مجلة الرسالة/العدد 880/منزلة العبقرية الدينية بين العبقريات
مجلة الرسالة/العدد 880/منزلة العبقرية الدينية بين العبقريات
للأستاذ محمد خليفة التونسي
وإذا مضينا في اتخاذ المقياس السابق: وهو تمييز العبقرية بآثارها التي من شأنها أن تؤثرها في الناس سواء أظهرت هذه الآثار أملمتظهر فعلاً - لكي نميز بين عباقرة العقائد - لوجب أن نضع في الصف الأول عباقرة العقائد الدينية وهم الأنبياء، لأن آثارهم في المجتمع وصلاتهم به من الوجوه الستة التي فصلناها قبل أوضح وأعمق وأشيع مما هي عند غيرهم من عباقرة العقائد. وفوق ذلك فإن وضع امتيازهم يختلف عن وضع غيرهم من العباقرة:
1 - فالنبي حين يعلم الناس عقيدته الدينية، ويفجر في نفوسهم بواعث الإيمان بالروابط التي تربطهم بالكون وما وراءه، فتتفجر معها كل البواعث في بنية النفس الإنسانية - يبدو كأنه روح جبار تجسد لتخليص أرواح الناس من ضعف البشرية المطبق عليهم، ويظهرون هم بإيمانهم كأنهم مردة ولدوا ولادة جديدة، وهذا التغير الشامل لا تحققه إلا العقيدة الدينية.
2 - والملكات الأزمة للدخول في العقيدة الدينية هي الملكات النفسية المفرطة في العادية، وليست كذلك الملكات اللازمة مثلاً لقبول العقائد الفنية أو الفلسفية أو الصوفية ونحوها، ومن ثم كان من شأن العقيدة الدينية أن تلقى من الرواج بين النفوس أكثر مما يلقى غيرها، وكانت العقائد الدينية موجهة إلى الكافة لا إلى طبقة ولا فئة خاصة، لأنها في مداخلها البسيطة إنما هي دعوة إلى تسليم وسلوك بسيطين، لا عويص فيهما على العقول، ولا مشقة فيهما على النفوس، وبخاصة إن كانت الدعوة إليها في بدء أمرها على يد عبقريها الأول الذي جاء بها، فهو يملك من أمرها ويملك من صياغتها في الصورة المناسبة للطبائع والقوى والأموال ما لا يملك القائمون بها بعده، كما أنه يفهم الطبائع والقوى والأموال خيراً مما يفهمها القائمون بها بعده. فهذه فروق ثلاثة بين حال المؤسس وحال التابعين ينبغي الالتفات إليها هنا. ولكن ليس معنى أن مداخلها بسيطة، وأنها دعوة إلى تسليم وسلوك بسيطين، وأنه لا عويص في فهمها ولا إحساس يثقل في حمل تبعاتها، وأنها موجهة إلى الكافة - أنها لا تصلح للممتازين، فإن من وراء مداخلها البسيطة آفاقاً سامية من الشعور والذوق والفكر لا يعيها إلا الممتازون، وفيها لهم شاغل ورضاً.
3 - والداخل في العقيدة الدينية يرى نفسه صورة مصغرة من النبي له كل حقوقه وعليه كل واجباته، غير دعوى النبوة، وخليفة الله في أرضه بين عباده ينطق لهم بلسانه ويبلغهم رسالاته وفي ذلك ما فيه من عزاء لنفسه مهما تكن مواهبه تافهة، وإرضاء لكبريائه، وإشباع لغروره ورضاه عن نفسه، فهو يشعر بأنه ند فيها وفي امتيازاتها والتعصب لها والغيرة عليها، والدعوة إليها لأعظم المنتسبين إليها حتى النبي، وله بعد ذلك مكافأتها في الدنيا، وثوابها في الأخرى، وليس ثواب أعظم من الثواب الموعود به في العقائد الدينية ولا سيما الثواب الأخروى.
4 - وإذا كان صاحب العقيدة بعامة لا يشعر ولا يفكر ولا يعمل في معزل عن الجماعة، ولو كان خالياً بنفسه، وفي ذلك ما فيه مما وضحناه قبل، فصاحب العقيدة الدينية بخاصة إنما يشعر ويفكر ويعمل وهو على أوثق الصلات بالجماعة وبالكون كله وبما وراء الكون أيضاً، فالداخل في العقيدة الدينية يشعر ويفكر ويعمل وهو مستند إلى الله، مراقب له، مطمئن إليه، منفذ لأمره، مهتد بهديه، مستغرق في حبه، فإن فيه. هذا إلى صلاته القوية بالمجتمع الذي يظهر فيه، ونظرته إليه نظرة شاملة، وإحساسه به إحساساً عاماً. والعقيدة الدينية تربط الجماعة أقوى مما تربطها عقيدة أخرى، وتشعر الإنسان بروابط أقوى وأكثر مما تشعره عقيدة أخرى، ومن ثم كان صاحب العقيدة الدينية أشد شجاعة واطمئنانا وأعظم استعداداً للبذل والمفاداة، وأصبر على احتمال المشقات، وأدق فهما لغايته منهجه من كل من عداه ولو كان من المعتنقين لعقيدة أخرى وطنية أو عنصرية أو سياسية ونحوها. فهو لا يحس بالوحشة ولا القلق ولا الضعف ولو تبرأ منه جسمه الذي يلبسه، أو قدم روحه فداء لعقيدته، فهو يستشهد وعلى فمه ابتسامة النصر، وفي قلبه فرحته.
5 - والنبي في وعيه البديهي للنفس الإنسانية خوافيها وظواهرها، وتقديره لكل شيء فيها قدره يبدو كأنه روح سرمدي وعي إبداع لله إياها، وتقديره أقدارها، ووعي إبداع الله الحياة كلها، وتقديره لكل شيء فيها قدره، فلا تخفى عليه خافية من جانب ولا وظيفة لجزء في النفس ولا الحياة، فلا جهل بشيء، ولا جهل بطاقته ولا بوسائل استثارته، ولا خطأ في تقدير حي ولا في التشريع له، ولا تضارب بين التنديرات والتشريعات المختلفة أشد الاختلاف. فالنبي - يشرع للنساء والأطفال وهو رجل، وللمستعبدين وهو حر، وللضعفاء وهو قوي، وللقاصرين وهو رشيد، ولكل الطوائف والمراتب الذين ليسوا من طائفته ولا مرتبته كأحسن ما يمكن أن يشرع هؤلاء المختلفون عنه لأنفسهم لو وكل إليهم التشريع لأنفسهم والتزموا ما يلتزم من الحزم والعزم والعدل والضبط والتوفيق بين وجهات النظر المختلفة لشتى الطوائف في شتى الدرجات. فهو إنسان كامل له أن يحس بكل ما يحس به كل إنسان وأن يفكر فيما يفكر فيه كل إنسان مهما اختلف عنه في خلقه وتفكيره وشعوره وطاقته على اختلاف الأزمنة والأمكنة.
6 - والنبي - في شخصيته القوية الشاملة وسيرته العالية وأقواله النابغة يبدو كأنه روح جبار تجسد ليطبع الناس على صورته طبعاً لا فكاك لهم منه، ويظل ماثلاً للناس حتى بعد موته كأنه خالد لا يموت، وكأن كل إنسان من أتباعه صورة مصغرة ناقصة له فيما يأخذ به نفسه في شخصيته وسيرته وأقواله وهو يحتذى نبيه سواء أكان بين الناسأم خالياً بنفسه، وكأنما النبي رقيب عليه ملازم له يحصي كل أعماله وأقواله ونياته.
وكأنما النبي فيما يكشف للناس بشخصيته وسيرته يكشف لهم من ناحيتين متقابلتين أوسع وأسمى ما يمكن أن تمتد إليه الإنسانية حتى تتصل بالسماء، وأضيق وأدنى ما يمكن أن تنكمش إليه حتى تتصل بالأرض، وفيه تنكشف لهم الصلة كلها من أقصى طرفها بين السماء والأرض، أو بين الله والإنسان وأمثاله من الأحياء. وبانكشاف هذين الجانبين ينداح الأمل من جانب أمام أصاغر الناس حتى لا يفقدوا ثقتهم بأنفسهم ولا ييأسوا من روح الله، كما يتقاصر الغرور والكبرياء من جانب أمام أعاظم الناس حتى لا تبلغ بهم الثقة بأنفسهم حد التأله وعدوان الحدود البشرية، والاستعلاء على غيرهم من البشر فيخسروا بذلك أنفسهم ويخسرهم المجتمع. فالنبي يحمي كل صغير من السقوط إلى حيث يتحطم، ويحمي كل عظيم من التحليق إلى حيث يضيع ويتبدد، كما تحفظ جاذبية كل كوكب ما عليه من أجسام.
7 - والامتياز مثار الحسد والحقد، ولا سيما الامتياز الذي يكون مرجعه اختلاف عنصر الممتاز عن غيره، فهو امتياز لا أمل فيه مثله مهما أسرف طالبه في الجد والمثابرة، لأن الامتياز لاختلاف العنصر موجب للغربة والبعد بين الممتاز وغيره فيما لا حيلة لهما فيه من الطبائع والأمزجة والمشاعر وغيرها مما لا يقبل التغيير.
وإذا كان امتياز الأنبياء من هذا القبيل الذي يستلزم بطبيعته إثارة أشد الحسد والحقد إلا أن وضع النبي يختلف عن وضع غيره من العباقرة
فالعباقرة مشغولون غالبا بإخراج آثار عبقرياتهم عن مزاحمة الناس على مناعم الحياة ولذائذ الدنيا. وما من عبقري شغله ما يشغل غير العباقرة وزين له كما زين لهم (حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث) لأنله في تحقيق رسالته المستمدة من عبقريته شاغلاً يستغرق كل اهتمامه أو يكاد، عن كل هذه المطامع العابرة التي تستغرق كل اهتمام من لم توكل إليهم رسالة من رسالة الغيب، وقد تذهل العبقري رسالته عن أموره الخاصة، فيزهد في كل ما في أيدي الناس مما لا يعنيهم غيره. وفي هذا الزهد ما يخفف حسد الناس وحقدهم على العباقرة، بما يتركون لهم من التفوق عليهم في الأمور التي تعنيهم، وعدم منازعتهم إياهم في ميادينهم التي تستلفت كل اهتمام، ولا حيلة لهم ولا مطمع في التبريز إلا فيها كجمع الأموال واقتناء العقار والقبول عند النساء وترف المعيشة وتحصيل العلوم ونحو ذلك مما يخرج عن نطاق الرسالة وليس ركناً فيها ولا شرطاً من شروطها، وقد ينزلون عن أملاكهم وسلطانهم، وفيها من كان ملكاً فعدل عن أن يسوس رعيته سياسة الملوك، وساسهم سياسة الأب أبنائه أو الأخ أخوته في تواضع وزهد ومحبة، وتمسك بنشر عقيدته كما يؤمن بها معرضاً بذلك ملكه ونفوذه الدنيوي للضياع فداء عقيدته.
ووضع النبي يختلف أمام الناس عن وضع غيره من العباقرة ولو كانوا من دعاة العقيدة من حيث حسد الناس إياه على ما يتمتع به من امتياز، لأن امتيازه بالنبوة - كما يفهم هو ويفهم من حوله ليس إلا منحة من الله لا فضل له فيها، وهو في غيرها - كما يفهم هو ويفهم الناس حوله - ليس إلا إنساناً مثلهم لا يميزه منهم فضل (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي) وفي ذلك ما فيه مما يهون أو يمحق حسد الناس إياه وحقدهم عليه في فضله عليهم بالنبوة.
هذا إلى أن النبي أزهد من كل من عداه من العباقرة في تلك المطامع التي أشرنا إليها قبل، فهو يعيش عيشة إزهاد المتقشفين في طعامه ولباسه ومركبه وأداته وسائر حاجات حياته اليومية، ويلزم أهل قرابته معيشة كمعيشته، مما لا يصبر عليه إلا (أولو العزم) ولو نشئوا على الترف والبذخ في قصور السيادة والإمارة وهو في سعة أفقه الروحي، ومعرفته البدهية للناس أكثر من معرفتهم أنفسهم، وعلمه بما ينطوون عليه من ضعف وسخافة وقصور، وحرصه المخلص على منفعتهم - إنما ينظر إليهم نظر الأب الكريم إلى أطفاله القاصرين لا إلى انداده الراشدين، ويعاملهم كما يعامل الأب أطفاله لا أنداده، فيتواضع لهم، ويرحمهم في ضعفهم وغرورهم ويتصاغر لهم وهو يشرف عليهم من عل دون أن يشعرهم إلا بأنه طفل مثلهم أو دونهم، ويفسح لهم إلى جانبه أوسع ما يمكن أن يفسح تشجيعاً لمواهبهم على الحرية والعمل، بينما هو يأخذ نفسه - إذا ضيق عليهم أو شدد - بأضيق وأشد مما يأخذهم به، بل هو يضيق على نفسه ويوسع عليهم، ويحمل نفسه عبئه وعبئهم، ويكون لهم ملجأ وسكناً في كل محنة، فيرون أنفسهم أكثر منه مغانم واقل مغارم، وأنعم حالاً وأهدأبالا مهما غلوا وأسرفوا على أنفسهم في التحنث والتعفف وفي ذلك ما يلطف نيران الحقد ويسكت شياطين الحسد والموجدة عليه فيما يمتاز به عليهم مهما يبلغ امتيازه من السمو والجلال.
وأقرب العباقرة إلى الأنبياء أشبههم به في هذه المزايا العالية التي تستغرق الإنسانية والحياة وتتطلع إلى ما وراء العالم المشهود طبيعة وعملاً.
ولا شئيفجر في النفس الإيمان الكامل الخالص إلا العبقرية لا سيما الدينية، ولا أحد يغدق عليه هذا الإيمان إلا العباقرة ولا سيما الدينيين.
الإنسانية بعباقرتها عالم سماوي جميل شريف خير حقيق بالحب والتقديس.
والإنسانية بغير عباقرتها عالم طيني كريه حقير لا يستحق إلا المقت والاحتقار.
ومزاولتنا الحياة في رعاية العبقرية لعب طليق تتفتح له الرغبات وتنشط به القوى، فيشتهى ويستزاد.
ومزاولتنا الحياة في غير رعايتها كدح ذليل في الأغلال يميت الرغبات، ويشل القوى، فيعاف ويستعجل الخلاص بالموت منه قبل الأوان.
محمد خليفة التونسي