مجلة الرسالة/العدد 89/ملخص محاضرة

مجلة الرسالة/العدد 89/ملخص محاضرة

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 03 - 1935



الفن الفارسي

للشاعر الإنكليزي

(وفد على مصر في هذه الأيام الشاعر الإنكليزي المشهور مستر لورنس بنيون أمين القسم الشرقي بالمتحف البريطاني، وألقى أربع محاضرات تناول فيها أغراضاً مختلفة في الفن والأدب، وهذه أولى محاضراته عن الفن الفارسي)

إن الكلام عن الفن الفارسي يستوجب من المحاضر أن يلم في بادئ الأمر بالموقع الجغرافي الذي كان له أثر لا ينكر في توجيه الرسم الفارسي ناحية خاصة، يلاحظها كل من له اهتمام به وتعلق بدراسته، وإن وقوع فارس بالقرب من بلاد العرب وتوسطها بينها وبين بلدان الشرق الأقصى صبغ الفن الفارسي بصبغة خاصة وإن ظل مع ذلك محتفظاً بروحه القوية، وشخصيته البارزة التي تميزه تميزاً واضحاً جلياً من فنون الأمم الأخرى سواء أكانت غربية أم شرقية، فلهذا الفن مميزاته الخاصة وروحه المستمدة من صميم الواقع

وكما أن للظروف الجغرافية تأثيراً، كذلك للظروف السياسية أثراً لا يمكن للباحث أن يتجاهله أو ينكره، فقد تغلبت على هذه البلاد عدة دول حاكمة كالإغريق في القديم والساسان والمسلمين، وكانت الدولة الساسانية آخر الدول الفارسية التي حكمت إيران، والتي توطد لها العرش زهاء أربعة قرون منذ القرن الثالث حتى السابع الميلادي، إذ ظهر قبل ذلك بقليل دولة الإسلام الفتية، فاكتسحت ما في طريقها، وخفق علم الإسلام على كثير من ربوع العالم، ولما كانت فارس قريبة من بلاد العرب فقد اتجهت إليها أنظارهم بطبيعة الحال والموقع، ولم يلبث العرب أن خضدوا شوكة دولة بني ساسانواستتبت أقدامهم فيها، كما أخذ الدين ينتشر في ربوعها، ومن ثم أخذ الفن الفارسي من رسم إلى تصوير إلى شعر يتأثر بعض الشيء بهذه الظروف الجديدة التي أحاطت به، وربما كان ذلك أوضح في الشعر منه في الرسم والتصوير

وهنا نرى لزاماً علينا أن نشير إلى أن العرب حين غزوا هذه البلاد كانت هناك نهضة فنية، تدلنا على ذلك الآثار التي أماطت اللثام عنها بعثة ألمانية، إذ عثرت على كثير من هذه الرسوم في بلاد الأفغان، وأقدم هذه اللوحات بوذية، ولكنها على درجة عالية من الإتقان

وقد قامت في ذلك الحين مدرسة فنية في بغداد التي كانت مركزاً ثقافياً إسلامياً مهما، وإذ كان العرب قد نشروا سلطانهم على هذه الربوع، فقد أدوا للفن خدمة كبرى بأن كانوا وسيطاً قوياً في نقل الروح الغربية إلى الشرق، وتطعيم الفن الفارسي بالفن العربي، وذلك بأن العرب اتصلوا اتصالاً مباشراً بالأمم الواقعة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وتعاملوا معها في جميع مرافق الحياة. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فلابد لنا من أن نشير إلى أن أثر الفن الصيني كان أقوى من تأثير الفن الأوربي في التصوير الفارسي، وإن المقارنة بين الفنين الصيني والفارسي لتظهر لنا هذا أجلى من المقارنة بين الثاني والغربي؛ وكان الاختلاط في أول الأمر قليلاً، ولكن الظروف المحيطة غيرت الأمر الواقع، وزادت الصلات توثقاً، إذ ظهرت دولة المغول، وهم من الجنس الأصفر تحت زعامة القائد المعروف تيمورلنك، فاتصلت البلاد الصينية بربوع الشرق الأدنى، وأصبحت هذه البلاد جميعاً أكثر ارتباطاً من ذي قبل. وهنا كان عصر ازدهار وقوة للفن الفارسي!

ذلك بان الفنانين الفارسيين حين شاهدوا آثار المصورين الصينين أعجبهم هذه البراعة الفائقة والدقة المتناهية في إبراز العواطف والمناظر المختلفة في صور محسوسة تسترعي الانتباه، وتشهد لهم بالعبقرية والفن، إذ كانت هذه الرسوم تستلزم التفكير الدقيق في كيفية تهيئتها وإبرازها على هذا النحو العجيب، ومن ثم بدأوا يجارونهم وينهجون سبلهم، ويترسمون آثارهم وقواعدهم، ورأوا أن إبراز الإحساس بالواقع عند الصفر أكثر مما عندهم، كما شاهدوا الدقة العظيمة والقدرة الرائعة في تجسيم كل ما تقع عليه العين في صورة جذابة، كما أنهم لم ينسوا أن يستلهموا الطبيعة صوراً ويستمدوا منها فنا جعلنا نقف موقف الإجلال إزاء هذا الفن العالي المجسم، حتى إنهم صوروا تسلسل المياه مما لا ينقصه إلا الخرير حتى تكون طبيعة ثانية من عمل المرء بجانب الطبيعة التي أوجدها الله

وقد يظهر لنا من هذا الكلمة السالفة أن الفن الفارسي كان صورة ثانية للفن الصيني، أو هو فن صيني رسمته ريشة فارسية، ولكن الحقيقة هي أنه بالرغم من تأثره إلى حد ما بالرسم الصيني فقد ظل محتفظاً بشخصيته وروحه وطبيعته الفارسية، ولا يشين الفن الإيراني أن يكون قد أجل الفن الصيني؛ ومهما يكن الأمر فهناك فروق تظهر جلية للباحث المدقق، حين تعرض عليه صورتان لمنظر واحد أولاهما لمصور صيني والأخرى لفارسي؛ ونحن حين نستعرض صورتين لمنظر من مناظر الطبيعة مثلاً، تبارت في إحداهما ريشة صينية وفي الأخرى فارسية، فإننا نلاحظ في الأولى التحرر من القيود الطبيعية وعدم التزام وحدة معينة، بل نرى كيف يخضع الفنان الطبيعة لريشته، بينما نلمس تناسق الأجزاء وترتيب بعضها بالنسبة للبعض الآخر في صورة الفنان الفارسي، وربما سأل السامع نفسه إزاء هذا عن العلة أو العلل الحقيقية والمباشرة أو غير المباشرة التي أدت إلى افتراقهما بعضهما عن بعض بعد أن اتحدا في الفكرة، أهي الخيال؟ أم الإحساس؟ أم طبيعة كل منهما؟ وقد يكون ذلك أحد هذه الأسئلة، وقد تكون جميعاً متحدة، ولكن هناك أمراً لا بد منه، ولا بد أن نذكره إذا أردنا إجابة شافية توصلنا أو تقربنا إلى بغيتنا، ذلك أن استيعاب الفنان الإيراني للمسافات لم يكن كاستيعاب الصيني لها واهتمامه بها، فبينا نجد عند الأخير الطلاقة الفنية، والإحساس بالحرية، إذا بنا نجد الفنان الفارسي يحدد قبل البدء، ويرسم لريشته محيطاً لا تتعداه، ومجالا لا تخرج عنه بحال من الأحوال

وصفة ثانية كان يمتاز بها الفنان الفارسي على وجه العموم، تلك هي أنه لم يكن ليشرد بريشته كثيراً، وربما عد هذا في نظر بعض نقاد العصر الحاضر جموداً، وقد يخالفهم في نظرتهم هذه كثيرون، ولكل من الفريقين وجهة ورأي يباين رأي الفريق الآخر، وقد يتعصبون لهذه الأفكار والآراء، ولكنهم يتفقون في أنه عمل رائع جدير بالإعجاب، وسواء أكان الحق في جانب هذا أم ذاك، فذلك أمر مرجعه إلى الذوق الفني والشعور الرهف الذي يستشف الحقيقة خلال الطلاسم، ويتلمس الشعلة من بين أسداف الظلام، ويتعرف الصواب والحق مهما تكالبت أسباب الباطل، ويستخرجه كما يستخرج التبر من الثرى نقياً ولعل أقرب الأمثلة على هذه الصفة التي أشرنا إليها آنفاً: أعمال (بهزاد) وهو أكبر فنان فارسي تبوأ ذروة المجد من رسومه الفنية، وكان ممتازاً في إخراجها، قوي الإفصاح عن مقصوده، ولكنه بالرغم من هذا المجد التالد والفن الخالد، فإننا لا نجده قد قام بأية ثورة على هذه القيود - كما يسميها البعض - ولم يحاول أن ينتزع نفسه من ربقة التقاليد وترسم الآثار، ولم نشهد له محاولة ولو ساذجة تجعلنا نقول إن هناك تباشير تطور أو حركة تجديدية ضد ما تآلفوا عليه، بل رأيناه وخلفه يسيرون على منهج واحد، كأنما استسهلوا هذه الطريق المعبدة، ولكنهم على أي حال، وإن كانوا قد انصرفوا عن هذا الطريق، إلا أنهم جميعاً كرسوا جهودهم وصرفوا قواهم في إبداع آيات خالدات في الفن، تشهد لهم بالعبقرية، وحسبهم فخراً أن يهتم المتحف البريطاني في إنجلترا بلوحات الفنانين قاسم على والسعدي وغيرهما من أقطاب الفن الفارسي. وعلى العموم يمكننا أن نقول إن الفن الفارسي فن لا يكتفي بالنظرة الواحدة للحكم عليه ففي ذلك شيء كبير من الاستبداد، وهو فن عالمي يشهد للفرس بالدقة والبراعة

تلخيص وترجمة حسن محمد محمود