مجلة الرسالة/العدد 883/نقي العبث عن النحاة

مجلة الرسالة/العدد 883/نقي العبث عن النحاة

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 06 - 1950



في التعجب

للأستاذ عبد الحميد عنتر

مهداة إلى من يعترف بالفضل لأهله

إني لأعجب أشد العجب ممن يعمد إلى هدم البناء النافع المتين، بدون أن يبني على أنقاضه بناء نافع أو أنفع منه! ويطول عجبي اكثر إذ كان الهادم نفسه ممن تقدم بهذا البناء النافع، وستفاد منه في حياته أيما فائدة!

هذه قواعد النحو العربي - ومنها التعجب - تدرس تبحث منذ ثلاثة عشر قرناً هجرياً (من سنة 67 - 1369 هـ) وقد تلقاها العلماء بالقبول، وجعلوها نبراساً يستشفون به أساليب القرآن، وأحاديث الرسول، ومنثور العرب ومنظورهم، ويحكمونها فيما ينشأ من كلام المستعربين والمحدثين من النثر والنظم، حفاظاً على اللغة من أن تضيع، أو تلعب بها الأهواء.

ألا تعجب معي أيها القارئ. إذا أتى بعد ذلك من يرمي النحاة بالعبث والتضليل والتجهيل، ويصف كلامهم بأنه غثاء أو هراء، ويتهكم عليهم بأنواع الزراية والسخرية اللاذعة!

أستمع إلى الأستاذ (كمال بسيوني) يقول في عدد الرسالة (881): في الحق أن النحاة يكلفون أنفسهم شططاً، ويرهقونها عسراً حينما يريدون أن يعللوا كل شيء، فلا ينتهي بهم التعليل والتحليل، إلا إلى التجهيل والتضليل، ولم أر النحاة ضلوا في باب من أبواب النحو ضلالهم في باب التعجب، وأكون مقرراً للواقع حين أقول: إن واحداً منهم لم يفهم من قريب أو بعيد صيغتي التعجب. إلى أن قال. . . أو لأنك لم تؤت القريحة النفاذة التي تستطيع بها أن تستسيغ هذا الغثاء، وأن تفهم هذا الهراء، ثم أخذ يحلل الصيغتين بتحليل يزعم أنه من عنده، وأنه بحث علمي جديد يحسن بالقائمين بأمر النحو في مصر أن يتأثروه، وأنهم لو فعلوا ذلك لكان إيذاناً بأنبثاق فجر جديد لقواعد العربية. هذا كلامه. وأقول: لكي لا أشق على القارئ بالتطويل في الرد أجمل الكلام في النقاط الآتية:

قاعدة التعجب عند النحاة. فساد هذه التسمية في نظر الكاتب والرد عليه الكاتب يأخذ رأيه من كلام النحاة ويزعم أنه رأي جديد له! حملته على شيوخ النحو في مصر.

1 - قاعدة التعجب عند النحاة: يسلك الكاتب الفاضل أن القاعدة التي وضعها النحاة لما يسمونه التعجب سليمة لا غبار عليها، وقد طبقت على جزئياتها القياسية المختلفة، وعاد ذلك على اللغة بالخير الكثير، ويسلم أيضا أن هذا هو المقصود من وضع القواعد، وأعتقد أنهم لم يخالف في هذا أحد من النحاة القدامى أو المحدثين، حتى من أهديت إليه هذه المقالة، وهو الأستاذ الكبير إبراهيم بك مصطفى عميد كلية دار العلوم. ولكنه يصب جام غضبه المضري على شيء واحد لا دخل له في قواعد النحو في قليل أو كثير. ذلك الشيء هو تحليلهم صيغتي التعجب وإعرابهما وتسمية هذا الباب بباب التعجب!

لنفرض جدلاً أن النحاة أخطئوا أشنع الخطأ في هذا التحليل وذلك الأعراب مع سلامة قاعدتهم التي بنوا عليها الأحكام النحوية. فهل هذا يستوجب من الكاتب هذه الغارة الشعواء وتلك الحملة المنكرة؟! إني اترك الجواب للقارئ المنصف.

2 - إذا قلنا: ما أحسن العلم وأحسن به، وما أقبح الجهل وأقبح به، أو قلنا ما أجمل الورد وأجمل به، وما أقبح الشر وأقبح به. فأن الكاتب يزعم أن ليس في هذه الصيغ تعجب البتة، وإنما تفيد الكثرة والمبالغة، ويدعي أن المعنى الأدبي لهذه الصيغ هكذا: العلم حسن جداً، والجهل قبيح جداً، والورد جميل جداً، والشر قبيح جداً. وظاهر أن هذا ليس بتعجب. (فتسمية هذا الباب بباب التعجب تسمية غير سديدة).

الرد - لم يوفق الأستاذ الكاتب لفهم معنى التعجب الذي يعنيه النحاة الأدباء - وكان النحاة في أول عهد النحو علماء بقواعد العربية وباللغة والأدب - ومعناه عندهم كما قال أبن يعيش (ص142 جـ7) معنى يحصل عند المتعجب عند مشاهدة ما يجهل سببه. وذلك المعنى كالدهش والحيرة).

ونحن إذا حللنا الأمثلة التي منع الكاتب أن تكون للتعجب وجدنا فيها كلها هذا المعنى التعجبي الذي شرحه العلماء.

فمعنى (ما أحسن العلم وأحسن به) أتعجب من حسن العلم لخلفاء السبب الذي به حسن.

ومعنى (ما أقبح الجهل وأقبح به) أتعجب من قبح الجهل، فقد غاب عني السبب الذي من أجله قبح.

ويلزم هذا المعنى الذي شرحته معنى آخر وهو المدح في المثال الثاني بطريق المبالغة، ويقاس عليهما ما أجمل الورد، وما أقبح الشر. فالمعنى التعجبي كما قلت أولاً، والصيغ بهذا المعنى أو بمعنى المدح والذم خبرية لفظاً إنشائية معنى، لأن التعجب والمدح والذم من وادي الإنشاء غير الطلبي، كما تقرر في علم المعاني. والمعنى اللازمي يفيد المبالغة في المدح أو الذم أو غير ذلك بحسب مواد التعجب. مثل أن نقول: العلم حسن جداً، والجهل في غاية القبح، والورد في نهاية الجمال، والشر قبيح جداً. فالمقصود الأصلي للعربي من صيغ التعجب هو الدلالة على التعجب، ودلالة على المبالغة في المدح أو الذم أو غيرهما تابع للمقصود، والذي قلته هنا قال مثله النحاة. ينظر الصبان علي الأشموني في أول باب التعجب. وبذا تبين أن النحاة فهموا معنى التعجب تماماً، وأنهم لم يهملوا المعنى الذي يدعي الكاتب أنه من عنده، وأنه لم يأت بجديد يتأثره القائمون بأمر النحو في مصر:

بقي أن رأيه الجديد بأن معمول فعل التعجب المنصوب المجرور بالباء الزائدة في نحو قولنا: ما أجمل الورد وأجمل به مسند إليه هذا الرأي الجديد المأخوذ من شرح أبن يعيش على مفصل الزمخشري (ص 148 جـ7)!! ولا أطيل بذكر النص لئلا القارئ. فليرجع إليه إن شاء.

3 - حملته على شيوخ النحو في مصر:

عني النحاة على طريقتهم في البحث والتمحيص بفهم المعنى من صيغتي التعجب أولاً، ثم بإعرابهما ثانياً.

ولا زلنا ندرس النحو على هذه الطريقة. وما الذي يضير إذا أعربنا (ما) بأنها تعجبية مبتدأ، و (أجمل) بأنه فعل ماض وفيه ضمير مستكن وجوباً يعود على (ما). والورد منصوب على التشبيه بالمفعول، وقلنا في إعراب (أجمل به) أجمل فعل ماض، جاء على صورة الأمر للتعجب. والباء زائدة زيادتها في وكفى بالله شهيداً) وضمير الورد فاعل في المعنى، لأنه الموصوف بالجميل الزائد. ماذا يضير لو وجهنا هاتين الصيغتين بهذا التوجيه الإعرابي أو بغيره من التوجيهات التي ذكرها النحاة بدون أن نتعرض لأساس القاعدة؟ اللهم إن انتقاد هذا الأمر الهين هروب من العلم، ورضى بالدعة وخمول القريحة.

ثم أمن أجل هذه التوجيهات السديدة تقوم القيامة، وتشن الغارة على النحو والنحاة؟! وهاك أيها القارئ ما قال الكاتب المصلح بالنص (أرأيت إلي أني لم أكن مخطئاً حين خفت عليك أن تضحك أو أن تقهقه حين تسمع هذا الكلام - أستغفر الله - وكنت خليقا أن تحزن وأن تتألم حين تعلم أن شيوخ النحو في مصر ما زالوا يكون هذه السخافات، وما زالوا يخدعون الطلاب بهذا الدجل العلمي، وما زالوا يفسدون العقول والأذواق، ويميعون الملكات الأدبية في نفوس الشباب، وما أسرع ما ينخدع الشباب بهذا التخريف! ويظن حين يملك هذه الألفاظ أنه قد فهم قواعد العربية. وهو لم يفهم إلا قواعد الجهل إن كان للجهل قواعد يتسنى للمرء أن يفهمها) أخشى أن أكون ثقلت على القارئ بإيراد هذه العبارات السمجة، التي لو ألقيت على جبل لحولته إلى تل من القاذورات! وإني لأنزه قلمي أن يخوض في مثل هذه الحمأة المنتنة. ولعلي لا أكون مخطئاً إذا اعتقدت أن هذا الكلام لا يراد به خدمة العلم، ولا تقويم المعوج. . .

نعم - لو قال الكاتب: إن النحو بحاله الراهنة يفتقر إلى التهذيب: بحذف الخلافات التي لا طائل من ورائها، والاقتصار على الصالح المثمر النافع، ودعم القواعد بالإكثار من التطبيق، وجعل المقام الأول للنصوص العربية التي تستبقي منها القواعد، لو قال ذلك أو مثله لدلل على إخلاصه للعلم وحبه للإطلاع ولكنا بما دعا إليه أول المؤمنين.

وبعد فليهدئ الكاتب المفضال أعصابه، وليطمئن، وليعلم بأن في مصر الآن (نهضة نحوية مباركة) لكن لا على الوجه الذي يريده من الهدم والتشهير والتجريح! بل على وجه التجديد المفيد الذي يجمع بين الجديد والقديم، والذي يراعي فيه حال البيئات العلمية المختلفة: من أولية، وابتدائية، وثانوية وعالية.

وهذه النهضة يحمل لواءها الآن كلية اللغة العربية بالأزهر وكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول، وكليتا الآداب بالجامعتين هذه عجالة عابرة. (وإن عدتم عدنا).

عبد الحميد عنتر

الأستاذ بكلية اللغة العربية