مجلة الرسالة/العدد 880/العقل. . .
مجلة الرسالة/العدد 880/العقل. . .
للأستاذ محمد محمود زيتون
امتاز القرن السادس عشر بنزعة التحليل، ولعل (فرنسيس بيكون) كان حامل لوائها، فهو في القسم النقدي من (المنطق الحديد) يصف ما يسميه (أصنام العقل) وهي أغاليط تنتاب العقل وتحول بينه وبين الصواب ويسميها بيكون: أصنام الكهف، وأصنام السوق، وأصنام القبيلة، وأصنام المسرح. ولكي يكون العقل منتجاً لا بد من هدم هذه الأصنام.
وجاءت فلسفة ديكارت ثمرة طيبة لثورة بيكون، تأمل ديكارت في نفسه وفيما حوله، فشك في كل شيء طائعاً مختاراً حتى اهتدى إلى أول حقيقة هي (أنا أشك فأنا موجود) وعرف عن خاصية نفسه أنه (شئ يفكر) ورأى أن الناس سواء في (العقل) هو أعدل الأشياء توزيعاً بين الناس، ولكنهم متفاوتون في الوصول إلى الحقيقة لاختلاف مناهجهم، فاختط لنفسه (منهجاً لإحكام قيادة العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم) ولئن لم يصرح ديكارت بأن منهجه إنما قصد به القضاء على المنطق المدرسي العقيم إلا أنه ينم عن هذه النزعة الثائرة، واستفاد حقاً من المنطق المدرسي ومنطق بيكون والتحليل الهندسي جميعاً.
وعلى كل حال فإن منطق أرسطو، وأرجانوم بيكون ومنهج ديكارت كلها آلات تعصم مراعاتها من الوقوع في الخطأ والزلل. وهذا اتجاه فكري له أصالته في تاريخ العقل من غير شك.
وما كان ديكارت - وهو المفكر الجريء - بقادر على أن يهدم التراث الفكري دفعة واحدة، فقد اصطلحت عليه العوامل الدينية والواجبات المدنية والتكاليف الاجتماعية فلم يقدر على دحضها، وإن كان قد مسها مساً هيناً ليناً. وبحسب العقل عنده أن يكون قوة الحكم الصحيح أي القدرة على التمييز بين الخير والشر، والحق والباطل، والجميل والقبيح بشعور داخلي تلقائي مباشر. وأيا ما كان من سلوك ديكارت فإنه فوض كل تفسير إلى الله، وترجم بذلك عن روح مسيحي خالص.
ولقد سار على هذا النحو (بوسويه) فهو يقول: (الفهم حيث يبدع ويتداخل يسمى روحاً ومن حيث يحكم ويوجه نحو الحق والخير والجمال يسمى عقلاً أو ثم أن العقل حيث يجنبنا شر الإنسان الذي هو الخطيئة يسمى الضمير ويقول في نفس الكتاب (العقل هو الذي أعطانيه الله لهدايتي) وموضوع هذا العقل الحقائق الباقية، وهي في الله بل هي الله ذاته، ويذكر من هذه الحقائق الباقية: حقائق الرياضة وقوانين الحركة والأصول الأخلاقية. ويقول: إن هناك صلة وثيقة بين القانون والعقل ولا يمكن أن يوجد نظام بين الأشياء ما لم يكن في العقل هذا النظام الذي نستطيع أن نفهمه بالعقل فقط، وما القانون إلا سبيل العقل وموضوعه المباشر).
ويقول أيضاً (نحن نتلقى توا وعلى الدوام عقلاً هو أسمى منا كما نستنشق الهواء الذي هو غريب عنا) ويستطرد قائلاً (كل منا يحس في نفسه عقلاً محدوداً ومتغيراً، وهو لا يصحح خطأه إلا إذ اتصل بعقل أسمى كلى لا يتغير. أين هذا العقل السامي؟ هو الله الذي أبحث عنه، هو ذلك الموجود الكامل كمالاً لا نهائياً يتمثل في نفسي مباشرة عندما أدركه، وذاته هي الفكرة التي لدي عنه)
وقد تأثر (فينيلون) (بوسويه) عن (وجود الله) وصبغ نظريته صبغة صوفية مثالية، وبوسويه وفينيلون وملبرانش متفقون على أن كل صلة بين العقل والحق الخالد هي صلة مباشرة بين العقل الإنساني والله. وليس يهمنا هنا ما كان بينهم من تعاوت تفريعي غير أن ملبرانش أنكر كل ما سوى الله، وكأنه يقول بلسان عربي قويم (ألا كل شئ ما خلا الله باطل)، فالله وحده هو الذي ندركه مباشرة وهو مصدر الحقيقة، ومحل المعاني، وحينما نفكر بوضوح وجلاء أو بلغة ملبرانش حينما (نصلي صلاة طبيعية) نكون في الله ونراه. فيه انطوى العالم المعقول.
ويقسم (سبينوازا) إلى أنواع أربعة: سمعية، وتجريبية، وحدسية، وعقلية. والمعرفة العقلية هي المعرفة الحقة لأنها لا تعتمد على الأفكار العامة، وإنما تعتمد على خواص مشتركة يمكن تجريدها من كل تجربة حسية كالامتداد والشكل والحركة. ووظيفة العقل هي أن يعمل على ربط الأشياء بهذه العناصر المعقولة، والعقل كان تحت تأثير الحس والتخيل، إن كان يولد حركة الطبيعة من الفكر الإلهي الذي عنه يصدر كل شئ.
وحين يعترف (ليبنتز) الفطرية يستلزم التجربة قبل أن يصل ما لدينا بالقوة إلى الفعل، أي بأسبقية التجربة الحسية على التعقل.
أما (لوك) عارض مذهب المعاني الفطرية، وانعكس على نفسه، وبالقياس التمثيلي انتهى إلى فكرة عقل خالق، وبتوسيع معاني القوة، والدوام والعلم والقدرة إلى ما لا نهاية ننتهي إلى تكوين فكرة عن الله. العقل عنده هو ملكة التجريد التي ليست للحيوان. وأوضح ما نستدل به على معنى العقل عند (لوك) قوله (إن القوة التي تكتشف الوسائل وتطبقها على صواب لكي تكتشف الحقيقة في إحداها، والاحتمال في الأخرى، تلك القوة هي ما يسمى: العقل
ويضع للعقل أربعة درجات:
الدرجة الأولى وهي أرقاها: اكتشاف الحقائق.
الدرجة الثانية: تميل إلى ترتيب هذه الحقائق ترتيباً منهجياً لتحقيق قوتها والصلة فيما بينها وإدراكها في وضوح ويسر.
الدرجة الثالثة: إدراك هذه الصلة.
الدرجة الرابعة: عمل النتيجة الصحيحة.
وهذه الدرجات كما يقول (لوك) يمكن مشاهدتها في البرهان الرياضي، ثم هو يجعل الأشياء بالنسبة للعقل ثلاثة: -
1 - أشياء وفق العقل: كالقضايا التي نكتشف صدقها باختيارنا وبتتبع الأفكار التي لدينا عن الحس والتفكير، وبالاستذلال الطبيعي تكون إما حقيقية أو محتملة.
2 - أشياء فوق العقل: وهي القضايا التي صدقها أو إمكانها لا نستطيع استنتاجه من هذه المبادئ.
3 - أشياء ضد العقل: وهي القضايا التي تتنافى مع أفكارنا الواضحة. وعليه يكون وجود إله وفق العقل، ووجود أكثر من إله ضد العقل، وبعث الموتى فوق العقل.
وقد عنى (هيوم) الإنسانية، وعالج الشك واليقين، وأنكر العلية التي ليست في نظره عادة عقلية، وبذلك تبنى الحركة الإلحادية بطريق فلسفي سيكولوجي.
أما (كانت) أيقظه (هيوم) من سباته، فكان أول ناقد منظم للعقل، يقول (أقصد بالعقل كل ملكة سامية للمعرفة.) والعقل النظري والعملي عنده هو (صورة العمومية) أما الفهم ينتج عن الأول باتصال هذه الصورة بالمكان والزمان والحدس الحسي.
وللعقل خاصية اللانهائي، وللحدس خاصية النهائي، وبذا يميز بين العقل والفهم تفرقة هي عمود المذهب العقلي عند كل من (كانت) و (هيجل).
وكما أن العقل هو القوة السامية التي تؤلف بين المدركات الذهنية، كذلك الفهم يؤلف بين العناصر الحسية، وهو يعرف العقل في مواضع مختلفة من (نقد العقل النظري) بأنه القدرة على التفكير وبأنه القدرة على الحكم. العقل إذن هو قوة المطلق الذي لا يتقيد بزمان ولا مكان ولا إنسان ولا فلك. أما صلة العقل، ولا نبحث في الأشياء عن قوانين العقل.
ولقد وجد كل من فخت نقد (كانت) وفلسفته إلى القول بالأنا المطلق أنكروا الأشياء ما داموا لا يعرفون عنها شيئاً. الأنا المطلق هذا هو مصدر اليقين، والعقل بالتجريد يحصل على الشعور بالأنا المطلق باعتباره الحقيقة الوحيدة ومبدأ المبادئ. وزاد (شلنج) بألا فرق بين الشيء والشخص ولا بد بين المعرفة والوجود، كل شيء متضمن في العقل متحد بالمطلق ذاته، ومنه يستنبط كل شيء، وظيفة العقل هي العلم المطلق، وقال (التفلسف في الطبيعة هو خلق الطبيعة)
ويقول (هيجل) بأن مقولات الفهم تتناقض إذا ما أريد تسويتها بالعقل، فإذا تغير الفهم كان للعقل أن يحدد اتجاه هذه التغيرات كما يحدد التغيرات التي في قواعد الأخلاق، ثم هو لا فرق عنده بين الميتافيزيقا والمنطق، بين الواقع والمعقول
ويقول (فيكتور كوزان) كتابه (الحق والجمال والخير) ما يأتي (نحن نتوصل إلى حكم خلو من أي استدلال وإلى بداهة مباشرة هي البنت الشرعية لقوة الفكر الفطرية كإلهام الشاعر، وبراعة البطل. . . وما الاستدلال إلا مسرح للمعارك يسببها العقل بالشك والسفسطة والخطأ. . . ولكن فوق التفكير علم من النور والسلام، فيه يدرك العقل الحقيقة من غير أن يدور حول نفسه، وبهذا وحده تكون الحقيقة حقيقة، وذلكلأن الله قد خلق العقل لندرك به كما خلق العين للنظر، والأذن للسمع). والعقل عنده تلقائي وغير شخصي، وإذا كان قوة فردية كان حراً كالإرادة، أو متغيراً ونسبياً كالحواس، وما العقل التلقائي إلا الإلهام.
أما (رافيسون) وحد بين العقل والشعور، بين مبادئ المعرفة ومبادئ الوجود، وجعل للشعور قوة ميتافيزيقية بينما سبقه (مير دي بيران) أن الشعور يعطينا معنى السبب الذي يصير مبدأ للسببية.
ويعرف (كوليردج) بأنه (قوة اليقينيات الكلية الضرورية، ومصدر وجوهر الحقائق التي هي أسمى من الحس بعد حصولها على الجلاء فيما بينها).
أما (برجسون) ميز بين العقل والغريزة وافترض تشابها بين الغريزة والحدس، هذا الحدس غريزة مفكرة إذ يقول: (إن الحدس يقودنا إلى صميم الحياة نفسها، وأقصد بذلك أن الغريزة وقد أصبحت مفكرة ومنفعلة قادرة على الانعكاس على موضوعه وتوسيعه إلى غير حد)
وبرجسون في معالجة السيكولوجية للجهد العقلي قد فتح باباً جديداً لمعرفة خصائص العقل عن طريق الكشف عن وظائفه.
وثمت مدرسة الأمريكان أصحاب (البرجماترم الذين رفضوا العقل كوسيلة للحقائق، وكأداة للمعرفة، رفض (هربرت سبنسر كل فكرة ليس لها صورة حسية فأنكر الحرية والاختيار كمعان عقلية، وجاء (برس) ورفض كل فكرة غير صالحة للعمل، وما الفكرة عنده إلا مشروع لعمل وليست في ذاتها حقيقة، ثم زاد عليه (وليم جيمس) بأن كل عقيدة تؤدي إلى نتيجة مرضية فهي مقبولة وتوسع في دائرة النتيجة الحسنة فأتخذ من العقل وسيلة للمحافظة على الحياة أولاً، وتنميتها واطرادها ثانياً وإذا بالإنجليزي (شيلر) يتخذ من الإنسانية مقياساً لصحة الفكرة.
هذه لمحة خاطفة طرقنا بها أبواب المدارس الفلسفية، ومنها تبين لنا أن صرخة سقراط لم تذهب مع الريح، بل وجدت أصداءها بين الفلاسفة في شتى العصور، ولكل وجهة هوموليها
أما رجال الدين، فالعقل عندهم وسيلة لمعرفة الله، التي (بالعقل تحصل وبالسمع تجب). وما كان رجال الدين ليرفعوا من قيمة العقل حتى يطغي على الوحي الذي هو مصدر العلم اللدنى. ومعنى العقل بوجه عام هو مجموع الملكات الروحية من فكر وعاطفة وإرادة، ففي القرآن الكريم: العقل والقلب مترادفان، وقد ورد في الإسلام أن العقل حجة الله على عباده، ودل القرآن على أن هذا العقل أمانة عرضها الله سبحانه على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً. هذه الأمانة هي العقل، وكل أمانة لا شك عبء لا يتحملها إلا كل نبيل، وإن كان في تحملها ظلم لنفسه، وجهل بما قدر له الحجاب. . .
ولا قيمة للعقل عند المتصوفين عامة، لأنه وسيلة العوام، أما خير وسيلة فهي الحدس والكشف، فلا بد من رياضة النفس وأخذها بالمجاهدة والتجرد حتى تتصل بالمنبع الأصلي وهو الله.
سئل (ذو النون المصري) كيف عرفت ربك؟ فقال (عرفت ربي بربي، ولولا ربي ما عرفت ربي) وقال (أبو الحارث المحاسبي) في كتابه المخطوط (مائية العقل ومعناه واختلاف الناس فيه) ما نصه (إن العقل عند الله تعالى لا غاية له لأنه لا غاية لله عز وجل عند العاقل بالتحديد بالإحاطة بالعلم بحقائق صفاته ولا بعظيم بقدر ثوابه ولا عقابه)
وثمت جانب هام في التصوف هو اعتبار النفس الإنسانية سراً وكل سر لا سبيل إلى معرفته أو التعريف به إلا باللغز، ومن هنا كانت الكتب الرمزية مثل (حي بن يقظان) لابن طفيل و (سلمان وأبساله) التي ترجمها عن اليونانية (حنين بن إسحاق) ورسالتا (الطير) لابن سينا والغزالي، و (غربة الغربية) للسهروردي، ولقد امتزج في هذه الرمزيات العقل والروح والعمل والوحد.
والأخلاقيون اعتمدوا على معرفة النفس وقواها في كسب الفضيلة وهجر الرذيلة، واتخذوا من العقل مقياساً للأحكام الخلقية، ورتبوا عليها الأوامر والنواهي. ويعتبر (كانت) أول عالم أخلاقي صميم في تمييزه بين الأحكام المعللة، والأحكام المطلقة التي لا تتعلق بقوالب الزمان والمكان، وإنما هي من شأن العقل المطلق، ولا شك في أن هذه نزعة مثالية إلى أبعد حد مردها الأخير إلى العقل لأنه وسيلة الحكم على السلوك بالخير والشر والقبح والجمال.
ورجال الاجتماع فطنوا إلى وجود روح هي نتيجة تفاعل الأفراد والجماعات؛ وهذه الروح خاصيتها أنها ملكة التقويم الاجتماعي وتسمى في عرفهم (العقل الجماعي
وزعيم هذه الفكرة (دور كيم) صاحب المدرسة الاجتماعية الفرنسية الحديثة.
ورجال السياسة نظروا إلى الحاكم نظرتين مختلفتين: الذكاء والدهاء. فافترض بعضهم في الحاكم أن يكون ذكي القلب حسن التدبير، بصيراً بالأمور النظرية والعملية وافترض البعض الآخر أن يكون الحاكم داهية مراوغاً مصانعاً غير عابئ بالأوضاع المرسومة إذ الغاية تبرر الواسطة، هذه هي السياسة الميكافيلية المعروفة في كتابه (الأمير)
ومن فلاسفة الاجتماع السياسي (منتسيكو) الذي كاد يتفق مع ابن خلدون على وجوب اشتقاق القوانين من (روح القوانين) وهو ما قال بهأيضاً (جوستاف ليبون).
وثمت مدرسة تعاونت على تفهم العقل كملكة إنسانية لها قيمتها. فاستعانوا بالتشريح على هذه الغاية فعرف البيولوجيون الجهاز العصبي في نشوئه وارتقائه، ووقفوا على تكامله الداخلي والخارجي، وتتبعوا الأمخاخ في كل الفصائل الحيوانية حتى عرفوا مراكز المخ، وبذلك ساعدوا رجال علم النفس على رد أنواع السلوك إلى مراكز كانت من قبل وهماً وضرباً من التخمين. غير أن علماء النفس لم يهتموا بالعقل إلا على أنه ملكة الإدراك العام، ودرسوه باسم أما الفيزيقيون فقد استقرءوا الظواهر وتوصلوا إلى قوانين ضرورية ثابتة هي غاية ما يطمح إليه العقل البشري، وهم بوسائلهم المعروفة في النظر والتجريد والاستدلال أعانوا على كشف الحياة والسيطرة عليها؛ غير أنهم لا ينكرون الفكرة السعيدة التي تأتي الواحد منهم في ساعة التجلي والتجرد فيلهم الجواب على المشكلة التي طالما عصر من أجلها ذهنه، كما أتاحت لنيوتن فرصة كشف قوانين الجاذبية، وكما اكتشف أرخميدس قانون الضغط إذ هو في الحمام.
أما أهل الفن فقد نظروا إلى الناحية الوجدانية من النفس الإنسانية دون الجوانب الأخرى فعبروا عن أصداء الحياة في النفس تعبيرات شتى بالتصوير والنحت والنقش والموسيقى والغناء والشعر. وكل واحد يتمنى لو طار بجناحين إلى ذلك الوادي الذي يومض إليه من حين إلى آخر بومضات ينفذ إليها الخيال مسترقاً ما يستطيع من روائع الفن وآيات الجمال.
وبعد: فهل للعقل وجود حقيقي؟ لا شك أني موجود، ولاشك أيضاًفي أني أعرف أني موجود. وهل معرفة من غير عقل؟ قد يقال إن الحيوان يعرف أنه موجود، فهل معنى ذلك أنه ذو عقل؟ نقول: لو ظل الإنسان كالحيوان في مجرد معرفته الواهمة - كما قول ابن سينا - لما زاد عليه شيئاً. وإنما الإنسان يعرف ويعرف أنه يعرف، ولا كذلك الحيوان.
ولكن إذ نحاول معرفة هذا العقل نحن نرجع إلى العقل. أليس في ذلك دور كما يقول المناطقة: نريد أن نعرف ما لا نعرف بهذا الذي لا نعرف. نحن إذن واهمون في هذه الحياة، وكل ما لدينا من معرفة هو أننا واثقون من هذا الذي نحن فيه واهمون.
ومع هذا فإن العقل يدعى معرفة الحياة وما وراءها ويدعي الحرية والطلاقة، أليس في هذا مرة أخرى دليل على أن العقل كلما ازداد وثوقاً بنفسه ازداد وهما لو كان لدينا محك للنظر لاستطعنا التخلص من هذا الوهم، ولكن شاء العقل أن يتوهم من نفسه مقياساً على نفسه. ولو أن الغزالي عرف سبب حيرته ما بقى في حيرة كما يقول في (المنقذ من الضلال) ولكن يجب على العقل أن يعرف حدود نطاقه فلا يتعداها، وما أشبه العقل - كما يقول ابن خلدون - بميزان الذهب في دقته، فهل من العقل أن يتخذ هذا الميزان المرهف الحساس في وزن الجبال؟ كذلك يجب ألا يتطال العقل على الآفاق الإلهية فيدعى معرفتها ويقتحمها في ادعاء صارخ.
اصطحب موسى الخضر فعلمه ثلاثاً هي في حدود العقل مرذولة ولكنها في علم الله غير ذلك، وحسب الإنسان (ترضية فكرية) تطمئنه في عجاج الحياة، فلئن هفاً إلى ما فوق الحياة فلن يكون كموسى عليه السلام إذا تجلى ربه للجبل فحر موسى صعقاً.
محمد محمود زيتون