مجلة الرسالة/العدد 880/الرافعي اللغوي

مجلة الرسالة/العدد 880/الرافعي اللغوي

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 05 - 1950



للأستاذ محمود أبو ريه

من المصادفات الطيبة أن تنشر هذه الكلمة في وقت الذكرى الثالثة عشرة لوفاة شيخنا الرافعي رحمه الله، ولا يسعنا بهذه المناسبة الكريمة إلا أن نبعث إلى روحه الظاهرة في فردوسها عند بارئها بأطيب التحية سائلين الله سبحانه أن يسيغ عليها من رحمته ورضوانه أنه سميع مجيب.

نشرت مجلة الرسالة الغراء كلمة للأستاذ محمود محمد بكر هلال بعنوان (تطور اللغة العربية) نقل فيها كلاماً لشيخنا الرافعي رحمه الله يشير فيه إلى مذهبه في الاجتهاد اللغوي، وقد رأينا أن نعزز هذا الكلام بأقوال أخرى لهذا الحجة الكبير تزيد مذهبه وضوحاً.

كان الرافعي رحمه الله إماماً في اللغة كما كان إماماً في الأدب. وقد وصل بهذه الإمامة إلى درجة الاجتهاد في اللغة لا يقلد أحداً ولا يتابع إنساناً.

قرأت له في أحد كتبه أنه نسب إلى (الأخلاق) فكتبت إليه أن النسبة - كما تقضي قواعد النحو - إنما تكون للمفرد لا إلى الجميع، فجاء منه خطاب مؤرخ أول يونيه سنة 1927 جاء فيه (ملاحظتك على النسبة إلى الأخلاق ليست في محلها، فإن النسبة حقيقة للمفرد ولكن في مثل هذه الكلمة يكون الأفصح أن ينسب إلى الجمع؛ لأنهذا الجمع أصبح كالحقيقة العرفية الدالة على مفرد؛ فالأخلاق علم معروف متميز بنفسه وبهذا صار كالحقيقة المفردة وكانت النسبة إلية أدل على المعنى المقصود، وتأتي الكلمة أبلغ، وتنزل من الأسلوب منزلة ترضي. والمدار عند العرب على الاستخفاف والاستثقال، فلو خالفوا القياس لهذه العلة لتكون الكلمة أخف وأفصح لكان ذلك وجهاً صحيحاً، فكيف وههنا الحقيقة العرفية التي ذكرتها لك)

واستعمل في كتاب أوراق الورد كلمة (أوحى لها) فكتبت إليه أن الأفصح كما جاء في القرآن الكريم أن فعل (أوحى) يتعدى (بالى) فجاء منه خطاب مؤرخ 14 ديسمبر سنة 1932 قال فيه (أما - أوحى لها - فهي بنصها كلمه شاعر أوراق الورد في مقالة له، فربما كان سبب وضعها هو تذكره وهي في موضعها أفصح من (إليها) كما يظهر لك من نطق الجملة من أولها مرة (بلها) ومرة (يا ليها) وأنا عادة أراعي موقع الح الأسلوب فإن كانت (اللام) أقوى استعملتها، وقد أراعي اعتبارات أخرى)

ولما ترجم لشوقي بك رحمه الله في المقتطف انتقد هذا البيت من شعر شوقي:

إن رأتني تميل عني كأن لم ... تك بيني وبينها أشياء

وكان نقده أن شوقي رفع جواب الشرط وأن صواب (تميل) (تمل) فرد عليه الأستاذ العقاد وقال، إن كتب النحو قد أجازت ذلك. ولما أطلع الرافعي رحمه الله علة هذا الرد بعث ألي بخطاب مؤرخ 21 ديسمبر سنة 1932 قال فيه:

(العقاد انتقد في المقتطف كلمة كنت خطأت فيها شوقي، وهي: جواب الشرط حين يكون فعل الشرط ماضياً، والنحاة جميعاً أجازوا هذا فأنتهزها العقاد، ولكن النحاة في رأيي مخطئون، وقد كتبت رداً طويلاً. . .)

وقد جاء في هذا الرد الذي نشر في المقتطف ما يلي:

(يشير الكاتب إلى القاعدة المذكورة في كل كتب النحو من أن الجواب يرفع أو يجزم إذا كان الشرط ماضياً لفظاً أو معنى، والجزم هو المختار عند قوم والرفع جائز، وعند قوم العكس وعند آخرين يجب الرفع. ولم يقل أحد من النحويين إنهما (على السواء)

ولكن مع ورود هذه القاعدة في كل كتب النحو لا يزال بيت شوقي عندنا غلطاً لأننا لسنا من (الذين يعرفون النحو) معرفة النقل في الكتب والتقيد بالرأي خطأ وصواباً، ولا هذا مذهبنا في الأدب ولا في اللغة، ولا نقلد أحداً ولا نتابع أحداً بل لأن يمر ما في الكتب من هذا الرأس بدياً فيجئ مجيئه الأول من ناحية أهله، ثم مجيئه الثاني من ناحيتنا، وسنعرض هنا كل أقوال النحاة في رفع جواب الشرط على نسق من القضايا ونعترضها بالنقد

(1) لا يمكن أن يجعل رفع الشرط في تلك الصورة قاعدة يقتاس بها إلا إذا سمع في الكلام المنثور دون المنظوم، إذ النظم محل الضرورة في أشياء كثيرة معروفة، أما النثر فهو على السعة ولا يجوز فيه إلا الجائز. فما هي الأمثلة التي نقلها النحاة عن العرب لتلك القاعدة، وعن أي القبائل سمعت؟ وهل هو السماع الذي يعضده القياس أم السماع الضعيف؟

(2) لم يزيدوا في كتبهم على أن قالوا إن ذلك مسموع ولميزد سيبويه في كتابه على هذه العبارة وفيه تقول (تأمل) إن أتيتني آتيك أي آتيك إن أتيتني قال زهير:

وأن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم فأنت ترى أن سيبويه يضع مثالاً ويأتي بالشاهد عليه من الشعر والشعر محل الضرائر يجوز فيه ما لا يجوز في الكلام ولا اضطرار في بيت شوقي، إذ يستطيع أن يقول: إن رأتني تصدعني. فلا شاهد في كلام سيبويه على رفع الجواب

(3) إن أداة الشرط تجزم فعلين، فإذا كان الجواب مرفوعاً قيل في إعرابه أنه فعل مضارع مرفوع في محل جزم، فإذا لم تكن ثم ضرورة من الوزن فما الذي يمنع الجزم أن يظهر على الجواب في كلام هو من لغة النهار والليل، وما علة تقدير الجزم ولماذا يقدر في مثل: إن زرتني أكرمك وأنت تستطيع أن تقول أكرمك؟

(4) من أجل هذه العلة يقول سيبويه ومن تبعه إن (أكرمك) في مثل هذه الصورة ليست هي الجواب بل الكلام على نية التقديم أي الأصل (أكرمك إن زرتني) فالجواب محذوف. وفي هذا الرأي (وهو أقوى الآراء وأسدها) لا يقال أن جواب الشرط مرفوع. ثم إن فرقاً في البلاغة بين قولك أكرمك إن زرتني وقولك إن زرتني أكرمك فلماذا يقلب سيبويه إحدى العبارتين إلى الأخرى على حين قائلها لم يرد إلا وجها بعينه. وما هي ضرورة التقديم ما دام الكلام على السعة؟

ومن أجل هذه العلة أيضاً يقول الكوفيون والبرد من البصريين أن (أكرمك) ليست هي الجواب والكلمة على تقدير الفاء؛ فالأصل إن زرتني فأكرمك؛ وبهذا يكون الجواب جملة اسمية. ولكن ما هي ضرورة حذف الفاء وتقديرها في وقت معاً والكلام ليس موزوناً يختل معه الوزن إن ذكرت الفاء، وقائلها لو أرادها لذكرها لأن الجملة من الكلام المبتذل الذي لا يراد منه شاهد في البلاغة؟ وهم قاسوا ذلك على مثل قوله تعالى: ومن كفر فأمتعه قليلاً. ومن عاد فينتقم الله منه. ومن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً. ولكنهم غفلوا عن سر هذه الفاء فقاسوا عليها ذلك أمثال المبتذل

(6) ويقول بعض من ذهبوا إلى أن سبب رفع الجواب تقدير الفاء إن هذه الفاء تقوم في إفادة الربط مقام الجواب. . . فيصح رفعه وترك جزمه استغناء عنه بالفاء. . . وهذا كما ترى من الخلط

(7) قال قوم من النحاة أن الكلام ليس على نية التقديم، ولا على تقدير الفاء ولكن لما لم يظهر لأداة الشرط تأثير في فعل الشرط لكونه ماضياً ضعف عن العمل في الجواب. وهذا على مذهب أن فعل الشرط هو الذي يجزم الجواب وهو غير الرأي الذي عليه التحقيق إذ يلزم أن يكون الجواب معمولاً لأداة الشرط لفظاً ولا تقديراً. والجزم وليس قوة ميكانيكية. . . بطل تأثيرها إذا انتهى إلى فاصل لا يتأثر بها فلا تتعدى إلى ما وراء هذا الفاصل. ثم أن فعل الشرط إذا كان مضارعاً مبنياً كان كالماضي في عدم ظهور الجزم فيه ومع ذلك لا يرفع الجواب بعده. فبطل هذا الرأي كله.

(8) إن القرآن الكريم وهو أفصح الكلام لم يأت في رفع الجواب مطلقاً بل جاء بالعكس في قوله تعالى: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها. وقوله تعالى من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها فيخلص من كل هذا أن أقوال النحاة ساقطة كلها وأن الأساس الذي ينبت عليه من السماع مجهول لم يأت به أحد وأنه لم يفرق لأحد منهم عن علة مقنعة في زعمهم رفع الجواب بل عارض بعضهم بعضاً، ومتى تعارضت الأقوال تساقطت. وأن الأصل الصحيح الذي بين أيدينا وهو القرآن الكريم ينكر هذه القاعدة فلم يأت بها ولا مرة واحدة وأتى بخلافها مراراً، فكيف يكون التأويل بعد هذا وما هو الوجه الصحيح وكيف يدفع السماع الذي نصوا عليه وكيف يكون الدفاع عن هؤلاء النحاة وهم قد عجزوا عن البرهان القاطع؟) آه

هذا قليل من كثير من آراء شيخنا الرافعي رحمه الله في الاجتهاد اللغوي نجتزئ به اليوم ولعل الله يعيننا على أن نأتي يوماً بكل آرائه وأن نحصى كل ما وصل إليه باجتهاده.

المنصورة محمود أبو ريه