مجلة الرسالة/العدد 871/البريد الأدبي

مجلة الرسالة/العدد 871/البريد الأدبي

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 03 - 1950



إلى معالي الدكتور طه حسين بك

رجعت إلى عدد من أعداد (مجلتي) التي كان يصدرها الأستاذ أحمد الصاوي محمد لأني تذكرت به شيئا كنت قد اطلعت عليه وانتظرت أوانه وأعجبت بما جاء فيه، حتى آن الأوان وحان البعث وجاء موعد الوفاء. .

هذا العدد هو ذلك الذي صدر في 15 يناير 1935 وهذا الشيء الذي تذكرته هو مقال للأستاذ الدكتور طه حسين تحدث فيه عن كتاب (تحت سمائك الزرقاء للقاضي الفرنسي (شارل بويس باريرا - وهو كتاب كتب عن مصر العزيزة وتلك السماء الزرقاء هي وسماؤها. والذي يهمني اليوم من هذا المقال هو هذه الفقرة التالية التي ختم بها الدكتور هذا المقال الشيق في مؤتنف عام 1935 إذ قال:

(ما أجد هذا الكتاب أن يقرأه المصرين ليروا فيه أنفسهم قبل أن يقرأه الأجانب ليروا فيه المصريين. لو أن إلي أمر التعليم لجعلت هذا الكتاب بعض ما يعرض على الشبان الذين يتعلمون اللغة الفرنسية، فمن يدري لعله يحبب إليهم هذه اللغة لأنه يتحدث إليهم عن أنفسهم؛ ولعله يحبب إليهم قبل كل شيء أن يحاولوا وصف ما يرون وتصوير ما يجدون كما وصف الكاتب ما يرى وكما صور ما يجد. ثم من يدري لعله يثير في نفوسه شيئا من هذا الحياء الخصب ومن هذه الغيرة المقدسة فيقول بعضهم لبعض ما ينبغي أن يحتكر الأجانب وأن كانوا كراماً تصوير مصر من دون المصريين، وما ينبغي أن توحي مصر إلى الأجانب فنوناً من الأدب الرائع شعراً ونثراً وأن تترك أبنائها أو يتركها أبناؤها لا يستوحوها ولا يستلهمونها ولا يقولون فيها الشعر الرائع ولا يكتبون فيها النثر الجميل.

نعم لو أن إلي أمر التعليم لوضعت هذا الكتاب وأمثاله من الكتب التي تتحدث عن مصر بين أيدي الشباب ولأخذتهم بترجمته وتكرار النظر فيه)

هذا ما قاله معالي الدكتور في عام 1935، ولا ريب أنه يتذكر جيداً، وذاكرته القوية خير شفيع لذلك. والآن وأمر التعليم قد وكل إلى معاليه يحسن بنا أن نذكره بهذا الأمر الهام الذي أشار إليه فيما مضى واخذ على عاتقه أمر تحقيقه لو أن إليه أمر التعليم في مصر. .

ولست أريد بهذه اللفتة الخاطفة ذلك الكتاب الذي ذكر بالذات، وإنما أومئ إلى الرأي وأنوه بالغرض الذي رمى إليه. والكتب الفرنسية والغير الفرنسية التي كتبت عن مصر بعد (تحت سماءك الزرقاء) كثيرة متنوعة، ومعالي الدكتور هو أدرى بها، فليتخذ ما يشابه بها كتاب القاضي شارل وليضعه تحت الغرض الذي أراده من فقرته السالفة.

إن هذا الرأي هام جداً ولا احب أن أذكر ما عليه من الأهمية وما له من الفوائد الجليلة، فحسبي ما جاء في فقرة معاليه وفي مقالة الذي حوى هذه الفقرة.

فإليه ابعث بهذه التذكرة عسى أن تجد لديه ما ترمي إليه من فائدة للامة وللمتعلمين، وفقه الله إلى كل خير في سبيل هذه الأمة المصرية التي نتنشق نسماتها ونحيا تحت سماءها الزرقاء. .!

أحمد طه السنوسي

الدكتور طه حسين وجمهورية أفلاطون

حكام الدولة المثلى في جمهورية أفلاطون هم الفلاسفة الحائزون لروح الفلسفة وقوتها. . . يقول أفلاطون (ما لم تجتمع الحكمة والزعامة في رجل واحد، لا تستطيع الدولة أن تشفي من أدوائها. . . ولا الجنس البشري) واستطرد قائلاً (إن هؤلاء الفلاسفة بعد أن اجتازوا الامتحان الأول والثاني. . . (جمهورية أفلاطون 415 تلخيص صروف) يجب أن ينزلوا من قمم الفلاسفة إلى ظلمات الكهف والى عالم الناس والأشياء وهنالك يخوضون معمعة الحياة ويصطدمون برجال الحيلة والدهاء، وفي ميادين هذا النزاع يتعلمون من كتاب الحياة المفتوح أمامهم.

قد يؤذي الكفاح أصابعهم، وقد تجرح حقائق الحياة بعض مذاهبهم الفلسفية.

وهاهو اليوم الدكتور طه حسين بك الذي سير أغوار الحياة، واصطدم بغدر الناس ومكرهم وأذى الكفاح أصابعه، وجررت حقائق الحياة بعض مذاهبه الفلسفية، يتولى وزارة المعارف المصرية، أي الدولة القائمة بشؤون التعليم في المملكة المصرية لا في جمهورية أفلاطون، ولا كما يعيش بعقله الكبير وخياله الواسع بالفلسفة اليونانية، بل في دنيا الواقع وفي عام سنة 1950. أمد الله في عمر العلامة العظيم، وهيأ للعرب دولة مثلى تقوم على أكتاف مثل طه حسين.

الدويم - سودان

مصطفى شكري

جنة الحيوان - لمعالي الدكتور طه حسين بك

إذ استطاع الكاتب أن يوقظ وجدانك؛ ويثير انفعالك، ويخلق في نفسك عاطفة نحو ما يعالج فقد أدى رسالته الفنية أبلغ أداء. وإذا قيس كتاب - الدكتور - لهذا المقياس فلا شك أنه يرجح رجحاناً كبيراً. وهو في هذا الكتاب يتناول بعض ما يطفوا على سطح المجتمع من مظاهر شائنة، وأعراض لأمراض خلقية واجتماعية وفكرية؛ ولا يزال - الدكتور - يصور لك ألوانها، ويأخذ بيدك تارة ليطوف بك في ميادينها، وتارة ليرجع بك إلى أسبابها ومنابعها؛ ثم يرسم طريق النجاة من عقابيلها؛ كل هذا وأنت مأخوذ بسحر العرض وإبداع التصوير، وإذا به يعمق شعورك بما يعرضه عليه. ويذكي يقضتك إلى هذه الألوان في محيطنا، ويغذي وعيك الاجتماعي، والفكري. وينشطه ويحيه؛ وإذا وصل بك الكاتب إلى هذا المرتقى فقد أخصب شخصيتك وأرهف حسك.

والدكتور - لم يقصد أن يجرح أشخاصا بقدر ما يهمه أن يعالج أمراضا، ويزيل عيوباً، ويحل مشاكل. فإذا أتخذ هذه الشخصية أو تلك يطلق عليها لفظ - ثعلب - ليلخص لك جوهر هذه الشخصية في هذا اللفظ الواحد الذي كأنه المصباح يضيء لك كل جوانب الشخصية. فيقول: لو رأيته قبل العشرين سنة يا سيدتي لما أنكرت منظره هذا الغريب حين يقبل متدرجاً كأنه البرمة الهائلة لم ترتفع في الجو كثيراً ولكنها اتسعت عن يمين وشمال، وامتدت من خلف وأمام. وهي تسعى مع ذلك خفيفة لا تكاد الأرض تحس لها ثقلاً لأنها من لحم وعظم، ولم تتخذ من حجر وصخر. ولو رأيته قبل عشرين سنة يا سيدتي لما أنكرت منظره هذا الغريب حين أقبل فحيا ثم تقدم يسعى حتى إذا بلغ مكانه جلس كأنه الكثيب المنهال. فكان الناظر إليه يسأل نفسه لأول وهلة: أيرى إنساناً جالساً أم يرى كومة من الرمل قد استخفى فيها شخص ضئيل لا يكاد يظهر منه إلا تقاطيع وجهه ضئيلة غائرة لولا هذا الصوت الذي يخرج منها ضئيلاً نحيلاً، ولولا هذا الشر الذي يتطاير من عينين صغيرتين لا تفتح عنهما الجفون إلا في بطأ بطيء وثقل ثقيل كأنما يشد بخيط قد ركب في قفاه. وقام شخص من وراءه يجذبه متكلفاً بين حين وحين يمضي - الدكتور - في تصوير خصائص هذا - الثعلب - الجسمية والخلقية والعلمية بهذا الأسلوب الطيع الذي يشف عن معانيه. ويبرزها كما تبرز المرآة ما يتراءى على صفحتها من الوجوه والملامح. . . أرأيت جمال هذه الصورة التي صورها - للثعلب - في قصره. وضخامة جسمه؟ وما اظرف وأفكه تشبيهه بالبرمة الهائلة التي لم ترتفع في الطول ولكنها اتسعت عن يمين وشمال وامتدت من خلف وأمام. ثم يصوره جالساً بالكئيب. قد لا توافق الدكتور في هذا الرأي أو ذاك، ولكنك لا تستطيع أن تملك إعجابك به في العرض والتصوير والتحليل. هذا هو الجانب الفني في هذه الفصول الممتعة التي ينسقها في كتابه الجديد - جنة الحيوان -.

محمد عبد الحليم أبو زيد