مجلة الرسالة/العدد 9/في الأدب الشرقي

مجلة الرسالة/العدد 9/في الأدَبِ الشرقي

مجلة الرسالة - العدد 9
في الأدَبِ الشرقي
ملاحظات: بتاريخ: 15 - 05 - 1933



من الأدب التركي

الزامر الأعمى

للدكتور عبد الوهاب عزام

جلست إلى دواوين الشعر التركي أقلب الأجيال بين يدي: أطالع مرة وجه (نجاتي) و (ذاتي) وأنظر أخرى إلى (باقي) و (نفعي) وثالثة أرى (نديما) (وراغب باشا) و (الشيخ غالب) ثم أعمد إلى العصور الأخيرة فإذا اسناسي و (نامق كمال) و (ضيا باشا) و (توفيق فكرت) و (عبد الحق حامد) وغير هؤلاء.

وبينا أطوي العصور باللمحات، وأقلب الأجيال تقليب الصفحات، بصرت (بالصفحات) ديوان الشاعر الكبير صديقي الكريم محمد بك عاكف. فسارعت إلى الجزء الأول فانفتح عن قطعة عنوانها (الزامر الأعمى) فقرأتها ثم عمدت إلى القلم فترجمتها نثراً إذ ضاق الوقت دون نظمها وأنا أقدمها للقراء كما جاءت عفو البديهة في الاختيار والترجمة:

الزامر الأعمى

كنت أرى هذا السائل الضرير، يتأبط ذراع قائده، وفي يده قصبة عتيقة، ينبعث منها صوت قوي، كأنه النواح في المأتم. ويمر به الناس فيقفون ويستمعون رحمة به ورثاء له. ثم يلقي كل منهم إلى كشكوله البائس الذليل خمس بارات أو عشراً.

كان يبعث أناته في قصبته المرضوضة فينبعث إلى أذنه في رنين العشرات والخمسات صدى البشرى، ورسالة المودة، رنات لا تفنى في أنين الناي الحزين، ولكنها تؤلف نغمة أخرى تسايره. كم أحزنني هذا الصوت! وكم أمضني ذلك المرأى الأليم!

إنه من دهره في ليال متتابعة مديدة، لا يتنفس في آفاقها المظلمة صبح، ولا يلوح في وجهه لمحة من النور، تحدث عن بسمات الرجاء والأمل. كلا. إن هذا لوجه الأغبر، هذا الوجه التعس قد أقتمت فوقه سحب متراكمة من الشقاء: ماضيه ظلام، وظلام مستقبله. سله عن الحياة فهي حقيقة مظلمة مديدة. تراها نظراته حجابا من الظلمات دون حجاب. انه لا يبصر المصائب، ولكن كل شيء حوله مصيبة، يمتد به العمر الشقي في هذا العالم البائس، ويتحسس ظلامه الذي ما ينتهي فلا يظفر بطريق تخرجه إلى صبح الأمل المسفر.

وعلى كتفيه مزق من عباءة بالية قد اتخذها مجنا في عراك الأيام، ولكن يد الريح العابثة تنازعه هذا الستر كلما هبت، فتكشف عن كتفيه، وتلقي بصدره أمواج المطر والبرد.

بينما أخرج السوق بصرت بسائل يبعث أنينا حزينا، وهو متكئ على أحجار تغشاها أوحال. وتحته حصير أبلاه مر الأيام ولا يظله إلا طنف (سبيل) هناك. ولكن صوت الناس لا ينطلق الآن بعيداً، وإنما سمعت عن كثب صدى كنسيس المحتضر.

ليت شعري أكان يزمر لنفسه أم كان يئن؟ لا أحد يسمع له! ولا أحد يقف عنده! ولكن المارة يلقون إليه بنظراتهم ثم تمضي بهم السبل. ومن ذا الذي يصيخ إلى صدى تلفظه المقابر؟ أيها المسكين! وطّن على الموت نفسك! واقطع أنات الشكوى. لا لا. أصخ! قد سمع في الكشكول رنينا مديدا! يا لها نغمة من الرجاء مطربة! يا لها بشرى أستمع لها القلب والأذن معاً.

الماء يخترق الطنف، فينسكب المطر من ثقوبه فيضرب الكشكول البائس! سمع الأعمى الصوت فحسبه نبض الرحمة قد جاشت به قلوب المارة. فمد يده، مدها إلى الكشكول، ولكن هيهات! قد خاب رجاؤه، وكذب ظنه، ارتدت يده المتجمدة من البرد! ارتدت إليه فارغة مبتلة!