مجلة الرسالة/العدد 873/في تقسيم النفس
مجلة الرسالة/العدد 873/في تقسيم النفس
التوافق الفكري
بين سيجموند فرويد والغزالي
للأستاذ نور الدين رضا الواعظ
قد يبدو غريباً إذا قلنا، إن التقسيم الثلاثي الجديد للجهاز النفسي من قبل العلامة فرويد لم يكن حدثاً جديداً، ولا إبداعاً علمياً، لأنه سبق أن تطرق إليه العلامة الغزالي فعندما نقول هذا القول لا يعني أننا نمقت فرويداً ونتعصب للغزالي، أو نريد أن نحط من قيمة فرويد العلمية حتى نرفع من شأن الغزالي لأن كلاً من العلامتين في غنى عن المدح والقدح. ولكننا نريد أن نبحث عن الحقيقة أينما وجدت ونتخذ (خذ الحكمة ولا يضرك من أي وعاء خرجت) لأن التفكير العلمي يقتضي التجرد عن التزمت، والابتعاد عن التعصب، وإلا اختل (التوازن العلمي) الذي يجب السير بهداه، أثناء البحث والتنقيب عن الحقائق العلمية. . .
وعناصر التقسيم الثلاثي لجهاز النفس عند فرويد هي:
1 - ألهو - وهو ذلك الجانب من النفس الذي يسود فيه مبدأ اللذة. . . بمعنى أن فيه كل الغرائز الفطرية والميول والنزعات الأولية (أو الحيوانية) التي ورثها الإنسان من حياته البدائية ومستقر هذه النزعات هو اللاشعور. وأساسها (الغريزة الجنسية) بمعناها الواسع التي (تشمل كل ما يهدف إلى اللذة في الكائن الحي).
(وألهو في بحثه عن اللذة يخبط خبط عشواء لا يعرف المنطق ولا التبصر ولا وزن الأمور، وإنما هو يندفع في قوة وعنف لإرضاء دوافعه وإشباعها لا يرعى حرمة ولا يكف لحظة).
2 - الأنا. هو الجانب الشعوري من النفس، وهو يدين بمبدأ الواقع، ويتكون من تحول جزء من (ألهو) نتيجة الاتصال بالحياة الخارجية، أي أن هنالك (عملية تفاعلية بين مبدأ اللذة المتمثل في ألهو. . ومبدأ الواقع المتمثل في الأنا، تنتهي بتكوين الأنا تدريجياً). والأنا يقوم بأعماله وفق المنطق والعقل، خلافاً لما عليه (ألهو). ويتأمل في عواقب الأمور ونتائجها، ويزنها بميزان الدافع. . والأنا يطابق ما يسمى بالنفس أو الذات الشعورية). الأنا الأعلى. وهو بمثابة المرشد للنفس ينصحها ويهديها سبيل الرشاد، ويساعد الأنا في صراعه مع ألهو، وينهال عليه بموج من الترغيب والترهيب، ليصمد أمام نداءات (ألهو) الشهوانية، ويردها على أعقابها. والأنا الأعلى يتكون من الدوافع الدينية الموروثة، والتعاليم الأخلاقية، وعن العادات المشتقة من الأبوين، والمربين وعن أوامرهم ونواهيهم.
فيظهر من كل هذا إن الأنا هو الجزء المعذب من النفس لأن كلاً من ألهو والأنا الأعلى يضغطان عليه، هذا بطلباته الشهوانية الهمجية، وذاك بطلباته المثالية الرفيعة. ومن الطبيعي أن الأنا يقف حائراً بين هذه الأصوات المرعبة التي تزن في أذنه فلا يؤمل له الفلاح إلا إذا تمكن من إيجاد توازن في نفسه بين هذه الدوافع والأصوات. . فإن لم يجد توازناً بين هذه الدوافع، فإن العاقبة ستكون وخيمة عليه.
وعناصر النفس عند الغزالي ثلاثة كذلك: ولكن يجب أن نصرح، أن جوهر التقسيم مختلف بينه وبين فرويد. . وهي:
1 - الأمارة بالسوء من النفس: ويراد بها ذلك القسم من النفس (الجامع لقوة الغضب والشهوة في الإنسان) والتي (تركث الاعتراض وأذعنت وأطاعت لمقتضى الشهوات ودواعي الشيطان وهي مذمومة غاية الذم. . . لا يتصور رجوعها إلى الله تعالى فأنها مبعدة عن الله، وهي من حزب الشيطان، وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء).
2 - اللوامة من النفس:
ويراد بها ذلك القسم من النفس الذي (لم يتم سكونه، ولكنه صار مدافعاً للنفس الشهوانية ومعترضاً عليها، لأنه يلوم صاحبه عند تقصيره في عبادة مولاه) والنفس اللوامة محمودة (لأنها نفس الإنسان أي ذاته وحقيقته العالمة بالله تعالى وسائر المعلومات).
3 - المطمئنة من النفس:
(وهي التي سكنت تحت الأمر وزايلها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات) وهي لطيفة ربانية روحانية. وهي المدركة من الإنسان، والمخاطبة؛ والمعاتبة، والمعاقبة والمطالبة. جريانها في البدن وفيضانها فيه، يضاهي فيضان النور من السراج الذي يدار في زوايا البيت، فإنه لا ينتهي إلى جزء من البيت إلا ويستنير به.
ولإيضاح علاقة هذه الأقسام الثلاثة من النفس ببعضها، يورد الإمام الغزالي عدة أمثلة، نقتبس منها مثالاً واحداً. . . نوضح به العلاقة القائمة بين هذه الأقسام من النفس:
(إن مثل نفس الإنسان أعني النفس اللطيفة - أو (الأنا) على حد تعبير فرويد - كمثل ملك في مدينته ومملكته، لأن البدن مملكة النفس وعالمها ومستقرها؛ وجوارحها وقواها بمنزلة الصناع والعمال، والقوة العقلية - أي النفس المطمئنة (أو الأنا الأعلى) على حد تعبير فرويد. . . له كالمشير الناصح والوزير العاقل. . والشهوة. . أي النفس الأمارة بالسوء أو (ألهو) على حد تعبير فرويد. . كالعبد السوء يجلب الطعام والميرة إلى المدينة.
والغضب والحمية له كصاحب الشرطة. والعبد السوء (ألهو) الجالب للميرة، كذاب خداع خبيث يتمثل بصورة الناصح، وتحت نصحه الشر الهائل والسم القاتل، وديدته وعادته منازعة الوزير الناصح (أي الأنا الأعلى) في آرائه وتدبيراته، حتى أنه لا يخلو من منازعته ومعارضته ساعة. كما أن الملك في مملكته إذا كان مستغنياً في تدبيراته بوزيره ومستشيراً له ومعرضاً عن إشارة العبد الخبيث مستدلاً بإشارته، على أن الصواب في نقيض رأيه حتى يكون العبد مسوساً لا سائساً ومأموراً مديراً لا أميراً مديراً استقام أمر بلده وانتظم العدل بسببه.
كذلك النفس متى استعانت بالقوة العقلية المدركة (المطمئنة) أو (الأنا الأعلى) وأدبت حمية الغضب وسلطتها على الشهوة، واستعانت بإحداهما على الأخرى. . تارة بأن تقلل مرتبة الغضب وغلوائه بمخالفة الشهوة واستدراجها، وتارة يقمع الشهوة وقهرها بتسليط الغضب والحمية عليها وتقبيح مقتضياتها، اعتدلت قواها وحسنت أخلاقها، ومن عدل عن هذه الطريقة، كان كمن قال الله تعالى فيه (أرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم).
فلست أدري، بعد هذا. . هل أنا مصيب في قولي إن الغزالي قد تطرق إلى التقسيم الثلاثي للنفس قبل أن يتطرق إليه فرويد أم لا؟!
نور الدين رضا الواعظ
كلية الحقوق. بغداد