مجلة الرسالة/العدد 902/بمناسبة ذكرى شوقي

مجلة الرسالة/العدد 902/بمناسبة ذكرى شوقي

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 10 - 1950



شوقي وتاريخ مصر

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

كان لتاريخ مصر القديم، وما خلفه بنوها من آثار خالدة ما بقي الزمن، أثر بالغ في نفس شوقي، ملأها بالإكبار والإعجاب بمقدرة المصريين القدماء، وما بلغوه في ميادين الحضارة من رفعة ونهوض، وبدأ هذا الأثر واضحاً جلياً في شعر شوقي، فهو لا يكاد يذكر مصر القديمة إلا محاطة بهالة من الإجلال والتكريم، وها هو ذا يستقبل طياراً وافداً على مصر، فيوصيه بأن يؤدي لمصر ما هي جديرة به من تعظيم وإكبار فيقول:

يا راكب الريح، حي النيل والهرما ... وعظم السفح من سناء والحرما

وقف على أثر مر الزمان به ... فكاد أثبت من أطواره قمما

واخفض جناحك في الأرض التي جملت ... موسى رضيعا، وعيسى الطهر منفطما

وأخرجت حكمت الأجيال خالدة ... وبينت للعباد السيف والقلما

وشرفت بملوك طالما اتخذوا ... مطيهم من ملوك الأرض والخدما

هذا فضاء تلم الريح خاشعة ... به، ويمشي عليه الدهر محتشما

ونظم قصيدة كبرى ألم فيها بالحوادث الكبرى التي ألمت بهذا الوادي العزيز، فكان إذا مر بعصر من عصور المجد والازدهار، امتلأ فخراً وتيهاً، ومضى يسجل هذا المجد في أسلوب تملؤه الحرارة وقوة الحياة. وها هو ذا في تلك القصيدة، يتحدث عن عصر بناة الأهرام فيقول:

وبنينا، فلم نخل لبان ... وعلونا، فلم يجزنا علاء

وملكنا، فالمالكون عبيد ... والبرايا بأسرهم إسراء

قل لبان بني فشاد فغالى ... لم يحز مصر في الزمان بناء

ليس في الممكنات أن تنقل الأج ... يال شماً وأن تنال السماء

أجفل الجن عن عزائم فرعو ... ن، ودلت لبأسها الآناء

شاد ما لم يَشد زمان ولا أنش ... أعصر، ولا بني بناء

فإذا مر بعصر مظلم امتلأ شعره بالأسى على ما حل بالوادي من تدهور وانحلال، ومض يتلمس العظمة من حوادث العصر، فها هي ذي مصر وقد داس حماها الرعاة تضمر في نفسها الشر، ويتجمع بنوها حول لواء زعيمهم، ليخرجوا على ظلم العدو وقسوته، ويستخلص شوقي الحكمة من حوادث ذلك العصر في قوله:

إن ملكت النفوس فاتبع رضاها ... فلها ثورة، وفيها مضاء

يسكن الوحش للوثوب من الأس ... ر، فكيف الخلائق العقلاء

وهكذا يمضي شوقي في تلك القصيدة متنقلا من عصر إلى عصر، حتى انتهى به المطاف إلى العصر الحديث، يرسم الخطوط البارزة في تاريخ هذا الوطن، ويحدثنا في قوة عن شعوره إزاء هذه الحوادث العنيفة.

وعندما وقف شوقي أمام النيل، فأنشأ هذه القصيدة الخالدة التي بدأها بقوله:

من أي عهد في القرى تتدفق ... وبأي كف في المدائن تغدق

أخذ يستعيد بخياله ما قام على ضفتيه من حضارة، وما شيد على جانبيه من آثار المجد، وهنا يستوقفه ما يروى من أن قدماء المصريين عبدوا النيل، فيرى هذه العبادة تنم على ما عرفوا به من وفاء ومروءة، وعلى ما للنيل جدير به من الحب والتقدير ويحدثنا عن ذلك شوقي في قوله:

دين الأوائل فيك دين مروءة ... لم لا يؤله من يقوت ويرزق

لو أن مخلوقا يؤله لم تكن ... لسواك مرتبة الألوهية تخلق

جعلوا الهوى لك والوقار عبادة ... إن العبادة خشية وتعلق

دانوا ببحر بالمكارم زاخر ... عذب المشارع مده لا يلحق

متقيد بعهوده ووعوده ... يجري على سنن الوفاء ويصدق

يتقبل الوادي الحياة كريمة ... من راحتيك عميق تتدفق

وإليك بعد الله يرجع تحته ... ما جف أو ما مات أو ما ينفق

ويأخذ شوقي في الحديث عن حكمة الفراعنة وأسرار عقائدهم، وعن هذه الهياكل المنثورة على ضفتي النيل، وهنا يتجلى إعجاب شوقي بتلك الهياكل الشامخة ويصفها أروع وصف وأخلده، ويصور الفناء عاجزاً أمام جلالها، لا يستطيع أن يهتدي إلى مكان ينفذ إليها منه، واستمع إلى شوقي حين يقول في تلك القصيدة: ولمن هياكل قد علا الباني بها ... بين الثريا والثرى تتنسق

منها المشيد كالبروج، وبعضها ... كالطود وتضطجع أشم منطق

جدد كأول عهدها، وحيالها ... تتقاوم الأرض الفضاء وتعتق

من كل ثقل كاهل الدنيا به ... تعب، ووجه الأرض عنه ضيق

علا على باع البلى لا يهتدي ... ما يعتلي منه وما يتسلق

ويصور الخيال لشوقي تلك المواكب الفخمة المهيبة، يزيد من جلالها مقدم فرعون في جنده وحاشيته، فهذا موكب من مواكب النصر، أب فيه فرعون بجنده منتصراً سعيداً بنصره، وهذا موكب تحتفل فيه البلاد بوفاء النيل، وتلك مواكب الحج يقدم فيها الحجيج إلى طيبة من كل فج عميق، ولندع إلى شوقي يصف لنا أحد هذه المواكب في قوله:

كم موكب تتخايل الدنيا به ... يجلي كما تجلي النجوم، وينسق

فرعون فيه من الكتائب مقبل ... كالسحب قرن الشمس منها مفتق

تعنو لعزته الوجوه، ووجهه ... للشمس في الآفاق عان مطرق

آبت من السفر البعيد جنوده ... وأتته بالفتح السعيد الفيلق

ومشى الملوك مصفدين، خدودهم ... نعل لفرعون العظيم ونمرق

مملوكة أعناقهم ليمينه ... يأبى فيضرب، أو يمته فيعتق

وفي تلك القصيدة يتحدث شوقي عن الأديان التي عرفتها مصر، التي نبت فيها أصل الحضارة، وأنبثق نور المدينة، فكانت المهد الذي ولدت فيه الحكمة، وترعرع فيه العلم، وتأصل في نفوس بنيه الدين.

ويبدع شوقي أيما إبداع عندما يقف أمام صفحة من صفحات تاريخ المجد المصري القديم، ويصل في وصفها إلى أبعد الغايات وأسماها، والحق أن تلك الصحائف الخالدة من تاريخ مصر، والناطقة بمجدها القديم وهي تلك الآثار المنثورة هنا وهناك قد وجدت صداها في شعر شوقي، فأبدع وأجاد في وصفها وها هو ذا يقف أمام الأهرام فيقول:

قل للأعاجيب الثلاث مقالة ... من هاتف بمكانهن وشاد

لله أنت، فما رأيت على الصفا ... هذا الجلال ولا على الأوتاد

لك معابد روعة قدسية=وعليك روحانية العباد أسست من أحلامهم بقواعد ... ورفعت من أخلاقهم بعماد

أما أبو الهول فقد أفرد لمناجاته قصيدة طويلة أفرغ فيها ما مر به من خواطر وهو يقف أمام هذا التمثال الخالد الغامض، فسأله عن هذا البقاء المتطاول وإلى أية غاية ينتهي:

إلام ركوبك متن الرما - ل لطي الأصيل وجوب السحر

تسافر متنقلا في القرو - ن، فأيان تلقى غبار السفر

أبينك عهد وبين الجبا - ل، تزولان في الموعد المنتظر

ويسأله عن سره الذي يخفيه بين جنبيه، وقد تحير فيه وضل من بدا من حضر، ثم يمضي في سؤال أبي الهول عما رآه من أحداث وما شاهده من العبر:

فحدث فقد يهتدي بالحدي ... ث، وخبر، فقد يؤنسني بالخبر

ألم تبل فرعون في عزه ... إلى الشمس معتزيا والقمر

ظليل الحضارة في الأولي ... ن، رفيع البناء جليل الأثر

يؤسس في الأرض للغابر ... ين ويغرس للآخرين الثمر

وراعك ما راع من خيل قمب ... يز ترمي سنابكها بالشرر

جوارف بالنار تغزو البلا ... د، وآونة بالقنا المشتجر

ويظل يسأله عن كبار هذه الأحداث حتى ينتهي إلى العصر الحديث فيطمئن على مصير مصر التي تيقظ أبناؤها ومضوا يطالبون كبار الأمور وجلائل المعالي.

ومن أجمل الآثار التي وقف عندها شوقي، واستوحى لديها عظمة تاريخ هذا الوطن قصر (أنس الوجود) بأسوان، وقد أجاد في وصفها ووصف ما أوحت به إليه من خواطر شتى في تاريخ مصر القديم، ولا زلنا نحفظ لشوقي قوله في وصفها:

رب نقش كأنما نفض الصا ... نع منه اليدين بالأمس نفضا

ودهان كلامع الزيت مرت ... أعصر بالسراج والزيت وضا

وخطوط كأنها هدب ريم ... حسنت صنعه وطولاً وعرضا

وضحايا تكاد تمشي وترعى ... لو أصابت من قدرة الله نبضا

ومحاريب كالبروج بنتها ... عزمات عن عزمة الجن أمضى

ومقاصير أبدلت بفتات ال - مسك تربا، وباليواقيت قضا وقد أثارت فيه رؤية هذا القصر ذكريات من تاريخ مصر، فأخذ يتساءل عن هذا الملك العتيد، وما كان له من مجد، وعن فرعون ومواكبه، وإنريس وهوروس:

أين (إيزيس) تحتها النبيل يجري ... حكمت فيه شاطئين وعرضا

أسدل الطرف كاهن ومليك ... في ثراها، وأرسل الرأس خفضا

يعرض المالكون أسرى عليها ... في قيود الهوان عانين جرضا

وكان للكشف فن قبر توت عنخ آمون وما ينبئ عنه من حضارة رفيعة عميق الأثر في نفس شوقي، فمضى يسجل في شعره صفحة ناصعة من تاريخ هذا الوطن، ويصف تلك الحضارة التي أبان عنها كشف ذلك القبر. ومن أهم ما أثر فيه تلك الموازنة المؤلمة بين هذا الماضي المشرق بالمجد والعامر بالفخار، ويبين هذا الحاضر المليء بالضعف والتأخر، واستمع إليه يخاطب فرعون قائلا:

قل لي أحين بدا الشرى ... لك، هل جزعت على العرين؟

آنست ملكا ليس بالش ... اكي السلاح ولا الحصين

البر مغلوب القنا ... والبحر مسلوب السفين

لما نظرت إلى الديا - ر صدفت بالقلب الحزين

أقبلت من حجب الجلا - ل على قبيل معرضين

تاج الحضارة حين أش ... رق لم يجدهم حافلين

والله يعلم لم يرو ... هـ من قرون أربعين

وكان شوقي يتمنى نهضة شاملة تناسب تاريخها المشرق القديم.

أحمد أحمد بدوي

مدرس بكلية دار العلوم - بجامعة فؤاد الأول