مجلة الرسالة/العدد 87/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 87/الكتب
الأطلال
رواية قصصية مصرية - تأليف الأستاذ محمود تيمور
عرض ونقد بقلم محمد أمين حسونه
ليست (الأطلال) التي أخرجها الأستاذ محمود تيمور أخيراً سوى ثغرة بين مرحلتين في حياة المؤلف القصصية، وأقصد بالمرحلة الأولى فنه الذي يمت إلى الواقعية، وبالمرحلة الثانية نزعته الجديدة إلى التحليلية (السيكولوجية)، هذا فضلاً عن خلوها من سيطرة أية نزعة أوربية
والناقد الحصيف يلمس بين سطور (الأطلال) من عصير الفكر ووضوح الوصف وخصوبة الخيال ما يكفل لها حياة نابضة. وقد عرف الأستاذ تيمور كيف يرتفع بموضوع روايته إلى أسمى من ذلك الفن الرخيص الذي يبدو في قصص غيره، واستطاع أن يضيف إلى جانب مهارته في رسم بيئته، تصويره لشعوره الخاص تحت نقاب شفاف من التورية الفنية، متخذاً شخصية (سامي) مرآة تحجب وراء زجاجها الصقيل الثورة الكامنة المتأججة في فجر حياة كل شاب، حتى تدفعه إلى الخروج من حالة القلق والحيرة إلى عالم الجسم وجحيم الشهوة
بسط المؤلف على لوحته أولاً رسم سامي، وهو من أبناء الذوات الذين يعيشون في القصور المحاطة بالأسوار العالية، تضم جدرانها العدد الوفير من الخدم والخصيان والأتباع، ويأوي إليهم بين يوم وآخر ضيوف تستغرق إقامتهم الأسابيع بل الشهور
وعندما يستطرد المؤلف في وصف نشأة الصبي سامي تتنبه فيه ملكة التصوير، فلا يفوته أن يسجل إعجاب ضابط المدرسة عندما يدعوه إلى داره ليلعب مع ابنته فتحية، وكيف يغرم الصبي بالفتاة وتستهويه رائحة الأنوثة المنبعثة من صورتها، حتى إذا ما شب كان عنفوان اليقظة الغامضة يدب في أوصاله، وتراه في ذات ليلة (أم خضير) - وهي خادمة حنكتها التجارب يستذكر دروسه وفتحية أمامه تخيط ملابسها فتسر إليه (لو كنت مكانك لما جلست هكذا أمام كتبي، بل كنت أجلس إلى جانبها أداعبها واختلس قبلة) كان في استطاعة سامي بحكم تربيته وبيئته أن ينهر الخادم، أو يزجرها، ولكن المؤلف يضعه في هذا الموقف على أبواب لغز، وكأن كلمات (أم خضير) جاءت إليه من عالم بعيد مجهول، فأيقظت العواطف الراكدة في أعماق نفسه، ودفعتها في طريق محفوفة بالآثام والمخازي
خطوات سامي في هذا الطريق الوعر قلقة مضطربة، فهو موزع الإحساس الجسدي بين فتحية وبين الغانيات وزوجة أخيه تهاني، وشخصيته في الرواية كخطواته غير مستقرة، يبدو أحياناً في هدوء عجيب، وأحياناً أخرى في عنف وشراسة. أما فتحية فيحوطها المؤلف بحالة غموض وإبهام وتجلد أمام الآلام، بحيث لا تتفق شخصيتها مع الواقع، وحالة تحفظ في التعبير بحيث يدفعها في الخفاء إلى كبت عواطفها كبتاً لا يمكنها معه أن تبوح بحب أو ترفع صوتها بشكوى برغم شعورها بالألم وإحساسها بأنها ليست مذنبة في نظر المجتمع. ولو أدرك المؤلف أن العواطف المكبوتة قد لا تخلو من الإحساس لاستكمل النضوج الفني للصورة
وعلى العكس يبدو فن المؤلف واضحاً وأفكاره مستوية وهو يعرض علينا عقب ذلك خيال فتحية غير المحدود، عندما يتراءى لسامي بين ظلال الوعي وساعة هدوء الروح وابتعادها عن إثم الجسد، فهي تتمثل له طهارة كل فكرة وصفاء كل هاجسة، حتى إن المؤلف ليكسو خيالها بإشعاع من روح العطف والحدب على مصيرها. أما تهاني - زوجة أخيه - فهي مثال الفتاة العابثة النزقة لتي لا تبالي بالتقاليد ولا بالأوضاع حتى إن صورتها كانت في عقله الباطن صورة امرأة غاوية قبل أن يفكر في ارتكاب الخطيئة معها، فهي تتمثل له في وجه كل غانية يلقاها، ونفس شخصيتها تتلاشى تماماً في الشهوة النجسة. ولما مات أخوه وأحس أمام جثمانه بالندم يفر وفر يطلب العزلة بعد ضجيج المأتم وانكفأ يستعرض حاله، فقاده حاضره إلى التفكير في فتحية فخرج من صمته هائماً لا يلوي على شيء، بعد أن أحس أن جدران القصر تنهار (كالأطلال)، وأن شبح تهاني يطارده حتى أدرك القرية، وهناك سأل عن فتحية فإذا بها قد ماتت، وإذا طفل يجري أمامه عليه ميسم اليتم ومسحة من جمال فتحية فيحتضنه بعد أن يعرف أنه ابنه ثم يبكي. . . . .
والأستاذ تيمور الذي يجسم يعيني الفنان كل صورة في عالم الأنوار والظلال ينجح نجاحاً باهراً في وضع شخصية مودة هانم بحيث تتراءى أمامنا بين السطور مثالاً للمرأة التي استسلمت للقدر، فهي لا تشكو ولا تحتج وإنما تترقب أن يلعب القدر دوره في الخفاء فينزع زوجها من أحضان (ضرتها) وأن يعيده إليها سالماً. وحبذا لو أتى المؤلف إلى جانب هذا على طرق (مودة هانم) في اجتذاب زوجها بوساطة السحر أو التنجيم ما دام ينزع في فنه الجديد إلى التحليلية
بين الشخصيات التي رسمها المؤلف شخصية تظهر ثم لا تلبث أن تختفي، هي (أم خضير)، والمؤلف إنما يحركها فقط في المواقف التي تدفع فيها سامي إلى مواطن الإثم، وتشابهها من هذه الناحية شخصية العيوطي - مساعد البستاني - فهي قوية برغم عدم وضوحها، خصوصاً عندما يلتقي به سامي ويطلعه على رغبته في الوصول إلى زوجة أخيه فيجهز له على عادة العشاق في الجيل الماضي زياً نسائياً يتمكن به الوصول إلى خدر الزوجة
ومما يجدر بنا تسجيله للمؤلف أن النزعة الإرشادية يختفي ظهورها تماماً في فنه
ولعل أبرز طابع فيها هو (الصراحة) التي تطبعها من أولها إلى آخرها، وفي الصراحة منجاة من الأدب الأناني الذي تغشاه دائماً سحابة مبهمة من نفس صاحبه فتدفعه إلى إخفاء المعنى جزيئاً، ولكن الصراحة في الأطلال شيء آخر، فهي تسهب في التحدث عن العلاقة الجسدية بحيث تصورنا ضعافاً تحكمنا غريزة الجنس وتطغى على ميولنا وعواطفنا
وتمتاز (الأطلال) بارتباط شخصية سامي بأبطالها ارتباطاً يجعلهم يعيشون في قراره الموضوع لا فوق سطحه