مجلة الرسالة/العدد 873/عدو الشعب الجاشنكير

مجلة الرسالة/العدد 873/عدو الشعب الجاشنكير

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 03 - 1950



للأستاذ عطية الشيخ

تتمة

في قلعة الكرك:

وقف إعرابيان على باب قلعة الكرك واستأذنا في الدخول على الناصر ذاكرين أنهما من مصر. فلما مثلا بين يديه كشف ابن قراسنفر لثامه فعرفه السلطان وقال له: محمد؟ فقال لبيك يا مولانا السلطان، وقبل الأرض وقال لابد من الحلوة، فصرف السلطان من حوله، وآنئذ حدثه محمد باتفاق أبيه مع قبجق وأستدمر على مناصرته، وسلم إليه كتاباً من الثلاثة الموالين مضمونه لوم الملك على النزول عن العرش ووعده برجوع ملكه إليه، فلما قرأه قال يا محمد، ما لهم قدرة على ما اتفقوا عليه، فإن أمراء مصر والشام قد اتفقوا على سلطنة بيبرس، والشاعر يقول:

كن جريا إذا رأيت جباناً ... وجباناً إذا رأيت جريا

لا تقاتل بواحد أهل بيت ... فضعيفان يغلبان قويا

ولن يتم لنا الحال إلا بالحيلة وحسن التدبير والمداراة والصبر على الأمور، وأرسل مع ابن قراسنقر جواباً لأبيه نصه:

(بسم الله الرحمن الرحيم: حرس الله تعالى نعمة المقر العالي الأبوي الشمسي ومتعنا بطول حياته، فقد عملنا ما أشار به وما عول عليه. . . وهذا الأمر ما ينال بالعجلة. . . وإن حضر إليك من جهة المظفر أحد، وطلب منك اليمين فقدم النية أنك مجبور واحلف، ولا تقطع كتبك عني) وهكذا بدأ الناصر يتصل سراً بمن يستطيع إفساده من الأمراء وأعيان الدولة.

عقارب السعاية

وأخذت عقارب السعاية تعمل بين المظفر والناصر، توغر بطانة كل قلب صاحبها ليسرع إلى الوقيعة بالآخر، حتى بعث المظفر للناصر بالكرك يطلب ما عنده من الخيل والمماليك، ويهدده بالنفي إلى القسطنطينية إن لم يجب، فغضب الناصر غضباً شديداً وقال: (أنا خليت ملك مصر والشام لبيبرس، فما يكفيه حتى ضاقت عينه على فرس عندي ومملوك لي، ارجع إليه وقل له! (والله لئن لم يتركني، وإلا دخلت بلاد التتار وأعلمتهم أني تركت ملك أبي وأخي وملكي لمملوكي، وهو يتابعني ويطلب مني ما أخذته) فأغلظ له رسول بيبرس القول حتى اشتد غضب الناصر وصاح به، ويلك! وأمر أن يرمى من سور القلعة. ثم ثاب إلى رشده واكتفى بحبسه، ثم طرده ماشياً من الكرك، وقد استغل الناصر ما حدث لاستدرار عطف الناس فكتب إلى جميع الأمراء بالدولة المصرية وإلى النواب بالبلاد الشامية كتباً سيرها مع العربان يستنكر سلوك بيبرس معه، وفي آخر كل جواب (إما أن تردوه عني وإما أن أسير إلى بلاد التتار لاجئاً مستغيثاً).

بداية النهاية

كانت الأفكار مهيأة من قبل عند أمراء الشام بزعامة قراسنقر فكتبوا إلى الناصر بأنهم طوع أمره، أما أمراء مصر وقوادها فأخذوا يهربون إلى الكرك وينضمون إلى الناصر بمماليكهم وأموالهم وأسلحتهم، تاركين أولادهم بمصر، فبدأ الشك يساور بيبرس، وارتاب في جميع المماليك بسبب ذلك، وزاد الأمر حرجاً أن البرجية، وهم أعوان بيبرس استغلوا ظروفه الحرجة وأخذوا يظهرون جشعهم، ويطلبون ثمن إخلاصهم، ثم استبد الخوف بيبرس وارتاب في أخلص الناس إليه، وقبض على كثير من الأمراء والمماليك، وقطع رواتبهم وأرسل كتاباً شديد اللهجة إلى الملك الناصر ليعيد من هرب إلى مصر، وأغلظ فيه وأفحش على غير عادته، ولكنه الضعف دائماً، وحرج المركز، يسببان الشعور بالنقص، فيعوض الإنسان هذا الشعور، بالتكبر والتعالي مرة، ويبذىء الألفاظ مرة أخرى، وبالوعيد والتهديد آناً آخر، وقد أشارت بطانة الناصر عليه، أن يرد على بيبرس رداً ليناً إمعاناً في الخديعة، حتى يتم الاستعداد، وينفض عنه الجميع.

رد مخادع

كتب الناصر إلى بيبرس جواباً على طلبه من هرب من الأمراء هذا نصه: (المملوك محمد بن قلاوون يقبل اليد العالية المولوية السلطانية المظفرية أسبغ الله ظلها، ورفع قدرها ومحلها. . . لما علم المملوك بوصولهم أغلق باب القلعة وسيرت إليهم ألومهم على ما فعلوه. . . وعلمت أنهم إنما هربوا خوفاً على حياتهم، واستجاروا بالمملوك، والمملوك يستجير بظل الدولة المظفرية. . . والمملوك يسأل كريم العفو والصفح الجميل، والله تعالى قال في كتابه الكريم، وهو أصدق القائلين (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين).

عرش يتهاوى

وصل هذا الجواب للملك المظفر فاطمأن خاطره، واستنام إلى الخديعة، ولم يقرع له ناقوس الخطر إلا كتاب وصل إليه من الأفرم نائب دمشق بأن الناصر خرج من الكرك بقضه وقضيضه، وأن كل أمراء الشام قد انحازوا إليه بعساكرهم وأموالهم، وأن منابر الشام بدأت تدعو للناصر ومنعت اسم بيبرس من الخطبة، وشاع خبر خروجه في مصر، فازدادت حركة الهرب والانحياز إليه من المماليك والأمراء، ثم أخذ المظفر يرسل الجيش تلو الجيش لمحاربة الناصر فيفر الجنود والأمراء ويلتحقون بجيش الناصر في الشام.

يجني عليه اجتهاده

هال المظفر ما يدور حوله، وشعر بحرج مركزه فرأى تجديد البيعة لنفسه، واستدعى الخليفة، وحلف بين يديه الأمراء، واستكتبه عهداً جديداً ليتلى في المساجد على مسامع الشعب، ونسخة العهد: (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله وخليفة رسول الله أبي الربيع سليمان بن أحمد العباسي إلى أمراء المسلمين وجيوشها (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وإني رضيت لكم بعبد الله تعالى الملك المظفر ركن الدنيا نائباً عني لملك الديار المصرية والبلاد الشامية وأقمته مقام نفسي لدينه وكفاءته وأهليته، ورضيته للمؤمنين، وعزلت من كان قبله بعد علمي بنزوله عن الملك، ورأيت ذلك متعيناً علي، وحكمت بذلك الحكام الأربعة، واعلموا رحمكم الله أن الملك عقيم ليس بالوراثة لأحد خالف عن سالف ولا صاغر عن كابر، وقد استخرت الله تعالى ووليت عليكم الملك المظفر فمن أطاعه فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصى أبا القاسم ابن عمي . وبلغني أن الملك الناصر ابن السلطان الملك المنصور شق العصا على المسلمين، وفرق كلمتهم وشتت شملهم، وأطمع عدوهم فيهم، وعرض البلاد الشامية والمصرية لسبي الحريم والأولاد، وسفك الدماء وأنا خارج إليه ومحاربه إن استمر على ذلك. . .

وقد أوجبت عليكم يا معاشر المسلمين كافة الخروج تحت لوائي اللواء الشريف. . .

ولما قريء هذا العهد على منابر مساجد القاهرة وبلغ القارئ اسم الناصر صاحت العوام نصره الله نصره الله، ولما وصل إلى اسم الملك المظفر صاحوا لا لا، ما نريده، وقامت ضجة وحركة في القاهرة ومصر بسبب ذلك.

حتى ختنه وصديقه

كان بروغلي قائد قواد بيبرس وزوج ابنته لما رأى العسكر والقواد يفرون إلى الناصر طلب إلى المظفر أن يقود الجيش بنفسه فتعلل بيبرس بكراهيته للفتنة وسفك الدماء، واكتفى بتجديد البيعة وعهد الخليفة، فلم يرق ذلك في نظر بروغلي، وقال له على لسان الرسول (يا بارد الذقن هل بقي أحد يلتفت إلى الخليفة؟) ثم هرب مع جيشه وانضم للناصر وإذ ذاك سقط في يد المظفر وعلم بزوال ملكه، وظهر عليه اختلال الحال وأخذ خواصه يلومونه على أخطائه، ككل ملك يأفل نجمه فيكثر ناقدوه وتعد حسناته سيئات، وكان أكثر لومهم له في إبقائه سلار، وإغضائه الطرف عنه، مع أن جميع ما حصل من اختلال الدولة بسببه؛ فإنه لما فاتته السلطنة وقام بيبرس فيها حسده على ذلك، ودبر عليه، واشترك في إثارة الفتنة مع دسائس الناصر (وبيبرس في غفلة عنه فإنه كان سليم الباطن لا يظن أن صديقه يخونه).

ويل للمغلوب

بلغ من انحلال أمر بيبرس أن العوام كانوا يعلنون سبه في الشوارع، ويهتفون به تحت أسوار القلعة، فلم يجد بداً من أن يكتب للناصر بتنازله عن الملك وقال في كتبه (إن حبستني عددت ذلك خلوة، وإن نفيتني عددت ذلك سياحة، وإن قتلتني كان ذلك شهادة) ثم فكر في ترك القاهرة خلسة والسفر إلى أسوان للاحتماء ببلاد النوبة، لأنها من قديم مهرب لمن هوى نجمه من أمراء مصر وحكامها (فكأنما نودي في الناس بأنه خرج هارباً، فاجتمع العوام وعندما برز من باب الإسطبل صاحوا به وتبعوه ثم تجاوزا الحد في إهانته وشتمه بل أخذوا يقذفونه بالحجارة.

في ساعة العسرة

عز على مماليك بيبرس السبعمائة ما فعلته العامة بسيدهم فثارت ثائرتهم، وهموا بوضع السيف فيهم، ولكن بيبرس الذي لاقى ما لاقى في سبيل خدمة الشعب والمحافظة على ماله لم يقبل أن يسيء إلى أحد، ونهاهم عما هموا به، وطلب إليهم أن ينثروا ما معهم من الذهب على العامة لينشغلوا بجمعه عن السب والإهانة والجري وراء الركب، وقد نفذ مماليكه أمره، وأخرج كل منهم حفنة من الذهب ونثرها على الشعب، ولكن العامة لم تلتفت للذهب ووجدت في القسوة على هذا العزيز الذي ذل مغنماً أكبر من الذهب؛ وبذئ الألفاظ دائماً أشهى إلى نفوس العامة من كل طعام آخر، فاستمروا يعدون خلف الملك، وهم يسبون ويصيحون؛ ولما علم خطباء المساجد إلى الوجه القبلي أسقطوا اسمه من الخطبة، وأعلنوا على المنابر اسم الملك الناصر.

لعن الله الدنيا:

كان أتباع المظفر يتناقصون كلما أوغل في السير للجنوب وما وصل إلى إخميم حتى كان أكثر مماليكه قد فارقه، فانثنى عزمه عن الوصول إلى أسوان وعاد أدراجه في طريقه إلى السويس ليذهب منها إلى بلاد الشام. وأرسل السلطان في طلبه بعض الأمراء برياسة قراسنقر فأدركوه في غزة وأراد من بقي حوله من المماليك أن يدافعوا عنه ليخلص من الطلب فقال (أنا كنت ملكاً وحولي إضعافكم ولي عصبة كبيرة من الأمراء وما اخترت سفك الدماء) ومازال بهم حتى كفوا عن القتال وسلم نفسه لقراسنقر وكذلك سلم مماليكه السلاح. . . وفي طريق عودة الجميع إلى القاهرة لمقابلة الناصر قابل الركب في الخطارة بمديرية الشرقية رسول آخر من الملك، أنزل المظفر عن فرسه، وقيده بقيد أحضره معه فبكى وتحدرت دموعه، فشق ذلك على قراسنقر وقال: لعن الله الدنيا! يا ليتنا متنا وما رأينا هذا اليوم! ورمي قلنسوته على الأرض من شدة الألم، مع أن قراسنقر كان أكبر الساعين ضد المظفر والعاملين على زوال ملكه. وبلغ الناصر ما أظهره قراسنقر من العاطفة نحو بيبرس فطلبه ليقتله، ولم يجد مجالاً للخلاص إلا الهرب إلى بلاد الشام. وليت شعري كيف يعاقب الإنسان على عاطفة أثارتها حوادث دامية يتفتت لها الجلمود الأصم.

محاكمة:

مثل المظفر بين يدي السلطان، وقبل الأرض فعنفه الناصر، وأخذ يعدد ذنوبه على مسامعه ويقول: (تذكر وقد رددت شفاعتي في حق فلان، واستدعيت نفقة في يوم كذا فمنعتها، وطلبت مرة حلوى بلوز وسكر فمنعتني، ويلك! وزدت في أمري حتى منعتني شهوة نفسي) فلما فرغ كلام السلطان قال المظفر: وإيش يقول المملوك لأستاذه؟ فقال السلطان: أنا اليوم أستاذك وبالأمس طلبت إوزاً مشوياً، فقلت إيش يعمل بالإوز؟ أيأكل عشرين مرة في النهار ثم طلب السلطان وتراً ليخنق به بيبرس أمامه فالتمس المظفر وضوءاً ليتوضأ، ثم خنق المظفر حتى كاد يتلف، ثم ترك حتى فاق وأخذ الملك يعنفه ويزيد في شتمه، وكرر الخنق والإفاقة والتعنيف حتى مات المظفر تحت العذاب فأنزل إلى الإسطبل على درابزين وغسل وكفن ودفن خلف قلعة الجبل وأخفى قبره، وكذلك مثل الملك بابنته وزوجه وصادر أموالهما وحتى جواهرهما بتحريض بطانته، وعلى قمة هذه المأساة وقف الشاعر يقول:

تثني عطف مصر حين وافى ... قدوم الناصر الملك الخبير

فذل الجشنكير بلا لقاء ... وأمسى وهو ذو جأش نكير

إذا لم تعضد الأقدار شخصاً ... فأول ما يراع من النصير

عطية الشيخ

مفتش المعارف بالمنيا