مجلة الرسالة/العدد 9/العلوم

مجلة الرسالة/العدد 9/العلوم

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 05 - 1933


ُلوم

حديث قملة عجوز

للدكتور احمد زكي. الأستاذ بكلية العلوم

لا يلذ لكم معشر البشر أن نتحدث إليكم نحن معشر القمل، لأننا في

أعينكم شارة الأقذار ظل الأوساخ، وتلك قذيفة لا تقوم على حجة ولا

يدعمها برهان، فنحن لا نتغذى إلا من دمائكم، ولا نرتوي إلا من

ثغور نثقبها في جلودكم، وسواء لدينا الجسم القذر والجسم النظيف،

وربما كان الجسم النظيف أحب إلينا، لأن مثاقب القوت تكون عندئذ

أقرب إلينا ولكن صاحب الجسم النظيف لا يعطينا المهلة للحياة فهو

يغير ملابسه المرة تعقبها المرة، فيحول بذلك بيننا وبين موارد أرزاقنا

فنموت جوعا في يومين وقد نحيى إلى سبع، لأننا في طيات هذه

الملابس نتخذ منازلنا ولا نخرج عنها إلى الجسم الا طلباً للقوت، فإذا

أصبناه عكفنا راجعين إليها.

وقلتم أن القمل سبب لأمراض قاتلة كالتيفوس، والحق أننا لا نخلق المرض ولا نبتدع الشر فأصول هذه الأوبئة فيكم وعنكم نأخذها في الدم الذي نستقيه منكم، وبالرغم حبنا لمساقط رؤوسنا وألفتنا للجسم الذي نشأنا عليه وترعرعنا، تضل منا أحياناً أفراد فتنتقل غير واعية من رجل مريض إلى رجل سليم لا سيما في الزحمة حيث تتلاقى المناكب وتتلاصق الثياب، فإذا هي وردت منهله العذب لوثته، بما حملت من المنهل الأكدر، فترون من هذا أنا لا نخلق السوء وإنما نسوي بينكم في الأسواء.

وأسميتمونا المتطفلة لأننا لا نستطيع هضم كل طعام كما تستطيعون، وليس لنا جهاز هاضم راق كالذي به تهضمون، فأنتم تهضمون لنا الغذاء، فنمتصه منكم مهضوماً في الدماء، وليت شعري أي سبة في هذا أو عار أفلستم تتطفلون على الشاة والبقر وصنوف الطير والنبات الحي فتزدردونها كلها ازدراد، أفترون الشعرة في أعين الناس ولا ترون الخشبة في عيونكم، على أنه مقدار حقير ذلك الذي نمتصه في الوجبة الواحدة ولسنا نطعم غير وجبتين في اليوم، لنا في الطعام ذوق الأعزة الكرام، فنحن نعاف دم المريض ونتقزز من أجسام الموتى فنفارقها مع الحياة.

واحتقرتمونا لصغر أجسامنا وكبر أجسامكم فإن فاتنا الجرم الكبير فقد أصبنا العدد الكثير، فالأنثى منا لا تبلغ اليوم الثامن بعد أفراخها حتى تلد ثم تلد ثم تلد، وهي لا تلد واحداً أو اثنين في العام كما تلدون وإنما تبيض في المرعى الخصيب عشراً كل يوم، فإن عاشت الأنثى أربعة أسابيع فقد تبيض مائتين من الصئبان، وإن امتد بها العمر إلى أرذله فعاشت ستة أسابيع فقد تبيض ثلاثمائة بيضة، والبيضة من بيضاتها تلبث السبعة الأيام أو الثمانية ثم تفرخ، فانظر إلى العدد الكبير من الخلف الصالح الذي تخلفه الأنثى منا قبل مفارقتها هذه الحياة الفانية. أنا بالطبع أنثى شيخة أكاد أستكمل الثلاثين ربيعا، وما ربائعنا إلا أياما، نسلت من الأبناء والأحفاد ما نسلت، ولكني انسل ولا أتعهد نسلي، وكل ما أفعله أن أتخير لهم الموضع الأمين، فأنا أبيضهم على كل شعار خشن ألقاه، وأبيضهم على فتائل الملابس ولا سيما حيث يخاط اللفاق باللفاق، ليكون لهم معتمد عليها وفي دروءها ستر من عصف الزمان. وأبيضهم على الأشعرة دون الأدثرة حتى إذا أفرخوا كانوا من طعامهم قاب خطوات من خطواتنا، ومن الدفء اللازم لأفراخهم على بعد قامة من قاماتنا، فنحن مثلكم حاجتنا للدفء لا تقل عن حاجتنا للطعام، وأوفق الحرارة التي نبيض فيها هي ما دون حرارتكم بدرجتين، والدرجات التي تعلو على الستين تهلك بيضنا، والدرجات الواطئة تعطل أفراخه، فإذا هبطت إلى ما دون ألـ 22 درجة امتنع أفراخه بتاتا.

وسواء ارتفعت الحرارة أو انخفضت فبيضنا لا صبر له على البعد عن أجسامكم طويلا، فإن رمى به الحظ العاثر إلى ملابس خلعتموها يصابر شهراً وبعض شهر رجاء أن تعودوا فتلبسوها ويعود هو إلى أفراخه، فان لم تفعلوا فالويل لذرارينا فانهم يهلكون يا كبدي ولم ينعموا بخطوة واحدة على جلدكم الوطيء ولم يستمتعوا بقطرة من شرابكم المريء.

وللفرد منكم معشر البشر عمر طويل موفور، وللفرد منا معشر القمل عمر قصير منقوص، الا أن حظنا من الزمن مجموعين مثل حظكم ونصيبنا من قديمه وحديثه مثل نصيبكم، نطاولكم في القدم ونكاثركم فيما طويناه جميعا من مراحل الأزل، فإن كانت نطفتكم قديمة فلعل بيضنا أقدم، وسنسايركم إن شاء الله على حذاء في مجاهل الأبد، فما دام فيكم الجهل والفقر بقدر كائنا ما كان فرفقتنا لن تنفصم عراها بإذن الله، فالجهل والفقر لابد دائما فيكم دوام الأنانية والفردية بعون ربنا وربكم تقدست أسماؤه.

نعم ربنا وربكم، فإن لنا مكانا في الخليقة مثل مكانكم، فما الخليقة إلا قبائل وبطون وأفخاذ جمعها أصل واحد، وفرقت بينها أجواء مختلفة وبيئات متباينة وحظوظ من العيش متفاوتة، فنحن وكثير من أحياء البحار كالاربيان وأبي جلنبو والجنبري قبيل واحد، ولكنهم اختاروا الماء واخترنا الأرض فكان منا النحل والصرصور والجراد والبق وعدد عديد من الأجناس يبلغ المليونين لم يتعرف علماؤكم منه غير مائتين وخمسين ألف. فقبيلنا نحن أبناء الحشر في قبائل الأحياء أكبر قبيل، وانقسمنا بعد ذلك بطوناً، وانقسمت البطون أفخاذاً حتى بلغ التقسيم إلينا نحن عشائر القمل، ومنا عشائر تعيش على الطير تقرض ريشه، ومنا عشائر تعيش على الحيوان كالكلب والإنسان تمتص دمه. وتستوطن أجسامكم يا سادة الحيوان ثلاثة أجناس منا، جنس يستمرئ جذوعكم وأطرافكم، وهو أكبر الأجناس وأنا المتحدثة إليكم منه، وجنس يحب المسكن الأعلى والمرقب الأسنى فاختار رؤوسكم، وجنس استأثر بمواضع العفة منكم. نحن الثلاثة الأجناس نعيش في كنفكم ووفير كرمكم، نستجدي أجسامكم وهي لا تعرف المنع، ونستحلب دماءكم وعادتها العطاء، فتشكل خلقنا وفقا لهذا العيش اللين والنعمة الميسورة، ففقدنا أجنحتنا لما فقدنا الحاجة إلى التنقل، واشتدت أرجلنا وقصرت لتمسك بشعوركم وتلصق أشد التصاق بجلودكم وبفتائل ثيابكم ومن ذا الذي لا يستمسك بالمرعى الخصيب والرزق القريب، واستحالت أفواهنا فصارت قادرة على الثقب والمص، ولنا قناة هضمية ودورة دموية وجهاز للتنفس وجهاز عصبي، كلها بقدر بساطة حاجاتنا، ولنا عينان كبيرتان في مقدمة رأسنا، والى جانبيهما قرنان نستهدي بهما، ويلي الرأس صدر يحمل من الأرجل ثلاثة أزواج بأطرافها مخالب كالإبر إلا أنها تعرف كيف تترفق في السير عليكم، ويلي الصدر منا بطن كبير هو كل ما بقي منا. وعلى هذا المثال يتقسم الحشر جميعه، وتتراءى بظاهرنا تقاطيع حلقية كأنما ضم خاتم إلى خاتم إلى خاتم، ولا غرابة في هذا فبين قبيلنا وقبيل الديدان وشائج وأرحام.

وتفننتم يا أهل المروءة والحنان في طرق إبادتنا. كنتم تبيدوننا بالماء الساخن والصابون ففطنتم إلى أن كثيرا منا يفلتون بأرواحهم وإلى أنكم إن أعدمتم بذلك البالغين منا فقد فاتكم أن تعدموا الصئبان، فخلطتم الصابون بالجاز وبئس ما فعلتم، فالجاز من أسمّ السموم لنا، نموت نحن وبيضنا إذا غمسنا دقيقة فيها ولا نستطيع مقاومة بخاره غير ثلاثين دقيقة. وهداكم سوء طالعنا إلى مواد أسم وأفعل من الجاز نموت على الفور نحن وبيضنا إن تبللنا بها ونعدم بعد 5 دقائق في استنشاق أبخرتها، ولكن يعزينا أنها ليست في متناول كل أحد منكم لندرتها، ولغلائها.

على أنه لا ملامة عليكم ولا تثريب في ذلك، فكلنا يطلب العيش والحياة، فأنتم تسعون للبقاء ونحن نسعى للبقاء، والحرب بيننا سجال، والحرب بين أجناس الخلائق سجال كذلك، جنس يقاتل جنسا ثانيا فيقتل منه، وجنس ثان يقاتل جنساً ثالثاً فيقتل منه، وجنس ثالث يقاتل الجنس الأول فيقتل منه، فهي حروب في دوائر، وكل ما دار في دائرة فلا انتهاء له ولا انقضاء، وسبحان راسم الدوائر ذي الخلود والبقاء.