مجلة الرسالة/العدد 887/صورة من الحياة:

مجلة الرسالة/العدد 887/صورة من الحياة:

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 07 - 1950



قلب أب!

للأستاذ كامل محمود حبيب

- 3 -

. . . وأراد خالك أن يقذف بغيظه المضطرم في وجه أبيك فما استطاع، لأنه تربه في الدار والغيط، وزميله في اللهو والعبث، وصاحبه في زمن الشباب والفتوه، ورفيقه في أيام الشدة والرخاء؛ ولأنه رأى فيه صمتاً استشف من ورائه الضيق والندم، وأحس من خلاله ثورة مكفوفة تجيش أحياناً ثم تتوارى في حزن وكمد، ولمس فيه أوبة حائرة مضطربة لا تكاد تبين عن رأي، ولأنه ألفى الدار تموج بأشتات من الناس تعلت نياتهم وسقمت ضمائرهم، فيهم اللؤم والشماتة، يتربصون بالرجل - أبيك - الدوائر لينالوا من كرامته ويتندروا برجولته. فجلس بازاء أبيك صامتاً وإن الثورة الجامحة لتوشك أن تجتاحه، وإن الحزن المرير ليكاد يعصف به، وإن الأسى العارم ليصعره عصرا. . .

واعتركت في نفس خالك عوامل الغضب والرحمة: الغضب مما كان من أبيك، والرحمة به لأن ألسنة وضيعة لاكت رجولته التي لم تخدش يوماً، ثم تراءت له خالتك وهي تصرخ صراخاً فيه فزع والرعب، صراخاً يتحدث عن أسى الأم فقدت بنيها الثلاثة دفعة واحدة. . . تراءت له وهي تفزعه بالنواح وتستحثه بالأسى، فهب من مكانه ثائرا يريد أن يقذف بغيظه المضطرم في وجه أبيك، ولكن. . .

ولكنه هب فجأة ليرى أمامه ناظر العزبة، لقد دخل الرجل على حين فجأة من الناس، وعلى وجهه سمات الشجن، وفي مشيته علامة الاضطراب، وراح يتحدث بكلمات حزينة متقطعة لا تكاد تفصح عن معنى. وقص الرجل على الملأ قصة الصبية الثلاثة الذين طاروا من دار أبيهم يقطعون الطريق الوعر الطويل يضنيهم الجهد وترهقهم الهاجرة ويقتلهم الضنا

وماتت الكلمات على الشفاه، ثم ما لبث الجمع أن انفض في صمت، وخلا المكان إلا من رجلين - أبيك وخالك - يتحدثان حديث الأخوة والصداقة، فرضى خالك

ثم صفرت الدار إلا من رجل واحد يلفه الظلام والسكون، رجل ينبض قلبه بالحنان وتخفق روحه بالرحمة وتضطرب نفسه بالندم، ثم شملته اللوعة الفوارة فطفرت من عينيه عبرات تشهد بأن قلب الأب لا ينطوي - أبداً - إلا على الرقة والمحبة، ولا ينضم إلا على العطف والشفقة. وأرقته الحادثة فما هدأ إلى مضجعه حتى مطلع الفجر

وهبت نسمات الفجر الندية توقظ أباك من غمرة الفكر وتزعجه عن نوازعه الأرضية، فانطلق صوب المسجد ليلف أتراجه في سبحات النور الإلهي التي تغمر القلب حين ينزع عنه ترابية الأرض ليعيش حيناً في دفقات النور السماوي. وبين يدي المحراب خلص أبوك من ضنا نفسه وخلع ثوب الأسى عن نفسه، غير أن عبرات حرى مازالت تترقون في محجريه

وخرج أبوك من المسجد وقد أفعم قلبه بالبغضاء والكراهية للفتاة التي أوحت إليه أن يرفع الطعام الشهي من بين يدي الصبية الصغار أحوج ما يكونون إليه، ليعيشوا حيناً في العناء والجهد والجوع.

الآن خسرت الزوجة الحمقاء - في لمحة واحدة - السعادة التي كانت تطمع أن تستخلصها لنفسها يوم أن تفزعك عن الدار التي ضمتك في حنان ونشأتك في عطف. . . خسرت السعادة لأنها فقدت قلب الزوج وعطف الرجل وهدوء النفس، فقضت عمرها في ضيق ونكد لأن نزوات شيطانية سيطرت عليها فدفعتها فارتكبت حماقة هوجاء افتضح أمرها فأقضت مضجعها وهدمت حياتها وحطمت أملها.

يا لعدل السماء! إن الحفرة التي حفرتها الفتاة لتقذف فيها بثلاثة من الصبية الأبرياء قد فتحت فوهتها في شره وغلظة لتبتلعها هي ولتبث فيها زهرة العمر تذوق وبال الوحدة والانكسار والألم جميعاً.

وفي بكرة الصباح هم أعمامك - وهم كثر - صوب العزبة يريدون أن يختلوا الصبية عن العقل، ويخدعوهم عن المنطق، ويسيطروا عليهم بكلمات براقة جوفاء. ودخلوا عليك وأنت تتناول طعام الصباح - بين أخويك - في لذة وشهية، في جو من المرح والمحبة، وقد طمت النشوة على أتراح الأمس. . . دخلوا فابتسموا وابتسمت. وأذهل الرجال أن يسمعوا في صوت هذا الصبي رنات الجد والحزم، وأن يجدوا في حركاته معاني الرجولة الآمرة المسيطرة. وأخذ عمك يزوق كلاماً فيه الرقة والطلاوة يريد أن يختلك عن العقل، ويخدعك عن المنطق، ويسيطر عليك بكلمات براقة جوفاء، فقلت له (ألست الآن رب هذه الدار وصاحب هذا الغيط وسيد هذا القوم؟).

قال عمك الأكبر (بلى، يا بني، ومن قبل!)

قلت (أليست دار أبي تشرق بالخير المتدفق من غلات هذه الأطيان؟)

قال (بلى، يا بني!)

قلت (والنعمة التي ترفل فبها زوج أبي، والرخاء الذي ينعم به أبي، أليسا من فضل هذا الحقل؟)

قال (بلى وربي!)

قلت (والطعام الذي رفع من بين يدي في قسوة وجفاء، أليس من جني هذه الأرض؟ لقد رفعت يدي - مرغماً - عن طعام تشتهيه نفسي في غير ذنب جنيته، على حين أنه من بعض مالي أنا لقد حرمت الطعام والطف معاً ففزعت إلى هنا لأجد المال والطعام والحرية جميعاً. فلا علي إن أنا فعلت!).

قال عمك الأكبر (ولكنك ابن أبيك، يا بني وهو أبوك!)

فقلت أنت (ولكنه أراد أم يقتلنا جميعاً دفعة واحدة على حين لم نقترف جريرة، ولم نحمل له في قلوبنا غير المحبة والاحترام)

فقال في رقة وهو يحاول أن يحبس عبرة تراود نفسها أن تطفر من بين محجريه (لقد جئنا لنعتذر عن عطلة أبيك حين ندم على ما كان منه. ولشد ما يؤلمه أن تظلوا هنا في منأى عنه وأنتم نور عينيه وسعادة قلبه ولذته العظمى في الحياة وأمله الرفاف حين يهي الجلد ويهن العزم ويذوي العود وتسري الشيخوخة الباردة في دمه. فهل كنت تطمع أن يطير هو إليكم ليعتذر؟)

وسمعت - يا صاحبي - كلمات عمك وهي تفيض حناناً ورحمة فتهاوت قوتك وانهارت عزيمتك، وأطرقت تكرر كلمات عمك في همس والعبرات تنهر من عينيك سلا ينبئ بأنك مازلت صبياً لم يدنسك الدغل ولا شوهك الغيظ ولا لوثتك المادة، ثم نظرت إلى الجمع من خلال عبراتك الطاهرة وقلت (لا ريب، فهو أبي. . . ولا أعصي له أمراً، فمر بما يريد)

وانطوت ساعة فإذا أنتم بين يدي أبيكم يضمكم في شوق، ويقبلكم في شغف، ويحدثكم حديث قلبه وقد اختلطت عبرة بعبرة وخفق قلب لقلب وتعانقت زفرة وزفرة، ثم اندفع الركب يسير.

وعشتم - يا صاحبي - في الدار أحزابا ثلاثة: الأب، وهو رجل دين وإيمان، في قلبه العطف وفي روحه الحنان؛ تتأرث الذكرى في جوانحه - منذ يوم الحادثة السوداء - قوية عنيفة، تذكره بالزوجة الأولى - أمك - التي ذاق إلى جانبها لذة العيش ومتعة الثراء وحلاوة الإخلاص؛ والتي يرى صورتها مرسومة - دائماً - على وجوهكم فيرى الزلة التي ارتكب على حين غفلة منه تتشبث به وتخز ضمير، فلا يجد شفاء نفسه إلا في أن يضمكم إلى صدره ضمات شوق وحنان، وإلا في أن يغمركم بالعطف والشفقة، وإلا في أن يبذل لكم من ماله ومن سلطانه، وإلا أن يعقد العزم على شأن يخصكم به ليكون كفارة ما كان. وانطوت السنون وهو لا ينسى. . . والزوجة، وهي فتاة حمقاء أعجزها أن تستميل قلب أبيك بعد أن انكشف خبثها وبدت شيطانيتها، فانكسرت شوكتها وعاشت بينكم غريبة تعاني مرارة الذلة وقسوة الخضوع، لا تحس الراحة ولا الهدوء ولا اللذة. . . أما أنتم فقد ربطتكم الشدة بروابط الصداقة وجمعتكم القسوة بأواصر المحبة، وأنتم ما تزالون في أول الطريق. . .

لقد عقد أبوك العزم على شأن يخصكم به ليكون كفارة الزلة التي ارتكب على حين غفلة منه، فماذا كان منه، يا صاحبي؟ وماذا كان؟

كامل محمود حبيب