مجلة الرسالة/العدد 895/الغزالي وعلم النفس
مجلة الرسالة/العدد 895/الغزالي وعلم النفس
للأستاذ حمدي الحسيني
الإدراك
تبين مما سقناه في المقال السابق أن الإمام الغزالي رحمه الله قد حاول أن يفهم طبيعة العقل وكنهه. فعجز عن فهم هذه الطبيعة وإدراك هذا الكنه. (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) فلجا إلي آثار العقل ومظاهره أو معانيه وصفاته. فوفق في فهم هذا كل التوفيق وإدراك من صفات العقل ومعانيه ما جاء موافقا كل الموافقة لما وصل إليه علم النفس الحديث في هذا الموضوع؛ فقد أدرك الإمام الغزالي ببصيرته النيرة أن في الإنسان استعدادا للفهم، وان هذا الاستعداد غريزي فطري، وانه كالنور الذي يقذف في القلب فيعين صاحبه على إدراك الأشياء، ثم راح يقسم هذا الإدراك للأشياء أقساما أعتبرها أجزاء العقل أو صفاته ومعانيه، فكان موفقاً أيضاً غاية التوفيق في ذلك التقسيم الدقيق الذي شمل المعرفة العقلية من ابسط أنواعها الغريزية إلى أرقى درجاتها الفكرية.
ثم أدرك الغزالي أن العقل وحدة تشمل خبرة الإنسان الماضية والحاضر وميوله النفسية الموروثة والمكتسبة وتتجلى هذه الوحدة العجيبة في الإدراك والوجدان والنزوع وعناصره البسيطة.
ولهذا رأيناه يتحدث في الجزء الأول من إحياء علوم الدين عن العلم والعقل في قسم واحد مما دلنا دلالة تامة على أنه كان رحمه الله مدركا ما قرره علم النفس الحديث من وحدة العقل الشاملة لخبرة الإنسان الماضية الحاضرة وميوله النفسية الموروثة والمكتسبة وأن هذه الوحدة تتجلى في مظاهر الشعور الثلاثة وهي الإدراك أو ما سماه هو (العلم) والوجدان وهو ما سماه (الحال) والنزوع وهو ما سماه (العمل).
ولندع الآن هذا ولنأخذ الجزء الأول من إحياء علوم الدين فنقلب صفحاته فنعرف لأول وهله أنه كتاب في علم النفس التربية والتعليم. إذ أكثر الكتب النفسية والتربوية الحديثة يفتتحها أصحابها بتمهيدات في معنى العلم وأغراضه، ومواضيع العلوم وغاياتها وأقسامها وأسمائها، وتعريف للنفس أو العقل أو الروح، وتقسيم للشعور والللاشعور، وتحديد للغرائ والميول وتبين للسلوك وأنواعه العادية والشاذة، وما يتبع هذا من المواضيع النفسية، فنرى الغزالي رحمه الله يبدأ كتابه الأحياء بالحديث عن المرتكزة على تلك المعرفة النفسية الواسعة المستمدة من تأمله الذاتي العميق وملاحظته الخارجية الدقيقة. وها نحن نراه يتحدث عن العلم في سبعة فصول يذكر فيها فضل العلم والتعلم والتعليم ويذكر أسماء العلوم ومواضيعها، وآداب المعلم المتعلم وآفات العلم والعلماء والعقل وفضله وأقسامه وما جاء فيه من الأخبار
ولنصغ إليه وهو يتحدث عن فضيلة العلم، مندفعا بالمعرفة الغريزية والإيمان القوي والعاطفة المشبوبة: (أعلم أن الشيء النفيس المرغوب فيه ينقسم إلى ما يطلب لغيره وإلى ما يطلب لذاته وإلى ما يطلب لغيره ولذاته جميعاً. فما يطلب لذاته اشرف وافضل مما يطلب لغيره. وبهذا الاعتبار إذا نظرت إلى العلم رايته لذيذاً في نفسه مطلوباُ لذاته، ووجدته وسيله إلى الآخرة وسعادتها وذريعة إلى القرب من الله تعالى ولا يتوصل إليه إلا به. وأعظم الأشياء ما هو وسيلة إليها، ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل، ولا يتوصل إلى العمل ألا بالعلم؛ فاصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم فهو إذن أفضل الأعمال)
يستمر الإمام الجليل مندفعاً في تبين فضائل العلم وتفاوت هذه الفضائل بالنسبة لخير الناس عامة ولسعادة المسلمين في الدنيا والآخرة بصورة خاصة. ونحن نلمح هنا في هذا القول الذي سطره قلم الغزالي عن فضيلة العلم أن الغزالي يشير إلى وحدة الشعور والعملية العقلية إشارة واضحة صريحة. يقول لن يتوصل إلى السعادة إلا بالعلم والعمل، فالعلم والعمل هما المظهران الأساسيان للشعور الإنساني؛ أما العاطفة فهي ما تجده في نفسك من لذة أو ألم يصحب الإدراك والنزوع أو العلم. وهو يؤكد هذا المعنى فيما بعد بقوله الواضح الصريح (إن العلم ينقسم إلى علم مكاشفة وعلم معاملة والمعاملة، التي كلف العبد البالغ العمل بها ثلاثة: اعتقاد وفعل وترك وهو يعني الاعتقاد العلم الأكيد الذي لاشك فيه. ويعني بالفعل والترك النزوع الإيجابي والنزوع السلبي، وما يسميه علم النفس الحديث (بالتوفيق والكف). وكأن الغزالي أراد أن يزيد هذا المعنى وضوحاً وتوكيداً، فقال في موضوع آخر: لا يستطاع العمل إلا باليقين، ولا يعمل المرء إلا بقدر يقينه، ولا ينقص عامل حتى ينقص يقينه). أما علم المكاشفة الذي ذكره الغزالي فهو وحي العقل الباطن وإلهام اللاشعور.
ولنسمع الآن ما يقوله الغزالي في هذا الموضوع:
(أعلم أن العلم قسمان، علم مكاشفة وعلم معاملة. أما علم المكاشفة فهو علم الباطن وذلك غاية العلوم، وهو علم الصديقين والمقربين وهو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة ويتكشف من ذلك النور أمور كثيرة كان يسمع من قبل أسمائها فيتوهم لها معاني مجملة غير متضحة، فتضح إذا ذاك حتى تحصل المعرفة الحقيقة) ثم يقول: (ونعني بعلم المكاشفة أن يرتفع الغطاء حتى الحق في الأمور اتضاحا يجري مجرى العيان الذي لا يشك فيه وهذا ممكن في جوهر الإنسان).
وما دمنا نتحدث عن رأي الغزالي في العلم كجزء من العملية العقلية فقد وجب علينا أن نتحدث عن العقيدة والأيمان واليقين في نظر الغزالي لأنها أنواع من العلم تتخذ أشكالا خاصة في النفوس البشرية، وتولد فيها عواطف قوية تدفع بأصحابها إلى أعظم الأعمال، وتعينهم على تحمل أفدح الآلام. ولنسمع الآن ما يقوله الغزالي في هذا الموضوع الجليل: (أعلم أن اليقين لفظ مشترك يطلقه فريقان لمعنيين مختلفين أما النظار المتكلمون فيعبرون به عن عدم الشك. إذ ميل النفس إلى التصديق بالشيء له أربع مقامات.
(الأول) أن يعتدل التصديق والتكذيب ويعبر عنه بالشك.
(الثاني) أن تميل نفسك إلى أحد الأمرين مع الشعور بإمكان نقيضه ولكنه لا يمنع ترجيح الأول وهذه الحالة تسمى ظناً
(والثالث) أن تميل النفس إلى التصديق بالشيء بحيث يغلب عليها ولا يخطر بالبال غيره، ولو خطر بالبال تأبى النفس عن قبوله ولكن ليس ذلك مع معرفة محققة، إذ لو أحسن صاحب هذا المقام التأمل والإصغاء إلى التشكيك والتجويز، اتسعت نفسه للتجويز وهذا يسمى اعتقادا مقرباً لليقين. (والرابع) المعرفة الحقيقية الحاصلة بطريق الرهان الذي لا يشك فيه. فإذا امتنع وجود الشك وامكانه يسمى يقينا. وأما الفقهاء والمتصوفة فلا يلتفتون في اليقين إلى التجويز والشك بل إلى استيلائه على العقل، فمهما مالت النفس إلى التصديق بشيء وغلب ذلك على القلب واستولى عليه حتى صار هو المتحكم والمتصرف في النفس بالتجويز والمنع سمي ذلك يقينا). ولنسمع أيضاً ما يقوله الغزالي في الإيحاء الذي يتكون به الاعتقاد واليقين: إعلم أن ما ذكرناه في ترجمة العقيدة ينبغي أن ينكشف له معناه في كبره شيئاً فشيئاً. فابتدءوا الحفظ ثم الفهم ثم الاعتقاد والإيقان والتصديق به. وذلك مما يفعل في الصبي بغير برهان.
نقف الآن فنستعرض ما مر بنا من أقوال الغزالي استعراضاً سريعاًَ لنرى فيها نظريات نفسية معتبرة وقواعد علمية مقررة، نرى احسن وصف لمعاني العقل وصفاته واحسن تقسيم لهذه المعاني والصفات، نرى وصفاً دقيقاً للعقل الباطن والعقل الواعي والوحدة العقلية ومظاهر الشعور الإنساني. ويدهشنا حقاً أن نرى هذه المعرفة الزاخرة بأسرار العلم الحديث عن الاستهواء الذاتي الخارجي، وهو اليقين الذي يستولي على القلب، وما هذا اليقين الذي يستولي على القلب إلا ما يسميه على النفس الحديث بانقسام الشخصية أي انفصال الآراء والذكريات والعواطف والمعارضة للفكرة الموحى بها ووقوفها موقفاً سلبياً في حين أن الآراء والانفعالات المؤيدة هي التي تكون بارزة في الشعور ومتخذة موقفاً إيجابياً.
حمدي الحسيني