مجلة الرسالة/العدد 883/الأدب والفن في أسبوع
مجلة الرسالة/العدد 883/الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
اليونسكو والسياسة
اليونسكو هيئة ثقافية دولية، أنشئت للتقريب بين أمم العالم أهداف العلم والثقافة وتكوين عقلية إنسانية جديدة غير صالحة دور الشقاق والنزاع والمنافسة على السيطرة، ولكن مما يؤسف أن اجتماعاتها ومؤتمراتها تسودها دائما الاعتبارات السياسية هذا أمر طبيعي - على رغم الأهداف الموضعية - مادامت تكون من مندوبين ووفود رسمية تمثل حكومات العالم التي الجميع اختلافاتها وتعارض أغراضها. فلو فرضنا أن هؤلاء مندوبين جميعا من ذوى الثقافة وأهل الفكر فلا ينبغي أن نغفل عن تقيدهم بآراء حكومتهم وما تمليه عليهم من الخطط السياسية.
هذا هو مؤتمرها المنعقد الآن في فلورنسا، يبدأ بالنظر في اقتراح وفدى تشيكوسلوفاكيا والمجر الذي يتضمن عدم الاعتراف وفد الصين الوطنية، وقد هدد الوفدان بالانسحاب إذا لم يستبعد وفد الصين. والمؤتمر ينظر أيضا في اقتراح آخر لتشكوسلوفاكيا قضى باعتبار الدولة التي تسبق غيرها في استخدام القنبلة الذرية (مجرمة حرب) ويطلب وضع هذا السلاح تحت الرقابة الدولية وأن يتعاون الجميع للدفاع عن السلام.
وقد وقف مندوبو الدول العربية من الاقتراح الأول موقفا يتفق مع أغراض اليونسكو، إذ رأوا أن ليس من اختصاصها أن تهتم بالمسائل السياسية وانه يكفى التحقيق من صحت أوراق اعتماد الوفود المختلفة. وعقب الدكتور طه حسين بك رئيس وفد مصر على الاقتراح الثاني بقوله: ربما كنت من الذين يؤمنون بالخرافات فأنا لا احب أن أستمع إلى الحديث عن الحرب وعن السلام، وأوثر عليه الحديث عن العلم والثقافة وأود إلا نستخدم كلمتي الحرب والسلم، إذ أخشى أن تؤدي كثرة الحديث عن السلام إلى التنفير السلام منا.
ولكن يظهر إننا - أيضا - لم نسلم من إقحام السياسة في أعمال اليونسكو، فقد امتنع وفد مصر عن الاقتراح على قبول الأردن عضوا في هيئة اليونسكو، بناء على تعليمات تلقاها الوفد من القاهرة، ولا أريد اعتراض على أن يجري وفد مصر وفق هذا التيار العالي، بل أقول بوجوب ذلك، لأنه من العبث أن نلتزم المثالية بين هؤلاء الذين يلعبون على المسرح العلي بالبيضة والحجر، كما نقول في أمثالنا. . . وإنما مسألة (وفد الأردن) مسالة أخرى بينها رئيس الوفد اللبناني في المؤتمر بقوله: إن ما حدث في صفوف الجامعة العربية لا يعدو أن يكون خلافا مؤقتا، إذ ليس في حياة الشعوب ما له صفة الدوام، وليس في وسع العرب أن يضحوا باستعباد دولة عربية جديدة عن اليونسكو بسبب خلافات في نطاق جامعة الدولة العربية.
وهناك مسائل أخرى نظرت في اليونسكو، وهي أيضا ذات صبغة سياسية، ولم تتضمن الأنباء الواردة من اجتماعات المؤتمر إلى الآن، إنه بحث موضوعا ثقافيا أو تعليميا مما يتصل بأغراضه الأساسية، وبدل هذا كما تدل دورات المؤتمر السابقة على أن هذه الهيئة ميؤوس من وصولها إلى غايتها التي لم تقطع إليها خطوة جدية إلى الآن. وأنا مقتنع بفائدة اشتراكنا فيه على أنه مظهر ودعاية، فنحن نعد تقارير وبيانات عن جهود مصر في التعليم ونشر الثقافة والتعاون العلمي لتلقي هناك، وفي هذا العام ظفرنا بموقف الدكتور طه حسين بك في المؤتمر وخطابته التي أعجب بها مندوبو الدول الذين هنئوه واعتبروا من حسن حظهم أن استمعوا إليه. هذا كله مظهر عظيم يشرف مصر ويرفع رأسها. وهو حسبنا من المشاركة في هذه (المهيصة) العالمية. . .
وعلى ذلك يجب إلا نأخذ الأمر جدا كله، وان نفهم إن ادعاء الأهداف الإنسانية الموحدة كلام فارغ. لأنه على الأقل ادعاء ممن يعملون على خلافه، على انه يجب أن نكون آخر من يعمل أهذه الأهداف إزاء الدول الكبيرة الطامعة فينا، وليحاربوا عوامل الحرب في نفوسهم اولا، وسيجدوننا بعد ذلك كما نحن الآن وادعين مسالمين.
الأعماق
هذه مجموعة قصصية للأستاذ عبد الرحمن الخميسي اسمها (الأعماق)، وكلها قصص، حتى المقدمة التي تحدث فيها عن كتاب قصصي، هو صورة لنا يقطع الليل كله منكبا على كتابة قصة لم يبق منها غير ما يحتاج إلى جولة نفسية واحدة يستحضر فيها حالة شعورية لبطل القصة ويقسم نفسه قسمين، قسما يعيش عيشة البطل ويحس إحساسه وينفعل انفعاله، والقسم الثاني يراقب الأول ويعبر عنه وفي هذه الفترة التي يتلبث فيها ليجمع طاقاته. يناجي نفسه ويستحضر الأحداث الكبيرة التي أثرت في حياته، وهي أحداث ثلاثة صهرته في بوتقة الألم. وإذا نحن نخرج من ذلك بقصة حيات الكاتب نفسه، وطريقته في كتابة القصة، التي تتمثل في كلمتين (التجريد) و (الاندماج) وهي طريقة كل فنان مخلص يصدر عن طبع أصيل.
وشخصية الأستاذ عبد الحمن تظهر في هذه القصص، كما أجملها ولا في (قصة المقدمة أعني بذلك ظهور حياته الشخصية في الحديث عن أبطال القصة، فهذا وإن كان موجودا في بعض القصص إلا أن الأهم منه هو نظرته إلى الأمور وإلى الأشخاص وطريقة انفعاله وتفكيره وتصويره. هو كاتب يستمد وجدانا أنضجته نيران الألم التي تحو في القصص إلى نور يشع فيها هادئا في قلق، ترى هدوءه في التحليل، وقلقة في مشاركة الأبطال آلامهم، تلك المشاركة التي تعدي القارئ فتنقله إلى الجو، وهو في قصصه، عرفناه في حياته، دقيق الإحساس مستوفر الشعور ومع ذلك له قدرة على ضبط احساساته ومشاعره وتوجيهها، فهو فوار وهادى. . ولذلك تراه يسيطر على جو القصة منسابا إلى الدخائل والدقائق حتى يبلغ بك ما يريد وينقل إليك انفعاله دون حماس أو جلبة، وإذا أنت قد وصلت معه في طريق لا غبار فيه ولا ترام ولا سيارات. . .
والمؤلف يتخذ موضوعاته وأشخاصه من واقع الحياة التي اضطرب فيها، ويستطيع من يعرفه في الحياة أن يلمح شخصيته في بعض القصص كقصة (آه يا اسمر اللون) حياة في القصة، ويدفعه ذلك أحيانا إلى افتعال الخواتم التي تفسد العرض الجميل، فقد جعل (دهب) تحلم حلماً تتحرك فيه وتصعد إلى حاجز الشرفة لينهي القصة بسقوطها مهشمة في الطريق. . . وكذلك فعل في قصة (الأبله يحب) إذ جعل البطل يندفع إلى الشرفة ويسقط منها إلى الأرض كأنه حصان يقفز فوق الحواجز في سباق.
وأنا أراه في هذه القصص التي يمتد فيها ظله يعطف على نفسه بعض الشيء، وأراه أكثر صدقاً في غير ذلك، لقدرته على الاندماج، ففيه طبيعة الممثل التي اتخذت الكتابة أداة للتعبير، ويبلغ اندماجه أقصاه وأروعه في قصتي (دهب بنت عبد الباسط) و (الحنة يا الحنة) فقد أتبع فيهما طريقة المناجاة أو حديث النفس، فجعلنا نسمع كلا من (دهب) و (حسنية) تفكر في صوت مسموع يروي لنا ما يقع لها، وهاتان القصتان من قصص المجموعة التي تبين اتجاه الكاتب إلى (القطع) الآدمية المهدرة في حياتنا الواقعة، وقد بلغ قمة الانسيابية في قصة (دهب بنت عبد الباسط) وقد يكون حكمي عليها مشوباً بمشاركة الوجدانية في حادثتها التي تتكرر أمام أعيننا كثيراً في صورة هؤلاء البنات الصغيرات اللائي يجلبن من القرى للخدمة في البيوت بالمدن، ففي القصة بنات ينتزعهن أبوهن أطفالاً من حضن أمهن ليوزعن على سادته من (البكوات) كما توزع أجراء الكلبة على الأصدقاء والمعارف. ويبدو لي أن الكاتب حريص على أن يصور حياة كاملة أو جزءاً كاملاً من
وافتعال الخواتم هذا، لا يتفق مع الواقعية التي يسير الأستاذ الخميسي على منهجها الواضح، والواقعية هي أظهر خصائص هذه القصص، وهي واقعية يضيف إليها الكاتب من ذاته ما يرفعها عن مجرد الملاحظة والتدوين، فهي واقعية قيمة تستحق الغيرة عليها مما يمسها، وقد رأيت هذا المساس - فيما عدا تلك الخواتم - في بعض القصص، ففي قصة (رسالة المنتحرة) طالبة في الجامعة يسكن أهلها (زقاقاً) قذراً في القاهرة، وأبوها وأخوها من العمال، ولم يوضح لنا الظروف التي جعلتها المتعلمة الجامعية الوحيدة في هذه البيئة الجاهلة التي تؤثر تعليم البنين على البنات، وقد علمنا أن أخاها عاملاً فظاً غليظ الكف، فكيف وصلت هي إلى الجامعة وقعد أخوها يرفع في جهله (بالزقاق)؟ وفي هذه القصة تصوير رائعاً لأخلاق النسوة في هذه البيئة.
وفي قصة (آه يا أسمر اللون) يرافق البطل المغنية بعد انتهاء الحفلة إلى المنزل الذي تنام فيه. وقد رأيناه في الحفلة مرتبطاً بجماعة من رفاقه، فكيف تركوه يذهب معها؟ ومن حيث أن الحادثة في قرية كيف يحدث ذلك دون أن يلفت الأنظار؟ ويشبه هذا موقفه في قصة (الموتى يتحكمون في الأحياء) من الفتاة القروية التي منحها البطل جنيهاً لتأتي إليه طائعة، ويحبها وتحبه ويفكر في زواجها، ليس هذا التصوير وما لابسه مما يتفق مع طبائع القرويين، وفي هذه القصة يخبر أبو البطل بأمور غيبية. ولم يفسر الكاتب هذا أي تفسير بل جعلها (كرامات) مسلمة! وأمعن في ذلك فجعل البطل المتعلم يتقيد بها!
وفي ختام قصة (من يوميات الرجل الذئب) يقول إنه وجد هذه اليوميات في كراسة تحتوي اعترافات الرجل الذئب، وثم يقول بعد ذلك مباشرة أن بطل اليوميات إنسان عرفه واستخلص نموذجه النفسي، وليس من أحكام السبك أن يجمع هذين الأمرين: العثور على الاعترافات في كراسة، واستخلاص النموذج النفسي الذي لا يكون إلا بكتابة هذه الاعترافات.
وفي قصة (اللحن الأخير) قدم موسيقياً يعزف قصائد أمام حبيبته في تسلسل أخاذ وهو يرسم في القصة مثلاً للمواقف المعبرة ذات الموضوع، ولكنه لجأ أخيراً إلى طريقته في الخاتمة، فجعل البطل يموت وهو يطلق آخر نغمه من كمانه وحبيبته تلحق به جثة هامدة في مكانها. . وأنا لا أحب للصديق أن يدأب على قتل أبطاله في آخر القصص، فهذا غير لائق متزن مثله؛ وخير له وللفن الواقعي وللأبطال أنفسهم أن يدعهم أحياء فلا يضحي بهم في سبيل (الفرقعة) بآخر الفصل.
عباس خضر