مجلة الرسالة/العدد 880/لنكن قوة تفعل لا مادة تنفعل

مجلة الرسالة/العدد 880/لنكن قوة تفعل لا مادة تنفعل

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 05 - 1950



للدكتور محمد يوسف موسى

من الظواهر الاجتماعية التي تراها في كل عصر وبيئة. ظاهرة الفعل والانفعال، أو التأثير والتأثر، أو بكلمة واحدة ظاهرة التقليد، فانفعال الطفل بأبويه واخوته، وانفعال التلميذ بمعلمه، وانفعال المريد بشيخه؛ كل ذلك، وما منه بسبيل، مشاهد غير منكور

وإذا كان لكل ظاهرة سبب أو مجموعة أسباب، تظهر بظهورها وتذهب بذهابها، فإن سبب هذه الظاهرة مزيج من القوة أو التفوق من جانب، وضعف الإرادة أو الشخصية من جانب آخر وقد يضاف إلى هذا وذاك كسل العقل الذي يمنع من التفكير والاستقلال في الرأي.

على أنه قد يكون الشخص الواحد منفعلاً أو متأثراً في بعض ما يذهب إليه بآبائه والعلية من قومه المعاصرين له، وإن اعتقد مع هذا أنه من المستقلين في الفكر والرأي، ومن المحافظين على هذا الاستقلال والمعتزين به، وذلك واضح لا يحتاج لضرب الأمثال.

ومع هذا لا عاب في التأثر بالغير في فكرة من الفكر، أو مذهب من المذاهب، أو طريقة من طرائق الحياة. بل إن هذا قد يكون ضرورة أحياناً كثيرة، في حياة الفرد أو الجماعة، ضرورة يمليها الواقع وتفرضها الطبيعة.

يتأثر الطفل بأبويه، ثم يتأثر بلدانه، ثم يتأثر - متى صار تلميذاً - بمعلميه ويتخذ منهم مثله العليا. وهذا الضرب من الانفعال بالغير على هذا النحو، أمر لا بد منه ولا حيلة فيه. إنه ضروري ليصل الصغير إلى معرفة كثير من الأمور، ثم لينفذ من ذلك إلى تكميل نفسه فيما بعد؛ بمعرفة أن له شخصية مستقلة يجب أن تتكون وأن تكون مستقلة على قدر ما يمكن أن يكون هذا الاستقلال؛ وبمعرفة أن له عقلاً يجب أن يفكر به ليصل إلى إدراك أن هذا العمل شر وقبيح وإن أجمع عليه أبواه ومعلموه والناس جميعاً، وإن ذاك خير وجميل وإن كان قليل الأنصار. والنتيجة لهذا أن ينأى عن التأثر بالغير إلى درجة التقليد، وأن يأخذ في الاستقلال في التفكير والرأي والعمل.

ومن الواضح، يعد هذا، أن الانفعال بالغير في هذه المرحلة من الحياة بصفة خاصة سنة من سنن الطبيعة لابد أن تنزل على حكمها. ثم علينا متى تقدمت بنا السن ونضج العقل، أن نحد منها، وبمقدار ما نحد منها تتكون الشخصية ويظهر الاستقلال.

والانفعال بالغير كما نراه على أشده في المراحل الأولى من حياة الفرد الذي لا يزال في دور تكوين الشخصية، تراه في حياة الجماعات في أول أمرها، وفي حياة الأمة التي تحس ضعفها إزاء غيرها من الأمم. وفي هذا كله، قد يكون التمثل بالغير في الخير، كما قد يكون في غير الخير. وإلينا بعض المثل.

كان الأزهر إلى مفتتح هذا القرن العشرين شخصية خاصة به تتمثل، فيما تتمثل فيه، في طابعه الخاص في دراساته وامتحاناته ينتسب إليه من يريد غير مقيد بكثير من القيود التي نعرفها اليوم، ويتلقى فيه العلم الذي يريد على من يحب من الشيوخ، ثم متى أحس أنه وصل من المعرفة والعلم إلى ما يجيز له أن يكون من علمائه تقدم للامتحان. شأنه في ذلك، إلى حد كبير، شأن (السوريين) أو كلية الآداب بجامعة باريس هذه الأيام!

ثم أرادت الحكومة إصلاحه (أو إفساده لا أدري!)، متأثرة بثورات الطلاب ومطالبهم، فأدخلت عليه - في الانتساب والدراسة وشئون الامتحانات - الكثير من القيود شيئاً فشيئاً متمثلة بذلك وزارة المعارف في معاهدها ودور التعليم بها، حتى أصبحنا في هذه الأيام نجده يحتذيها في كل شئ تقريباً: مثل عدد سني الدراسة ونظمها ونظم الامتحانات، وبهذا - في رأيي فقد الأزهر الكثير من شخصيته وطابعه وأصالته.

أما انفعال الأمة كلها بالغير في كثير من أمورنا العامة، والخطيرة، فأوضح من أن نحتاجلأن ندل عليه. ومع هذا، فإني أشير إشارة عابرة إلى أثر ذلك في التعليم والدستور والقوانين ونظم القضاء. وليس ببعيد منا ما كان من فرض قانون مدني جديد قدمه واضعه بعد أن صاغه من مزق مختلفة من قوانين أمم مختلفة من أمم أوربا. متناسياً أن ما تصلح بهأمة في الغرب قد لا تصلح بهأمةأخرى في الشرق، لاختلاف الدين والتقاليد وإن كان في هذا قدر كبير من الإثم على الأزهر، إذ لم ييسر كتب الشريعة الإسلامية للراغبين في معرفتها، والمعنيين بدراستها، من غير الأزهريين.

على أنه من الضروري أن تنتفع الأمم بعضها ببعض في الفكر ونظم الحياة، ولكن الخطر أن يكون التأثر من طرف واحد دائماً.

إن الانفعال أو التأثر بالغير بإفراط يضيع استقلال من منى به فرداً أو جماعة، ويذهب باستقلال الفكر وأصالة الرأي والعمل. ذلك بأن من يتطلع دائماً إلى غيره ويسأله ماذا يرى وماذا يعمل، يجعل من نفسه مادة يصورها ذلك الآخر كما يريد، ويجعل نفسه في رتبة البهيمة يصرفها الحدث من الغلمان على ما يشاء ويهوى. إنه بذلك يلغي ما وهبه الله له من عقل يستطيع به، إن أراد، أن يجعل له حياة خاصة وفكراً مستقلاً به ولكنه رضى لنفسه أن يفكر له الآخرون، وأن يخط له هؤلاء الآخرون مجرى حياته التي تضطرب فيه. إن هؤلاء الذين يتبعون دائماً الأغيار، يجعلون من أجسامهم مقابر لنفوسهم التي أماتتها التربية السيئة والتقليد المقيت، بدل أن تكون هياكل لنفوس إنسانية لها حريتها واستقلالها. والجناية في هذه واضحة، وإنها جناية على الفرد والجماعة والدين نفسه.

ذلك، بأننا نجمع على أن الإسلام دين كل زمان ومكان، دين صالح لكل عصر وبيئة. ومع هذا فقد منعنا إتباع الماضين، والجمود على ما كتبوا عن الإسلام لعصور غير هذا العصر الذي نعيش فيه، من أن نحاول عرض الإسلام كما يجب: عقيدة وتشريعاً وأخلاقاً واجتماعاً واقتصاداً وأقول: (واقتصاداً) عامداً، لأن الإسلام، وهو تشريع عام شامل، ما كان يستطيع أن يهمل هذه الناحية الخطيرة التي تعتبر بحق مشكلة أمس واليوم والغد في العالم كله.

إن علينا أن نكتب كتباً جديدة نعرض فيها الإسلام من تلك النواحي، ونبين فيها كيف يجب أن نعمل لتحقيق العدالة الاجتماعية؛ فإنه لا تزول هذه الفوضى، ولا تتقي الشيوعية إلا بالقضاء على سبيلها الوحيد وهو الظلم الاجتماعي. تلك سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا.

بذلك، وبذلك وحده، نكون قد أديناً واجباً كبيراً للأمة للإنسانية كلها، وبذلك نكون صالحين للتعاون مع ممثلي المسيحية في تكوين جبهة لمحاربة الاتحاد والمبادئ الهدامة. أما بالعكوف على القديم باعتباره وحده الحق، وبالتقليد في كل شئ حتى في التفكير ومناهج الدرس، فإننا لن نستطيع أن نصل إلى خير، ونكون جناة على أمتنا وأبنائنا، وتلك جناية يثقل علينا حملها ووزرها. نعم، إنها جناية نكراء أن نجمد على ما ورثناه من تراث، فلا نتناوله بالتوسعة والتعديل بما يناسب حاجات هذا العصر الذي نعيش فيه. وهل فعل أئمة التشريع من المسلمين، الواحد بعد الآخر، غير هذا؟ إن هؤلاء الأئمة رضوان الله عليهم لو كانوا متبعين جامدين على ما ورثوا مقلدين لمن سبقهم، لما كان لناالآن إلا مذهب واحد في التشريع، بينما صار لنا من ذلك بفضل استقلالهم واجتهادهم في الرأي مذاهب عديدة، مذاهب نرجوا أن تتجدد وتزيد حتى نجد فيها توسعة وتلبية لحاجات الزمن في العالم الإسلامي كله.

وهنا أجد من الواجب أن نرفع الصوت عالياً بأن كل من تقدمنا في الحياة، ما عدا الأنبياء والمرسلين، فيما أرسلوا من أجله، يخطئون ويصيبون. لا معنى إذاً للتأثر والإتباع في كل شئ، ولعل بعضنا يكون أفهم للأمر وأقرب للحق وأهدى إلى الصواب من كثير من هؤلاء السابقين. ومن أجل ذلك يكون فرضاً على كل منا أن يعنى باستعمال عقله وأن يطلب لنفسه الاستقلال في الرأي الذي يتبعه الاستقلال في الشخصية، وإلا كان مقصراً في طلب الكمال الذي جعل الله وسائله.

(للكلام بقية)

محمد يوسف موسى