مجلة الرسالة/العدد 89/عروس تزف إلى قبرها

مجلة الرسالة/العدد 89/عروس تزف إلى قبرها

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 03 - 1935


للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

- 1 -

كان عمرها طاقة أزهار تسمى أياماً

كان عمرها طاقة أزهار ينتسق فيه اليوم بعد اليوم كما تنبت الورقة الناعمة في الزهرة إلى ورقة ناعمة مثلها

أيام الصبى المرحة حتى في أحزانها وهمومها؛ إذ كان مجيئها من الزمن الذي خص بشباب القلب، تبدو الأشياء في مجاري أحكامها كالمسحورة؛ فان كانت مفرحةً جاءت حاملةً فرحين، وإن كانت محزنةً جاءت بنصف الحزن.

تلك الأيام التي تعمل فيها الطبيعة لشباب الجسم بقوىً مختلفة، منها الشمس والهواء والحركة، ومنها الفرح والنسيان والأحلام!

وشبت العذراء وأفرغت في قالب الأنوثة الشمسي القمري، واكتسى وجهها ديباجةً من الزهر الغض، أودعتها الطبيعة سرها النسائي الذي يجعل العذراء فن جمالٍ لأنها فن حياةٍ وجعلتها تمثالاً للظرف؛ وما أعجب سحر الطبيعة عندما تجمل العذراء بظرف كظرف الأطفال الذين ستلدهم من بعد! وأسبغت عليها معاني الرقة والحنان وجمال النفس؛ وما أكرم يد الطبيعة عندما تمهر العذراء من هذه الصفات مهرها الإنساني!

وخطبت العذراء لزوجها، وعقد له عليها في اليوم الثالث من شهر مارس في الساعة الخامسة بعد الظهر، وماتت عذراء بعد ثلاث سنين، وأنزلت إلى قبرها في اليوم الثالث من شهر مارس في الساعة الخامسة بعد الظهر! وكانت السنوات الثلاث عمر قلبٍ يقطعه المرض، وينتظرون به العرس، وينتظر بنفسه الرمس! يا عجائب القدر! أذاك لحن موسيقي لأنينٍ استمر ثلاث سنواتٍ، فجاء آخره موزوناً بأوله في ضبطٍ ودقة؟

أكانت تلك العذراء تحمل سراً عظيماً سيغير الدنيا، فردت الدنيا عليها يوم التهنئة والابتسام والزينة - وهو يوم الولولة والدموع والكفن؟

- 2 - واهاً لك أيها الزمن! من الذي يفهمك وأنت مدة أقدار؟ واليوم الواحد على الدنيا هو أيام مختلفة بعدد أهل الدنيا جميعاً، وبهذا يعود لكل مخلوقٍ سر يومه، كما أن لكل مخلوقٍ سر روحه، وليس إليه لا هذا ولا هذا

وفي اليوم الزمني الواحد أربعمائة مليون يوم إنساني على الأرض! ومع ذلك يحصيه عقل الإنسان أربعا وعشرين ساعة؛ يا للغباوة. . .!

وكل إنسان لا يتعلق من الحياة إلا بالشعاع الذي يضيء المكان المظلم في قلبه. والشمس بما طلعت عليه لا تستطيع أن تنير القلب الذي لا يضيئه إلا وجه محبوب

وفي الحياة أشياء مكذوبة تكبر الدنيا وتصغر النفس، وفي الحياة أشياء حقيقية تعظم بالنفس وتصغر بالدنيا؛ وذهب الأرض كله فقر مدقع حين تكون المعاملة مع القلب

أيتها الدنيا؛ هذا تحقيرك الإلهي إذا أكبرك الإنسان!

ويا عجبا لأهل السوء المغترين بحياة لابد أن تنتهي! فماذا يرتقبون إلا أن تنتهي؟ حياة عجيبة غامضة؛ وهل أعجب واغمض من أن يكون انتهاء الإنسان إلى آخرها هو أول فكره في حقيقتها؟

فعندما تحين الدقائق المعدودة التي لا ترقمها الساعة ولكن يرقمها صدر المحتضر. . . عندما يكون ملك الملوك جميعاً كالتراب لا يشترى شيئاً البتة. . .

. . . ماذا يكون أيها المجرم بعد ما تقترف الجناية، ويقوم عليك الدليل، وترى حولك الجند والقضاة، وأمامك الشريعة والعدل؟

أعمالنا في الحياة هي وحدها الحياة، لا أعمارنا ولا حظوظنا. ولا قيمة المال، أو الجاه، أو العافية، أو هي معاً - إذا سلب صاحبها الأمن والقرار! والآمن في الدنيا من لم تكن وراءه جريمة لا تزال تجري وراءه. والسعيد في الآخرة من لم تكن له جريمة تطارده وهو في السموات

كيف يمكن أن تخدع الآلة صاحبها وفيها (العداد)، ما تتحرك من حركة إلا أشعرته فعدها؟ وكيف يمكن أن يكذب الإنسان ربه وفيه القلب؛ ما يعمل من عمل إلا أشعره فعده؟

- 3 - ورأيت العروس قبل موتها بأيام

أفرأيت أنت الغنى عندما يدبر عن إنسان ليترك له الحسرة والذكرى الأليمة! أرأيت الحقائق الجميلة تذهب عن أهلها فلا تترك لهم إلا الأحلام بها؟ ما اتعب الإنسان حين تتحول الحياة عن جسمه إلى الإقامة في فكره!

وما هي الهموم والأمراض؟ هي القبر يستبطئ صاحبه أحياناً فينفض في بعض أيامه شيئاً من ترابه. . .!

رأيت العروس قبل موتها بأيام، فيالله من أسرار الموت ورهبتها! فرغ جسمها كما فرغت عندها الأشياء من معانيها! وتخلى هذا الجسم عن مكانه للروح، تظهر لأهلها وتقف بينهم وقفة الوداع!

وتحول الزمن إلى فكر المريضة؛ فلم تعد تعيش في نهار وليل، بل في فكرٍ مضيء أو فكر مظلم!

يا إلهي، ما هذا الجسم المهدم المقبل على الآخرة؛ أو تمثال بطل تعبيره، أم تمثال بدأ تعبيره؟

لقد وثقت أنه الموت، فكان فكرها الإلهي هو الذي يتكلم؛ وكان وجهها كوجه العابد؛ عليه طيف الصلاة ونورها. والروح الإنسانية متى عبرت لا تعبر إلا بالوجه

ولها ابتسامة غريبة الجمال، إذ هي ابتسامة آلامٍ أيقنت أنها موشكة أن تنتهي! ابتسامة روح لها مثل فرح السجين قد رأى سجانه واقفاً في يده الساعة، يرقب الدقيقة والثانية ليقول له: (انطلق!)

ودخلت أعودها فرأت كأنني آتٍ من الدنيا. . .! وتنسمت مني هواء الحياة، كأنني حديقة لا شخص!

ومن غير المريض المدنف، يعرف أن الدنيا كلمة ليس لها معنى أبداً إلا العافية؟ من غير المريض المشفى على الموت، يعيش بقلوب الناس الذين حوله لا بقلبه؟

تلك الحالة لا تنفع فيها الشمس ولا الهواء ولا الطبيعة الجميلة، ويقوم مقام جميعها للمريض أهله وأحباؤه!

وكان ذووها من رهبة القدر الداني كأنهم أسرى حربٍ اجلسوا تحت جدارٍ يريد أن ينقض! وكانت قلوبهم من فزعهاتنبض نبضاً مثل ضربات المعاول.

وباقتراب الحبيب المحتضر من المجهول، يصبح من يحبه في مجهولٍ آخر فتختلط عليه الحياة بالموت، ويعود في مثل حيرة المجنون حين يمسك بيده الظل المتحرك ليمنعه أن يذهب! وتعروه في ساعة واحدة كآبة عمرٍ كاملٍ، تهيئ له جلال الحس الذي يشهد به جلال الموت!

وحانت ساعة ما لا يفهم، ساعة كل شيء، وهي ساعة اللاشيء في العقل الإنساني! فالتفت العروس لأبيها تقول: (لا تحزن يا أبي. . .) ولأمها تقول: (لا تحزني يا أمي. . .!)

وتبسمت للدموع كأنما تحاول أن تكلمها هي أيضاً؛ تقول لها: (لا تبكي. . .!) وأشفقت على أحيائها وهي تموت، فاستجمعت روحها ليبقى وجهها حياً من أجلهم بضع دقائق! وقالت: (سأغادركم مبتسمة فعيشوا مبتسمين، سأترك تذكاري بينكم تذكار عروس!. . .)

ثم ذكرت الله وذكرتهم به، وقالت: (أشهد أن لا إله إلا الله) وكررتها عشراً! وتملأت روحها بالكلمة التي فيها نور السموات والأرض، ونطقت من حقيقة قلبها بالاسم الأعظم الذي يجعل النفس منيرة تتلألأ حتى وهي في أحزانها

ثم استقبلت خالق الرحمة في الآباء والأمهات! وفي مثل إشارة وداع من مسافر انبعث به القطار، ألقت إليهم تحية من ابتسامتها، وأسلمت الروح!

- 4 -

يا لعجائب القدر! مشينا في جنازة العروس التي تزف إلى قبرها طاهرةً كالطفلة ولم يبارك لها أحد! فما جاوزنا الدار إلا قليلاً حتى أبصرت على حائطٍ في الطريق، إعلاناً قديماً بالخط الكبير الذي يصيح للأعين؛ إعلاناً قديماً عن رواية هذا هو اسمها: (مبروك. . .!)

واخترقنا المدينة وأنا أنظر وأتقصى، فلم أر هذا الإعلان مرة أخرى! واخترقنا المدينة كلها، فلما انقطع العمران وأشرفنا على المقبرة، إذا آخر حائط عليه الإعلان: (مبروك. . .!)

طنطا

مصطفى صادق الرافعي