مجلة الرسالة/العدد 89/بلاد الشكوى!

مجلة الرسالة/العدد 89/بلاد الشكوى!

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 03 - 1935


للأستاذ عبد العزيز البشري

لقد تحدثك نفسك يوماً بأن تتعرف الصفة التي تميّز مصر من بين بلاد العالم، والتي إذا أُطلقت انطلقت من فورها إليها دون أقطار الأرض جميعا. وإن مما لا يعتريه الشك أنه ما من أمة إلا ولها خاصية تستقل بها عن كل ما عداها من الأمم، لا يشركها فيها غيرها ولا يتصف بها سواها، وهذه الخاصية لقد تتصل بالأخلاق والعادات والتقاليد، ولقد تتصل بالتأريخ، ولقد تتعلق بالتصرف في سبب من أسباب الحياة، أو بالاستئثار والتبريز في فن من الفنون، أو بغير ذلك من وجوه الفروق المختلفة بين أصناف الناس فإذا قدر المستحيل، أو قدر النادر الذي يجاور المستحيل، ولم تتفرد إحدى الأمم بما يشخصها من تلك الأسباب الكثيرة، فلا أقل من أن تختص في طبيعة أرضها وسمائها، وجوهها ومناخها، بما يحقق لها هذا المعنى حتى يتسق لها هذا الوجود الخاص فلا تختلط بغيرها من العالمين. وتلك من سنن الكون التي لا ينشز عليها خلق من الكائنات أبدا!

ونعود فنفرض أنه لقد تحدثك نفسك بتعرف هده الخاصية التي تتفرد بها مصر دون سائر أمم الأرض. ولعل أول ما ينحط عليه ظنك أنها بلاد زراعية طوعاً لسخاء أرضها بألوان الغلات، ومهارة سواد سكانها في فنون الزراعة وفلح الأرض وحسن تعهدها، واستنباتها على خير الوجوه. إلى أن أهلها، في الجملة، لا يتكئون على سبب من أسباب العيش التي يتكئ عليها كثير غيرهم، كالتجارة، والصناعة، وصيد البحر أو البر، فإذا هي عالجت شيئاً من هذا فإنما تعالجه بالقدر الذي ينتظمها في مؤخرات الصفوف! إذا ميزتها بأنها أمة زراعية، فالأمم الزراعية في العالم كثير!

ثم إنها ليس لها حظ مذكور من علم، ولا من فن، ولا من قوة بدنية، ولا من امتياز في كفاية حربية، ولعل هذا يرجع إلى ظروفها التي لا خيار لها فيها لا إلى طبيعة أبنائها، فالمصريّ معروف بالشجاعة في الحرب، وطول الصبر فيها، وشدة الجلد عليها من قديم الزمان. ومهما يكن من شئ فليس لمصر الآن حظ مذكور في شيء من تلك الأشياء، فضلاً عن أن يكون لها به تفرّد واستئثار، بحيث إذا أطلقت صفته عرف الناس أن مصر هي المقصود به دون سائر البلاد.

ولقد تطلب هذه المزية في تاريخ مصر القديم، وحضارتها التالدة، وما سلف لها من مجد ما برح يثقل مناكب التاريخ. ألا فاعلم أن مصر لا تستأثر بهذا ولا تستقل به، فهذه الصين لها حضارة لعلها اقدم من حضارة مصر، وهذه أمة اليونان وما أدراك ما حضارة اليونان، وعلومها، وفلسفتها، وفنونها، وعظمتها الحربية. ومجدها الذي طاول السماء. فانظر إلى ما صارت عليه الآن، وكيف تغّير لها وجه الزمان!

وهذه أمم قد كانت لها حضارات فخمة، وكانت لها قوة لا تعد لها قوة، وسطوة في أمم الأرض دونها كل سطوة، فدارت عليها رحى الزمان حتى طحنتها طحناً، وأحالتها في الخلق عِهنا، ثم ذرتها في الهواء، ولم يصبح لها من الآثار، إلاّ ما قيدت الصحف من مأثور الأخبار. وأين منا الآن فينيقيا وأشور وبابل وغيرها من دول لم يدرك شأنها شان، ولم يدان سلطانها في الأرض سلطان!. ومهما يكن من شيء فالوصف بعظمة الماضي، وجلالة التاريخ، وفخامة المجد التليد، ليس مما يجدي المصريين في هذا الباب ولا يفيد!

أرجوك يا سيدي الطلعة إلا تجهد بطول البحث والتحري، وشدة الفحص والتقري، فانك، في الغاية، لن تخرج بشيء من هذه المظان التي ترجو أن توافقك فيها طلبتك، ولن تصيب لمصر في هذه الأيام من الصفات ما يقع عليها على جهة التعيين، ولو فتشت نجوم السماء، ونقضت كل ما على ظهر الأرض من الحصباء!

على أنني متبرع، لوجه الفضول وشهوة التطلع، بان أهديك إلى الخلة التي تختص بها مصر في هذا الزمان وتستأثر، بحيث لا يشاركها فيها مشارك، ولا ينازعها عليها منازع. وبحيث لو حشُرت الخلائق كلها في صعيد واحد؛ وبعث معهم كل من لحقهم الدثور، وجميع من غيبتهم القبور، ومن نهشتهم وحوش البر، وسباع الطير، والتقمتهم الحيتان في جوف البحر، من مهلك عاد وثمود؛ ومقتل أصحاب الخدود، وصحت فيهم أي الأمم ألان صفتها كيت؟ لأجابوك في نفس واحد: هي مصر!

وهذه الخلة التي تمتاز بها مصر اليوم وتنفرد دون سائر أمم

الأرض جميعا هي الشكوى! نعم هي الشكوى!. وإنني أتحدى

من شاء، وأخاطر من شاء على ما شاء، إذا زعم أن هناك أمة أشكى من مصر، أو أن هناك خلقاً من خلق الله يشكون بنسبة

18000000 مما يشكو المصريون!

كل هيأة في مصر تشكو، وكل طائفة فيها تشكو، وكل جماعة تشكو، وكل فرد يشكو. ما تنقطع لأحد من هؤلاء شكوى ما عاقب الليل النهار، حتى لو قيض لعالم مخترع مثل السنيور مركوني أن يحيل جميع المصريين إلى معنى من المعاني، لاستحالوا إلى شكوى يطن في الآفاق طنينها، ويئن في الأجواء أنينها، حتى لو كان ملائكة السماء خلفاً مثلنا، يجري عليهم ما يجري علينا من الضجر والقلق، ويدركهم ما يدركنا من السهر والأرق، لقضوا من شدة هتاف شكوانا آلاف الأعوام لا تذوق جفونهم الغمض ولا يزور عيونهم المنام!. ولكنهم، لحسن حظهم، أيقاظ على الدهر، ما يهفو بهم التعب إلى ضجعة، ولا يضطرهم النصب إلى هجعة! لا ترى أحداً في مصر إلا يشكو، ولا تنقطع له شكوى على الزمان: هؤلاء الموظفون! أرأيتهم قد انقطعوا يوماً واحداً عن شكواهم، وبث مظلمتهم وعظيم بلواهم؟. الدرجات الدرجات!. العلاوات العلاوات!. الترقيات الترقيات!. ارفعي يا حكومة ما حل بنا من حيف، فقد حبست عنا علاوات الشتاء! وأبطأت علينا في علاوات الصيف!

وهؤلاء الحجاب والسعاة، لا تراهم يدعون كل يوم إلا بالويل والثبور، وعظائم الأمور، لأنهم أكثر خدام الحكومة تعباً، وأحقرهم مرتباً، وهيهات أن تفي بضعة الجنيهات، بما يزحمهم من وجوه المطالب في وجوه الحاجات، وقد أثقلتهم النفقة على الأهل والولد، بعد ما عم الغلاء هذا البلد، ولو كانت الحكومة على شيء من الإنصاف، لزادت مرتباتهم أضعافاً على أضعاف!

وهؤلاء رجال البوليس لا يفتأون يشكون الظلم اللاحق، والجور الحائق، فأعمالهم ثقيلة، ومهماتهم جليلة، ومع هذا فمرتباتهم قليلة، وعلاواتهم ضئيلة، ودرجاتهم هزيلة. والترقية إلى الدرجات مما يحتاج إلى طي الأحقاب، ودون ذلك مشيب الرجل بل مشيب الغراب! وهذا والله ما لا ينبغي أن يعامل به حفظة النظام، ومن يضحون برحتهم وأرواحهم في إقرار الأمن والسلام: أما معاونو الإدارة، فلا تسكن لهم شكوى. تارة بتقديم (العرائض) وعلى ألسنة الصحف تارة!

ورجال القضاء أهليه وشرعيه، لا يفترون عن المطالبة بتعديل (كادر) الدرجات، وتحسين نظام العلاوات، حتى يتسق ما يتقاضون من الرواتب، لما يتقلدون من رفيع المناصب، ولا شك أن من أشد الإجحاف، أن تسوم الظلم من تقتضيه القيام على العدل والإنصاف

وهؤلاء حملة الشهادات ممن لم تستخدمهم الحكومة في مناصبها، هيهات أن تبطل لهم شكاية، أو تفتر لهم دعاية؛ فإذا استخدموا استأنفوا الشكوى من قلة الراتب، وسألوا الحكومة أن تمنحهم من الدرجات، ما يكافئ ما أحرزوا من عليا الشهادات!

أما المعلمون في التعليم الأولي بجميع ضروبه وأشكاله وألوانه، فهؤلاء لا ينقطع لشكاياتهم مدد، ولا يحصيه عدد، فهم كل يوم يمطرون المعارف (بالعرائض) إمطاراً، ويرسلون منها على الصحف وابلاً مدراراً. حتى أضحى المرء لا يشق صحيفة يومية أو مجلة أسبوعية، أو شهرية، إلا رأي الشكايات تنفذ إليها من أقطارها، وتجري في جميع أنهارها، وحتى اصبح خلو صحيفة واحدة من ذلك مما يثير الريب ويدعو إلى اعجب العجب!

هذا بعض ما يكون من الموظفين، أما التلاميذ وأولياء التلاميذ، ففي كل يوم شكوى من ضيق المدارس بالوافدين، ومن المصروفات المدرسية، ومن رسوم الامتحانات العامة، ومن صعوبة أسئلة الامتحان، ومن الدرجات التي تشترط للدخول في امتحانات الملاحق، وهكذا مما لا يبرح يطن في الآذان ما تعاقب المَلَوان، وطويت صحائف الزمان!

والأهلون الأهلون! لا ترى بلد في بلاد القطر كله إلا يشكو بعض أهله على الأقل، من عمدته، ويسرف في اتهامه بالظلم والجور، وإيثاره الهوى في معاملة الناس، وغفلته عن صيانة الأمن، ومصانعته لسراق الليل. وهكذا. فإذا لم تنفذ التهم إليه من أي باب، طلبوا إزالته لأنه (فقد النصاب)! وحسبك أن تزور يوماً وزارة الداخلية لترى من هذه العجب العجاب!

وهذا النيل إذا أقبل، فهل تسمع من أي بلد إلا موجع الشكوى. من احتباس الماء عن الأرض حتى عم الشرق، أو أن الماء طغى على الزرع حتى غمر الساق والورق!

وهؤلاء الأزواج يشكون الزوجات، وهؤلياء الزوجات لا ينين عن شكاية الأزواج، وهؤلاء أباء يقاضون الأبناء، وأبناء يستعدون للقضاء على الأباء!. وحسبك أن تطوف يوماً في بعض محاكم الشرع لتستيقن أن الحياة العائلية في هذه البلاد قد تصدعت أركانها، وتداعى بنيانها، وأنها عما قليل ستحور أطلالاً بالية، وأنقاضا من بنايات الأمم الخالية!. ولا تنس الأحزاب واتهامها حكومات بسوء الحكم وخلف الوعود، وشكوى الحكومات مما يقابل به ما تبذل من الجهود من نكران وشدة الجحود! ولو قد ذهبت أسرد لك جملة الشاكين والشاكيات، والباكين على سوء حالهم والباكيات، لما اتسعت صحائف (الرسالة)، لاستيعاب هذه المقالة.

ومهما يكن من أمر، فلعلك قد اقتنعت الآن بأن اصدق وصف لمصر في هذا العصر، وان أدق تعريف ينطبق عليها دون سائر الأمم هي أنها بلاد الشكوى!

ولعلنا نوفق قريباً إلى إتمام المقال، بالبحث عن علة هذه الحال.