مجلة الرسالة/العدد 880/(كذلك) في القرآن الكريم
مجلة الرسالة/العدد 880/(كذلك) في القرآن الكريم
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
وردت (كذلك) في القرآن الكريم، في أكثر من مائة موضع. ولوجود الكاف، وهي للتشبيه، فيها ظن كثير من العلماء أنها لا تكون إلا للتشبيه ومضى في كل آية ورد فيها هذا التعبير، يبين التشبيه في الجملة، وفي كثير من الأحيان لا يبدو معنى التشبيه واضحاً، فيلتمس مقوماته، ويتكلف تفسيره تكلفاً. يوحي بضآلة هذا التشبيه، وأنه لم يزد المعنى جلاء، وهو الغرض الأول من التشبيه.
وقد تتبعت هذه العبارة فيما وردت فيه من الآيات، فوجدتها أكثر ما تأتي لمعان ثلاثة:
أولها التشبيه، وذلك عندما يراد عقد الصلة بين أمرين ولمح ما بينهما من ارتباط، وهنا يؤدي التشبيه رسالته في إيضاح المعنى وتوطيده في النفس، تجد ذلك في قوله تعالى: (وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت، فأنزلنا به الماء، فأخرجنا به من كل الثمرات، كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون)؛ فالصلة وثيقة بين بعث الحياة في الموتى، وبين بعث الحياة فيالأرض الميتة، فتنبت من كل الثمرات. وإن فيما نراه بأعيننا من هذه الظاهرة الطبيعية التي نشاهدها في كل حين، إذ نرى أرضا ميتة لا حياة فيها، ثم لا يلبث السحاب الثقال أن يفرغ عليها مطره، فلا تلبث أن تزدهر، وتخرج من كل زوج بهيج - إن في ذلك لما يبعث في النفس الاطمئنان إلى فكرة البعث، والإيمان بها، فلا جرم انعقد التشبيه بين البعثين، وزاد التشبيه الفكرة جلاء.
واقرأ قوله تعالى: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الحنة، إذ أقسموا ليصر منها مصبحين، ولا يستثنون، فطاف عليها طائف من ربك، فأصبحت كالصريم، فتنادوا مصبحين، أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين، فانطلقوا وهم يتخافتون، ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين، وغدوا على حرد قادرين، فلما رأوها قالوا: إنا لضالون، بل نحن محرومون، قال أوسطهم: ألم أقل لكم لولا تسبحون، قالوا: سبحان ربنا، إنا كنا ظالمين، فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون، قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين، عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها إنا إلى ربنا راغبون، كذلك العذاب، ولعذاب الآخرة أكبر، لو كانوا يعلمون)، أرأيت أصحاب هذه الجنة وقد أقسموا أن يستأثروا بثمر جنتهم، وأن يجنوا ثمارها مبكرين في الصباح، ولم يد بخلدهم الاستعانة بالله في عملهم، وبينما هم يستعجلون قدوم الصباح، ويحلمون بالثروة التي ستدرها عليهم حديقتهم، طاف على تلك الجنة طائف أباد ثمرها وهم نائمون، وفي بكرة الصباح أسرع بعضهم ينادي بعضاً أن الخير في البكور، فانطلقوا لا تكاد تسمع لأقدامهم وقعاً، يتهامسون وهم يتحدثون، كي لا يسمع مسكين صوتهم فيتبعهم، ولقد وصلوا إلى حديقتهم، واطمأنوا إلى أنهم سيقدرون على إحراز غلنهم. ومنع المساكين منها، فما راعهم إلا أن وجدوا أشجارهم بلا ثمار، وجنتهم جرداء مقفرة؛ هنالك ملأ الندم قلوبهم، وأخذ بعضهم يلوم بعضا، يتحسرون على أمل قد ضاع، وعلى ما اقترفوه من ظلم وطغيان. أرأيت هذا العذاب الذي صار إليه القوم، عذاب من فقد أمله، وقد كان قريباً من يده، وعذاب من يؤنبه ضميره على جرم اقترفه، وقد رأى جزاءه أمام عينيه. ألا ترى أن هذا العذاب النفسي الأليم جدير بأن يكون مثالاً ينذر به الله كل من يتصرف تصرف أصحاب هذه الجنة.
وهي أيضاً للتشبيه في قوله سبحانه: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً؛ تبتغون عرض الحياة الدنيا، كذلك كنتم من قبل، فمن الله عليكم، فتبينوا)، وقوله تعالى: قالوا: بل وجدنا آباؤنا كذلك يفعلون (وما على نسق هذه الآيات، مما تعقد فيه الكاف صلة بين أمرين.
وتأتي كاف (كذلك) في كثير من الآيات بمعنى مثل، في قولك: مثلك لا يكذب، تريد: أنت لا تكذب، وفائدة مجيء مثل الإشارة إلى أن من له صفاتك لا يليق به أن يكذب. تجد ذلك في مثل قوله تعالى: (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، وتثبيتاً من أنفسهم، كمثل جنة بربوة، أصابها وابل، فآتت أكلها ضعفين، فإن لم يصبها وابل فطل، والله بما تعملون بصير، أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب، تجرى من تحتها الأنهار، وله فيها من كل الثمرات، وأصابه الكبر، وله ذرية ضعفاء، فأصابها إعصار فيه نار، فاحترقت؛ كذلك يبين الله لكم الآيات، لعلكم تتفكرون)، فالمعنى على أن الله يبين الآيات، ذلك البيان الجلي الواضح المؤثر، لعله يثمر ثمرته، فيدعو سامعيه إلى التفكير والتدبير، ذلك هو ما أفهمه من هذا التعبير، ولا أفهم أنه يريد أن يبين آيات غير هذه الآيات، بياناً يشبه بيان الآيات السالفة، وإذا أنت حاولت عقد التشبيه على حقيقته، رأيت فيه تفاهة وقلة غناء. وخذ قوله تعالى: (إن الذين كذبوا بآياتنا، واستكبروا عنها، لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، وكذلك نجزي المجرمين)، فليس المراد - على ما يظهر لي - أن المجرمين يجزون جزاء يشبه الجزاء المصوف في الآية الكريمة، وإنما يجزون هذا الجزاء نفسه ومن غلق أبواب السماء في وجوههم وأنهم لا يدخلون الجنة أبداً. واقرأ قوله تعالى: (تلك القرى نقص عليك من أبنائها، ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل، كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين)، تر المراد أن الله يطبع على قلوب الكافرين، ذلك الطبع الذي يحول بينهم وبين الإيمان بما كذبوا من قبل. وإذا أنت حاولت عقد تشبيه، لم تجد فيه كبير غناء، إذ يصير المعنى، يطبع الله على قلوب الكافرين طبعاً يشبه طبعه على قلوب الكافرين وفي ذلك ما فيه من ضياع قيمة التشبيه.
فمن هذا يبدو أن التشبيه في هذه الآيات وأمثالها غير ملحوظ، وإنما يراد توجيه النظر إلى ما سبق هذه الأداة فحسب وتأتي الكاف حينئذ إشارة إلى أن ما ذكر في الآيات وأشير إليه، قد بلغ من الكمال مبلغا عظيما لدرجة أنه صار نموذجاً كاملاً، يمكن أن يتخذ مثالاً، يشبه به سواه، فقد أفادت الكاف بلوغ المعنى تمامه.
وتأتي (كذلك) أيضاً لتحقيق المعنى وتثبيته، ولا يبدو فيها التشبيه، كما تجد ذلك في قوله تعالى: (قالت: أنى يكون لي غلام، ولم يمسسني بشر، ولم أك بغياً، قال: كذلك، قال ربك هو على هين، ولنجعله آية للناس، ورحمة منا، وكان أمراً مقضياً).
ومحاولة خلق تشبيه من هذه العبارات لا يؤدي إلا إلى التكلف والتفاهة معاً. ويقدر بعض العلماء في مثل هذا التركيب أن كذلك خبر لمبتدأ محذوف تقديره الأمر كذلك، ونحن نوافق على هذا التقدير وليس في كذلك تشبيه هنا، وإنما المراد: الأمر هو ما أخبرت به لا ريب فيه، ومن (كذلك) هذه التي للتحقيق والتوكيد، تولدت كلمة (كده) في اللغة العامية للدلالة على التحقيق أيضاً، ونحن نستخدمها في ذلك المعنى عندما نقول: الحق كذلك، تريد الحق والصواب هو ذلك، ولعل السر في المجيء بكاف التشبيه هنا هو بيان تمام المطابقة بين الحقيقة الخارجية والحقيقة الكلامية، أي أن ما يكون في الواقع يطابق ما دل عليه الكلام.
تفيد (كذلك) التحقيق إذا كونت هي ومبتدؤها جملة مستقلة كما في الآيتين السالفتين وما على شاكلتهما. وتفيد التحقيق وتأكيد الجملة في غير هذا الموضع أيضاً، ويكثر ذلك عندما يليها فعل ماض، كما في قوله تعالى: أو من كان ميتا فأحييناه، وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها، كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون، وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميناً، ليمكروا فيها؛ وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون)؛ فلا تجد للتشبيه موضعاً في هذه الآية، وإذا أنت حاولته وجدته لا يعي في التصوير شيئاً، (وكذلك) هنا تؤدي معنى (قد) ولها أمثلة كثيرة في القرآن، كقوله تعالى: فذلكم الله ربكم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال، فأنى تصرفون. كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون)، وقوله تعالى: ثم ننجى رسلنا والذين آمنوا كذلك حقاً علينا ننجي المؤمنين)،: (وقوله تعالى: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب، كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك)، وربما جاءت إفادتها للتحقيق من كثرة مجيئها لبيان التطابق فتنوسى ذلك التطابق، واستعملت في لازم معناها الأصلي الذي تنوسى.
واستعمال (كذلك) للتحقيق والتوكيد، لا يقل عن استخدامها في التشبيه، وكثير من المفسرين يتكلف جعلها في تلك المواضع أيضاً للتشبيه، فيتمحل، ويمضي في تأويلات لا نصيب لها من البلاغة، وقوة الفن.
ومما ذكرناه يبدو أن تلك العبارة لا تقف عند حد الشبيه، بل لها هذه المعاني الثلاثة التي شرحناها.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم