مجلة الرسالة/العدد 903/صور من الحياة

مجلة الرسالة/العدد 903/صور من الحياة

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 10 - 1950



هوى على الشاطئ

للأستاذ كامل محمود حبيب

- 2 -

. . . وبعد أيام أخذ الرفاق يتهيئون للسفر، وراح الفتى يعد نفسه للسفرة الجبلية. وانطلق الركب إلى الإسكندرية يحدوه الأمل ويدفعه الرجاء، وفي النفوس النشوة والمتاع، وفي القلب المرح والشباب.

لقد طاروا جميعا إلى الإسكندرية ليتخففوا من عبء اليأس الذي يواري السوءة ولينفضوا أغلال التقاليد التي تسمو بالكرامة، وليضعوا عن أنفسهم أصر الأخلاق التي هي سمة الإنسان، وليندفعوا في خضم من الحيوانية الجامحة لا تغسلها إلا عبرات الشتاء حين تنهمر مدرارا لتمسح على دعارة الصيف وفجوره.

أما صاحبي. . . الفتى الساذج الذي عاش عمره في سجن من حديد. . . أو سجن من ذهب لم يبل الفضاء ولا عرك الحياة، وطوى زهرة الشباب يرسف في أغلال ثقال من الدين. . . الدين الذي يبذر في القلب الرهبة ويغرس في النفوس الخنوع وينفث في الروح الخوف ويقيد الهمة بالاستسلام. . . أما صاحبي هذا فقد أذهلته الحياة وهي تضطرب حواليه موارة تزخر بصنوف من العيش الوضيع فتقززت لها نفسه ونفرت منه روحه، وبدت له دنيا الشاطئ سوقا تعرض فيها المباذل في غير خجل ولا استحياء. وشعر بأنه هنا غريب يحس الضيق والملل لأنه لا يستطيع أن ينسى تأريخه فينغمر في هذا الخضم وقد دنسته الخطيئة ولوثته الرذيلة، ولا يستطيع أن يطوي أيامه وحيدا على هامش الحياة. وحدثته نفسه - غير مرة - بأن يطير عن هذا الجو الذي يخنق الفضيلة ويقتل الشهامة، غير أن رفاقه كانوا يمسكونه أن يفعل فيستخذى لهم في ضعف ويستسلم في فتور.

يا عجبا! لقد فزع الناس إلى الشاطئ يطلبون - كرأيهم - الصحة والعافية والجمام، أما هو فقد جاء ليقاسي ألم الضيق ويعاني أذى الوحدة.

وخشي الرفاق أن تسري فيهم روح هذا الفتى فتنسرب إلى نفوسهم خواطره فيحس كراهية الشاطئ الحبيب، وهم يرونه منكفئا - أبدا - على نفسه يسبح في تيه من الظلومات لا يطرب للذة ولا يهتز لمتعة ولا يستبشر لفرحة، فانطلقوا إليه يوسوسون بأمر:

وظفر شيطان من الناس - بعد لآي - بالفتى فجذبه إلى الشاطئ في برنسه وتبانه. لقد خلع الفتى ثوبه ولكنه لم يستطع أن يخلع الحياء، فوقف بازاء الماء يهم أن يخلع البرنس فيمسكه الخجل وقد أكتنفه الندم على أن طاوع رأي صديقه الشيطان. وتردد حينا غير أن صاحبه لم يدعه يفكر طويلا فجذبه - على حين غفلة - من برنسه، فإذا هو في تبانه يضطرب، ونظر حواليه فرأى عيونا رمقة، فأندفع في الماء يشق الموج بذراعين فيهما القوة والفتوة والشباب. وانطلق الرفاق على آثاره يمجدون الطفرة المباركة واهتزت نفسه لكلمات الإطراء فأنطلق يصارع الموت.

وأحس الفتى أن رفاقه يتساقطون من حوله واحدا بعد واحد من أثر ألاين والفرق، وراعه أن يجد نفسه وحيدا وهو في منأى عن الشاطئ، فهم يريد أن يرتدي فما أمسكه إلا أن رأى فتاة في ميعه الصبا وفورة الشباب تشق الموج شقا. ونظر الفتى ونظرت الفتاة ثم ابتسمت. واستولى الحياء على الفتى فأراد أن ينطوي عنها ولكنها حذرته أن يذرها وحيدة بين طيات الموج فاتأد واقتربت الفتاة وهي تقول (أنك سباح ماهر!) فهمهم الفتى يقول (شكرا لك). وصحب الفتى الفتاة على كره منه. واطمأنت الفتاة إلى الفتى حين أحست فيه شيئا ساميا ليس في شباب الشاطئ، أحست فيه الشهامة والهدوء والتأبي، فما بلغا الشاطئ حتى قد أخذت عليه موثقا أن يقطعا هذا الشوط معا كل صباح.

وصحا قلب الفتى حين وخزته النظرات الآسرة وحين غمره الحديث الرقيق، فما تعوق ولا تمنع.

ومرت الأيام تمسح بيد رقيقة على آثار الضيق في نفس الفتى لأن ابتسامة الفتاة الجميلة كانت تشرق في جنبات قلبه، وتمحو سمات الخجل من تاريخهلأن روح الفتاة كانت ترف رفيفا جميلا في ثنايا فؤاده، وتنزع عنه ظلمات الخواطر السود التي رانت عليه زمانا لأن جبين الفتاة لواضح كان ينير له السبيل وتحبب إليه الحياة على سيف البحر لأنه كان يستمتع هناك بالمتعة الخالدة. . . باستجلاء الطلعة المضاءة. ونسى صاحبي الدين. . . الدين الذي غل قلبه ولسانه حينا من الزمان ففقد اللذة والسعادة والمرح.

وغدا الفتى رجلا آخر غير من عرف في نفسه، فهو يتشوق لساعة الصباح في شوق ولهفة لينطلق إلى الشاطئ لا يمسكه الخجل ولا يدفعه الحياء، وهو يذرع الشاطئ في تبانه لا يبالي الأعين ولا يخشى الألسن؛ وهو يخلو إلى صاحبته ساعة من صدر النهار يكشف لها دوافع قلبه في حديث يفيض بالعاطفة ويفهق بالهوى لا يشوبه إلا ما كان يخشاه من أن تستشف من خلاله أنه زوج وأب ورب أسرة - وهو سره هو - فتنفر منه على حين أنه ضنين بها حريص على حبها؛ وهو يتأهب للقيا الحبيبة أصيل كل يوم فيقف طويلا أمام المرآة يستشيرها خيفة أن تقع الفتاة منه على ما يؤذي عينها أو يمجه ذوقها. وعرف الفتى - لأول مرة - معاني النظام والزينة الأناقة. . . عرفها لأنه عرف النشوة في الهوى والشباب.

وأحس الفتى - لأول مرة - أن في المرأة فنونا من الإغراء لا عهد له بها، فنونا من الدلال والأناقة والتطرية والعطر، فنونا صاغتها يد الحضارة الصناع في دقة وإتقان فوجدها جميعا في فتاته الشابة وافتقدها جميعا في زوجته الريفية التي حبستها التقاليد القاسية بين أسوار من العمى والجهل. ولمس في المرأة معاني أخرى حبيبة إلى نفسه، معاني غير الخضوع والاستسلام والضعف، معاني غير الجهل والسفه والحمق، معاني غير اللذة الرخيصة والشهوة الوضيعة. فهو يجلس إلى فتاته فتحدثه حديثا فيه الرقة والجاذبية، وتناقش الرأي في هدوء وتجادل الفكرة في هوادة، ثم هي تهديه إلى الصواب في لباقة إن غرب عنه، وتبصره بالحق في رفق إن عمى عليه. فوجد - بعد حين - فرق ما بينها وبين المرأة التي تزوج لتكون بعض متاع الدار، لا رأي لها في الأمر ولا قيمة لها في الأسرة ولا نصيب لها في الحياة.

ولصقت الفتاة بالفتى حين لمست فيه خصالا عزت على أترابه، فهو عف اليد واللسان، وهو رفيع النفس لا يستنزل إلى الدني من القول ولا ينحط إلى الوضيع من العمل، ثم هو رجل فيه الرجولة والإنسانية والشهامة. وراقها أن تراه طيب القلب هادئ النفس سهل الطبع، ولذ لها أن تجده يندفع إليها في غير صبر ويهفو نحوها في غير أناة، فصبت إليه ورضيته صاحبا ورفيقا، وقلبها يتفتح له رويدا رويدا.

وأنطلق الفتى على سننه والفتاة إلى جانبه تجذبه إليها في رفق وتسيطر عليه في هوادة وتلقاه في بشر، ثم فتحت أمامه باب السينما ومهدت له السبيل إلى المسرح، وهو ينقاد لها في سهولة ويسر. واطمأن واطمأنت فما يفترقان إلا ليتلاقيا على ميعاد.

وانطوت أيام وحانت ساعة الوداع. . . حانت ليتلاقيا - بعد أيام - في القاهرة فماذا كان منك - يا صاحبي - وماذا كان من الفتاة؟

كامل محمود حبيب