مجلة الرسالة/العدد 873/من أدب الشباب

مجلة الرسالة/العدد 873/من أدب الشباب

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 03 - 1950



خذلان

يا صديقي العزيز:

لشد ما أتألم حين أتصور وجهك الهادئ المنبسط تغضنه يد الألم،

وروحك الوادعة الساكنة تعصف بها نوبة من الشجي المرير وأنت

تقرأ هذه الخطاب!. . . ولشد ما يزداد ألمي حين أذكر إنني كاتب هنا

السطور وباعث هانه الآلام!!

أنا يا عزيزي ذلك الإنسان الذي كان يحشد لك في رسائله كل رائع وجميل، ويقطف البسمات من ثغور الناس ليحيلها إلى كلمات تبعث المسرة في نفسك، وتوقظ النشوة في عواطفك، وتحمل إليك من معرض السعادة أجمل الصور وأنضر الألوان!!

ولكن الذي يشجعني أيها العزيز أن ما أذكره الآن حقائق لها في دنيا الشعور صيد كبير، وما أجدرنا أن نحترمها مهما كانت قاسية!!

يا صديقي العزيز ما أظن أن فترة في تاريخ صداقتنا الغالية تظفر منك بالاهتمام والتقدير مثل تلك الفترة التي كنا نعمل فيها جادين لدخول مسابقة أدبية عقدتها إحدى الهيئات الثقافية بالقاهرة!

لقد كنا إذ ذاك في لغة الطبيعة نسرين لا ينظران غير الأفق، ولا يجيدان سوى التحليق؛ وفي لغة الصداقة قلبين عرف الحب فيهما نعمة الخلود، وعرف الوفاء بهما نعمة البقاء. وكنا كما شاءت لنا أحلام الشباب، وما أروع ما تشاء تلك الأحلام وتريد!

وما أظن أن يوماً في تلك الفترة ترعاه ذكراك مثل ذلك اليوم الذي كنا نتسابق فيه إلى بائع الصحف لنقرأ رأي لجنة التحكيم في نتاجنا الأدبي الباكر!

لقد تخاطفنا الجريدة إذ ذاك من يد البائع وراحت نظراتنا تنهب صفحاتها في سباق جنوني. . . وتحت عنوان خاص تلاقت نظرتان: أما نظرتك فقد استحالت إلى إطار من الأمل المشرق يضم في حناياه ذلك الاسم المحبوب الذي يزهو في قائمة الفائزين؛ وأما نظرتي فقد ارتدت مذعورة لتدفن أساها في فيض من الدموع. . الدموع التي أرسلها قلبي لتنو عنه في مأتم الخذلان!!

آه يا صديقي لقد جفت دموعي إذ ذاك والتفت إليك وعلى ثغري ابتسامة قلقة هي أشبه ما تكون بممثل يصعد خشبة المسرح لأول مرة!! ورحت أشد على يدك في حرارة بل، وامتد ثغري إلى جبينك يترجم التهنئة إلى لغة القبلات!

آه يا صديقي لقد عدت أنت إلى منزلك لتضيف إلى أمجادك صفحة ناصعة، وانزويت أنا في منزلي أتلمس معاني الخذلان في هذا الوجود!!

النجوم تتراءى أمام عيني وكأنها تستعطف الليل أن يسدل عليها أستار الغيوم. . أجل فلاشك أنها تستشعر الخذلان أمام هذا البدر المشرق الذي لا يفتأ يزهو عليها بأضوائه الألاقة الزاهية.

ولكن ألا يجوز أن يكون هذا البدر هو الآخر مخذولاً ينشر العزاء في رحاب الليل، وأن تكون تلك النجوم دموعه الحارة الذليلة! أجل فلاشك أنه يستشعر الهوان إلى جانب الشمس تلك التي لا تزال تميس بأنوارها كلما أقبل النهار. . أيها الليل إنني أنا الآخر مخذول! ألا يوجد لديك مكان يسعني لأذرف فيه دموعي!!

تلك يا صديقي هي الخواطر التي كنت أتقلب على لظاها في ذلك المساء القلق حتى حمل إلي البريد صباح ذلك خطاباً منك كان ولاشك أثراً من آثار تلك الأحلام التي أغفت أفكارنا الشابة في رحابها الرخية الوارفة!! وها أنت ذا تقول في خطابك: (الآن يا صديقي آمنت أن الصداقة تفعل المستحيل. إنها السائل العجيب الذي يستحيل فيه الصديقان إلى إنسان واحد، وتستحيل فيه آمالهم الرحيبة إلى أمل واحد! أجل يا أخي لا تتردد في قبول ذلك الرأي فأنت أول دليل ألتمسه له. ألم أفز أنا وتخفق أنت في مسابقة واحدة، وبالرغم من ذلك كنت أحس النشوة الغامرة ترعش أناملك وأنت تشد على يدي والفرحة، الفائرة تلهب شفتيك وأنت تقبل جبيني. . لقد كنت أود أن أشكرك أيها العزيز ولكني سوف أشكر الصداقة - الصداقة التي تفعل المستحيل!!).

وهنا يا عزيزي أيحزنني أن أقول لك أن هذه الحرارة التي تحدثت عنها لم تكن إلا حرارة القلب الذي يحترق، وأن هذه الرعشة لم تكن إلا رعشة الطائر الذبيح، وأن اسمك الكريم، أسمك الذي كنت أهتف به حين أراك مثلما يهتف العاشق بأغنية كانت ترددها حبيبته. .

اسمك هذا لم يكن ثقيلاً على نفسي مثلما كان ذلك اليوم. لقد خيل إلي أنه اغتصب ذلك المكان الذي كنت أهيئه لاسمي أنا وتربع فيه ولكن على أنقاض أمل نضير!!

أنا أحبك يا صديقي؛ هذا لاشك فيه، ولكني قبل ذلك أحب نفسي تلك هي الحقيقة التي ضلت طريقها إلى قلوبنا وتركتها تعبد الوهم في دير الأحلام!

حسب الصداقة يا أخي أنها أحالت ذلك الشعور بالخذلان، ذلك الشعور الذي يلون الوجود بألوان المقت والكراهية حسبها، أنه تحيله إلى بسمات لا يفيدنا أن تكون مسرحية؛ فالواقع يا صديقي أن العالم مسرح كبير!

المنصورة

محمد أبو المعاطي أبو النجا