعلام الأدب في العصر الحديث، مع اختلاف يسير في أداء كل منهم لطريقته وسلوكه مذهبه أولئك هم كرام الكاتبين مصطفى لطفي المنفلوطي، وأحمد حسن الزيات، وعلي الجارم ومصطفى صادق الرافعي.

ولقد توفر الجارم على الكتابة الأدبية بعد تخلصه من أغلال الوظيفة وتحققه من أعبائها، فأنتج في تلك الفترة الوجيزة كتباً قيمة تفخر بها المكتبة العربية، نذكر منها (شاعر ملك، سيدة العصور، فارس بني حمدان، خاتمه المطاف، مرح الوليدة، غادة رشيد، هاتف من الأندلس؛ قصة العرب في إسبانيا)

وهذا عدا بحوثه القيمة في0 (المجمع اللغوي) التي سجلتها إعداد مجلته، وهي إن دلت على شئ في الرجل، فإنما تدل على سعة الأفق وسلامة الذوق، ونضوج الفكر، وسعة الإطلاع وعمق التفكير والرغبة في التجديد.

أردت في هذه الكلمة أن اكشف بقدر ما أستطيع عن مجالات الجارم - رحمه الله - في غير ميدان الشعر، الذي عرف به، ومن اجله لمع أسمه، وذاع صيته وعرفه القاصي والداني من أهل المشرق والمغرب.

فمن حق الجارم على مصر أن تذكره كلما ذكرت سدنة العربية وحراس هيكلها، ومن حقه على المجمع اللغوي أن يذكره كلما عرض على بساط البحث مسالة من مسائل اللغة، ومن حقه على دار العلوم أن تخلد اسمه إما بإنشاء كرسي فيها للأدب يطلق عليه اسمه كما اقترح ذلك أحد زملائه من قبل، وإما بإنشاء قاعة للمحاضرات تسميها قاعة (الجارم)، وإما بالاكتتاب في مشروع نافع باسمه يوزع ريعه على الأوائل في اللغة والأدب من طلابها

أما عن الجارم الشاعر فموعدنا به جولة أخرى على صفحات الرسالة الغراء.

عبد الجواد سليمان

المدرس بمعلمات سوهاج