مجلة الرسالة/العدد 874/صور من الشعر الحديث في العراق

مجلة الرسالة/العدد 874/صور من الشعر الحديث في العراق

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 04 - 1950



للأستاذ إبراهيم الوائلي

الرصافي

لا نستطيع أن ننكر ما للرصافي من أثر كبير في نهضة الشعر الحديثة في العراق وما لصوته من الصدى المدوي في دنيا العرب، فقد حمل قيثارة الشعر يداعب أوتارها المتنوعة ويرتل عليها أنغامه المختلفة هاتفاً بمجد أمته منادياً بوحدتها واستقلالها داعياً لتخفيف آلام الإنسانية المعذبة الحائرة في بيداء الحياة.

كانت أنغام الرصافي تنبعث من أعماق القلب حيناً ومن آفاق العقل حيناً آخر؛ فهو حين يندمج بالحياة الاجتماعية ويواكبها في ساعات الألم ولحظات الهدوء ويستوحي عاطفته وإحساسه فتستجيب له العاطفة ويواتيه الإحساس فيترجم تلك الانفعالات نغماً حزيناً باكياً ولحناً مرح المقاطع هادئ النبرات، وحين يخلو إلى الطبيعة في عزلة من صخب المجتمع وضوضاء البشر يستلهم عقله وتفكيره ويعرج إلى آفاق السماء فيصف الكون وما فيه من صور وأعاجيب ونجوم وأفلاك، ويهبط إلى الطبيعة من حوله فيتحسس جمالها ومنابعها وما فيها من فنون وروعة ويتمتم ويتغنى ويفصح عن خلجات وجدانه بما يواتيه من تعبير وأداء.

كان الرصافي عاطفياً حساساً حين ينظم في السياسة والاجتماع، وحين يتغزل ويمدح أو حين تصفو له الأجواء لحظة من لحظات العمر. وكان وجدانياً حين يصف الطبيعة وما فيها من مباهج وصور ومنابت وأطيار وجداول ومروج، أو حين يصف حريقاً أو مخترعاً جديداً. وكان فيلسوفاً حين يتجرد إلى عقله وتأملاته الكونية، ولكنه في الثانية والثالثة يخاتل حياته ويخالس طبيعته فلم يؤلف من وصفه وفلسفته ما يناهض تيار العاطفة وتموجات الإحساس فقد خلق الرصافي عاطفي النبع يتحدث إلى قلبه ويتحدث قلبه إلى موسيقاه ومن ثم تعبر هذه الموسيقى عن خواطر وأحاسيس تمثل روح الشاعر وقلبه وما في هذه الروح وهذا القلب من صور حية نابضة بالحركة والألوان.

ويجب أن نحدد مسارب هذه العاطفة عند الشاعر ونسير معها إلى ينبوعها الأكبر لنضيق دائرة البحث في مركز واحد.

إن عاطفة الرصافي تستمد صورها من السياسة والاجتماع والغزل والمدح وما يشبه هذه الألوان. ولكن الينبوع الأكبر لعاطفة الشاعر هو السياسة والمجتمع إذ فيهما تبدو هذه العاطفة جلية واضحة وتكثر صورها الشعرية. أما موطن هذه العاطفة في أكبر ينابيعها فهو ذلك القلب الذي تفتح في دنيا كثيرة الصخب قائمة لآفاق عارمة الزوابع، دنيا تعبث بها سياسة قاسية هوجاء ومسلطون جائرون فلا عدل ولا إصلاح ولا علم ولا حرية؛ فقر وحرمان، وظلم واستهتار، وخضوع وذل، ووشاية ورشوة، وسجون ومعاقل، وشباب يقدمون قرابين على مذابح الشهوات، وسياط تتخضب بدماء المتون والظهور في المدن والقرى، وطبقات لا يؤلف بينها منهج ولا نظام. تلك هي دنيا العراق حين أطل عليها الرصافي فكان من البديهي أن يتأثر ذلك القلب ويتألم ويعبر عن تأثره وألمه بعد أن اكتملت الأداة عند صاحبه وطاوعته الموسيقى اللفظية أحسن مطاوعة. وهكذا ثار الرصافي وندد بالسلطان والولاة ووصف السجون وما فيها من ظلام وتعذيب، ودافع عن المرأة والعامل والفلاح.

وإذ نحن بصدد البحث هنا في شعر الرصافي الذي نظمه أيام الاستبداد العثماني وحين عودة الدستور فلا يسعنا إلا أن نقصر البحث على ما نحن بصدده تاركين الألوان الأخر إلى فرصة ثانية.

لاشك أن الرصافي مر في أدوار عدة من تاريخه السياسي أو مرت به أدوار سياسية متعددة مختلفة فقد نشأ النشأة الأولى في بغداد وهو محدود الفكر ضيق الشعور لا يعبر إلا عما تقع عليه عينه في بغداد وما حواليها ولا يتأثر إلا بما يسمع من الأحاديث ويقرأ من الصحف والمجلات وهي قليلة في ذلك الوقت. ثم طاف بالبلاد العربية وبخاصة سوريا وفلسطين، وسافر إلى تركيا وشاهد مواطن البذخ والترف على البسفور والدردنيل فأثرت في نفسه تلك الفوارق الاجتماعية بين رعايا مغرقين في تيار الذل والحرمان وبين أسياد يعيشون في أبراج الذهب والحرير، بين رعايا مكبلين بالحديد والأغلال وحكام تتمرغ أنوفهم بعطر الحياة وتدوس أقدامهم أشلاء العبيد الصاغرين فإذا الرصافي يثور على الظلم والاستبداد، وإذا بهذه العاطفة التي كانت حبيسة في أفق ضيق محدود قد تغيرت وتبلورت بهذا الأفق الرحب ومشت في ركاب الحياة الواقعية الصريحة تندد بالخليفة الجائر والولاة المستبدين وتنفخ روح الثورة في الجماهير المظلومة الصاغرة. ثم جاء دور الأحرار ودعاة الدستور فاتصل بهم الرصافي وشاركهم في شعورهم وأيدهم في مواقفهم حتى إذا أعيد الدستور تلقاه فرحاً مستبشراً وحياه بأكثر من قصيدة ومجد زعماءه وأنصاره. حتى إذا كانت نهاية الأتراك على يد الاحتلال الإنكليزي في الحرب العالمية الأولى أخذت عاطفة الرصافي تموج وتضطرب وتثور ولا تستقر لأنها أحست بلفحة النار تسري في الوطن العراقي الجريح، وتتمشى في الأفق العربي الداكن، وتتمدد في البلاد الإسلامية المنكوبة؛ فمن حق الرصافي أن يثور ويضطرب حين وجد الحياة داكنة مدلهمة تعصف بها الزوابع والأعاصير من كل جانب وتعبث بها السياسة العثمانية الجائرة. ومن حق الرصافي أن يهدأ ويطمئن حين عاد الدستور فعادت الحرية إلى طلابها وشداتها. ومن حقه أن يعود إلى ثورته وجيشانه حين جاء الإنجليز فاتحين مستعمرين وظلوا فاتحين مستعمرين يعدون ولا يفون، ويأخذون ولا يعطون، ويشاركون في كل رأي ويتدخلون في كل أمر وفي كل مرفق. فكان بديهيا أن يقف الرصافي منهم موقف الساخط الثائر، وكان بديهيا أن يحن إلى الأتراك وقد ذاق حلوهم كما ذاق مرهم ولم يجد من الإنجليز ما ينسيه عهدهم. وهذا هو السر الذي جعل الرصافي يعيش أواخر عمره وقد سدت عليه منافذ الحياة وضاقت دونه مسارب العيش إلى أن ودع الحياة بين خصوم يتهمونه بالنزعة التركية والتمرد على بعض العادات، وبين أصدقاء معجبين فهموا شعره وقدروا فيه عاطفة الشاعر العميق الإحساس الذي يملي أفكاره ونزعاته ولا تملي عليه الأفكار والنزعات.

إن خصوم الرصافي يأخذون عليه تودده للأتراك في بعض المناسبات ومدحه لبعض ملوكهم وولاتهم ودفاعه عنهم في بعض حروبهم، وبكاءه عليهم حين تقلص ظلهم من العراق إلى جانب ثورته عليهم. ثم مواقفه التي لا ترضي بعض الحكام في تاريخ العراق الجديد وقد فات هؤلاء الخصوم أن عاطفة الشاعر - كأي شاعر أصيل النبع - لا يمكن أن تستقر على حال أو تجنح إلى شاطئ واحد بل هي متنقلة متحولة من الشمس إلى الظل ومن الجبال إلى السهول كالطائر الذي لا تسع جناحيه الآفاق ولا يستقيم له وكر.

إن الشاعر العاطفي الحساس قد ينظر إلى الحياة والأشخاص وما حوله من الصور والألوان نظرة تختلف عن غيره من سائر الناس فقد يحس باللذة في موطن الألم، وبالجمال في موطن القبح، وبالصخب في مجال الهدوء، وقد تنعكس هذه الصور عنده وما عليه إذا غضب الناس أو رضوا مادام يعيش في عالمه ويستجيب لقلبه وعاطفته. وبمثل هذا الرأي نستطيع أن ندافع عن الرصافي في مواقفه التي كبرت على خصومه وظنوا أن بها استخفافاً ببعض المظاهر الاجتماعية وخروجاً على بعض التقاليد ناسين أن الشاعر الذي يستوحي خلجات نفسه وهواجس قلبه لا يقيم وزناً لمذهب (بلوتارك) الذي يريد من الشاعر أن يكون أخلاقياً فحسب!!. وليس الرصافي واعظاً على منبر أو خطيباً في مسجد. وحتى الوعاظ والخطباء قد يكون لهم من اللحظات ما يشعرون فيه بوجود آخر غير وجودهم الديني فكيف الشعراء؟

وإذا كان لابد من الدفاع المادي عن مواقف الرصافي السياسية التي أغضبت بعض الناس فأن الدراسة التحليلية لشعره كفيلة باستجلاء الحقيقة لأن شعره يدل على أنه لم يكن ليستجيب للأفراد على حساب الجماعات أو يرضخ للتنويم المغناطيسي يفعل به ما يشاء فجميع مواقفه التي فسرها الخصوم تفسيراً سطحياً لها ما يبررها وليس فيها ما يؤيد دعم هؤلاء الخصوم كما سيأتي، ولو أراد الرصافي لنفسه موقف المصانع الموارب - أن في عهد الأتراك أو عهد الإنجليز - لكانت حياته المادية غير التي قضاها.

يضاف إلى هذا أنه لم يكن وحده مؤيداً لسياسة الأتراك - وهي سياسة في مجال الدستور - بل شاركه في مجال التأييد الزهاوي والكاظمي وشوقي وحافظ وغيرهم حتى بلغ من تأييد حافظ للأتراك تهجمه على الثائرين في الحجاز على الدولة العثمانية.

إن الرصافي قد أدى رسالة الشعر في حق الشعر. وأدى رسالة الشعر في حق العراق والبلاد العربية، وأدى هذه الرسالة في حق المسلمين والإنسانية عامة.

هذه كلمة موجزة عن حياة الرصافي السياسية كما وجدناها في شعره وفي الظروف والملابسات التي رافقها والأدوار التي اجتازها وقد وقفنا منه موقفاً يتردد بين التحليل والدفاع مستندين في ذلك إلى طبيعة الشعر وعنصره العاطفي وإلى السياسة التي كانت آنذاك في تبلبل واضطراب، وسنترك للنماذج التي سنختارها وندرسها تعزيز الرأي وإيضاح الدراسة مقتصرين من هذه النماذج على مرحلتي الاستبداد وعودة الدستور ثم ما قاله الشاعر في مدح الأتراك ومقدار صلة هذا المدح بالواقع الذي يبرره والظروف التي تحتمه.

للرصافي قصائد كثيرة في الثورة على الاستبداد العثماني وفي ثورته عنف وشدة. وقصيدته (إيقاظ الرقود) أبلغ دليل على هذه الثورة العنيفة فقد جاء فيها:

إلى كم أنت تهتف بالنشيد ... وقد أعياك إيقاظ الرقود

فلست وإن شددت عرا القصيد ... بمجد في نشيدك أو مفيد

لأن القوم في غي بعيد

إذا أيقظتهم زادوا رقادا ... وإن أنهضتهم قعدوا وئادا

فسبحان الذي خلق العبادا ... كان القوم قد خلقوا جمادا

وهل يخلوا الجماد من الجمود؟

هؤلاء هم قوم الرصافي وأبناء وطنه كما يراهم فهم لا يتنهون من غفلة ولا ينهضون بعد قعود ولا يثورون على حكومة جائرة عانية فهم كالجماد الذي لا يحس. ثم ينتقل إلى وصف هذه الحكومة وينذرها بعاقبة الظلم والجبروت:

حكومة شعبنا جارت وصارت ... علينا تستبد بما أشارت

فلا أحد دعته ولا استشارت ... وكل حكومة ظلمت وجارت

فبشرها بتمزيق الحدود

ويشير إلى أن هذا الجور والسكوت عليه لم يكن سببه إلا الجهل حتى أدى هذا الجهل إلى تحكم عبد الحميد:

سكنا من جهالتنا بقاعا ... يجور بها المؤمر ما استطاعا

فكدنا أن نموت بها ارتياعا ... وهبنا أمة هلكت ضياعا

تولى أمرها عبد الحميد

وهنا تشتد الثورة في نفس الشاعر وتطغي العاطفة الحانقة فيخاطب عبد الحميد بلهجة عنيفة:

أقول وليس بعض القول جدا ... لسلطان تجبر واستبدا

تعدى في الأمور وما استعدا: ... ألا يا أيها الملك المفدى

ومن لولاه لم يك في الوجود أنم عن أن تسوس الملك طرفا ... أقم ما تشتهي زمرا وعزفا

أطل نكر الرعية خل عرفا ... سم البلدان مهما شئت خسفا

وأرسل من تشاء إلى اللحود

تنعم في قصورك غير دار ... أعاش الناس أم هم في بوار

فانك لن تطالب باعتذار ... وهب أن الممالك في بوار

أليس بناء يلدز بالمشيد؟

للكلام بقية

إبراهيم الوائلي