مجلة الرسالة/العدد 903/ما رأيت وما سمعت

مجلة الرسالة/العدد 903/ما رأيت وما سمعت

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 10 - 1950



في سوريا ولبنان

للأستاذ حبيب الزحلاوي

- 2 -

لا خوف من الكلام الذي يقال جهرا، إنما الخوف من الأقوال التي تهمس همسا، ومن الإيماءات والأشارات والغمزات التي بتبادلها الناس في سوريا، ومن أحاديث المجالس الخاصة، ومن صمت العامل والمزارع والتاجر، ومن همهمة الطلبة ودوي الشبيبة المتعلمة.

لقد رأيت كثيرا، وسمعت كثيرا جدا، وفتحت لي أبواب وصدور، ووقفت على أمور عزيز على سواي الوقوف عليها، لا لأني من البقية الباقية ممن عملوا في كل ميدان من ميادين الجهاد، ولا لأني تباعدت عن موائد الغنيمة، بل لأني اغتسلت من دم الثورة بدمائها، ولأني، بعد أن ضمدت جراحي، نذرت الانطواء على نفسي كما انطوى الكثيرون أمثالي على أنفسهم عزة وكبرياء، أقول.

من الأمور التي سمعتها في سورية ما يخلق بي أن أتناولها بالكلام الصريح البعيد عن اللبس، ومنها ما يحسن أن ألمه لمسا رقيقا بغية أن (يفهم) من يهمهم أمر البلاد إن الشعب ينزع من حاكميه وزعمائه منزع التأفف والضجر، ومنزعا آخر لا أدري كيف اسميه ومعناه (دعهم في جهالتهم يعمهون وعلى الغنائم يتكالبون، وعلى مقاعد الحكم يقتتلون).

الأوضاع السياسية في سورية لم تستقر بعد، وقد لا تستقر إلا إذا أزيلت موانع لا محيد البتة من زوالها، وذللت عقبات لا مناص، من تذليلها مثال ذلك.

1) يوجد حتى اليوم طائفة من الرجال الذين عملوا في جميع أو في بعض ميادين الجهاد للاستقلال، منهم من جاهد بعقله ومعارفه، ومنهم من قاتل ومنهم من أدار القتال، ومنهم أيضاًمن كان ذيلا لهؤلاء، وأكثرهم، بل أكاد أقول جميعهم قد بلغ من العمر أرذله، إلا من خصهم الله بمواهب عالية لا يحوزها إلا أفذاذ الرجال، هل من منطق السياسة وسنة التطور أن يستأثر جميع هؤلاء بمقاعد الرئاسة ودسوه المجالس، لا لشيء إلا أنهم من المجاهدين؟

2) في البلاد طائفة أخرى انتهازية ماشت جميع الحكومات التي تقلبت على البلاد من ترك وعرب وفرنسيين وسوريين، وتلونت كالحرباء بكل لون، وما برحت تدخر مئونتها من الأصباغ للتلون، فتكون مثلا جمهورية مع الجمهوريين، وهاشمية مع الهاشميين، وديكتاتورية مع الديكتاتوريين، وشيوعية مع الشيوعيين. ولا عجب إذا رأيتها تتدثر مرقعة تجمع أعلام هؤلاء جميعا، هذه الفئة الضعيفة التي لو أعوز الشيطان وجها رقيعا جديدا لم يخطر نمطه أو وضعه وشكله بباله، لابتدعوه له ابتداعا واختلقوه بطرفة عين!! هذه الطائفة الخبيثة مازال أفرادها تعج بهم دوائر الحكومة، وتحفل بهم مجالس النيابة والبلديات والمحافظات.

عرفت (تيمور لنكا) منهم أعرج يتخطر في الجمعية التأسيسية، رأيته بنساب ويتلوى بين (الحوراني والحلي) فنفرت، لا من عرجه وعواره، بل من شره القديم، وأصالته في الخدمة الأمنية لأسياده الأتراك ومن بعدهم الفرنسيين، وقيل لي، أنه اليوم العبد اللين المطواع لأسياده الإنجليز والأميركان، وهو ينادي بأنه هاشمي نوري، ويقول أنه الخادم الأمين للشعب في المجلس التأسيسي الذي سيحوله إلى مجلس نيابي.

هذا نمط عجيب (ونمرة) نموذجية لعشرة أمثاله رأيتهم يتباهون في المجلس التأسيسي ويختالون عجبا.

3) لم أسمع كلمة رددها كل لسان في سورية مئات المرات غير كلمة (الوعي القومي) لقد سمعت هذه الكلمة الحلوة من السيدات والآنسات المثقفات فوفقت منهن على تفسير طريف لمعنى (الوعي القومي).

سمعت الوزراء ورجال الجمعية التأسيسية يجتهد كل ذات من ذواتهم الكريمة في تعريف (الوعي القومي).

سمعت هراء كثيرا من الشعب فيه فيض دفاق، ووصف حار مبعثه العاطفة الملتعجة بحب (الوعي القومي).

تذكرت الصديق الكريم الدكتور قسطنطين زريق مدير الجامعة السورية واضع كتاب (الوعي القومي). فقلت ما أكثر ما يقرأ الناس المؤلفات فتهتز مشاعرهم دون عقولهم!! تلفت حولي على أجد أثرا أو ملامح أو قسمات أو مظهرا واحدا من مظاهر (الوعي القومي) فلقيت - يا للحزن والخجل مما لقيت - لقيت أهالي حلب وحماه وحمص، رأيت دوائر الحكومة تغص بالحلبيين الشماليين، ولم أسمع أني جلست مجالس الرجال العاملين، إلا لهجة حلبية وأضراسا صلبة تقضم لحوم الدمشقيين، سمعت أقوالا في (الشاميين) تكفيني الإشارة إليها كفاية المغصوص بجرعة من الماء.

لقد عاب الشعب على حكومة الثورة فعالها فأسقطها بعد أن رجمها بالحجارة لا بحجر واحد، لقد أسقطها (المجنون) لقلة خبرتها ومرانها بالحكم. لقد أسقطها (الضباط) ليسلموا مقاليد البلاد إلى (الارتجاليين)، لقد ذبح الارتجاليون الحرية في سورية بأسياف الجيش، وكسروا الأقلام التي تخط حروفا تؤلف (الوعي القومي).

4) لست بآسف على تسميتي (ديكتاتور) سوريا بالمجنونلأن حسني الزعيم، يرحمه الله، لم يكن ينقصه من صفات الزعامة وخصائص الدكتاتور، سوى العقل والمعرفة ولا شيء سواهما، وبرغم هذا النقص البسيط كان وما زال معبود الشعب، وأن كثيرا من الناس في سوريا يبكونه ويذكرون عهده الرخي وأيامه الرغدة.

أي والله، لقد رأيت في سورية أناسا يبكون الزعيم وهم لا يدرون أنهم يبكون كرامتهم وحريتهم وإنسانيتهم وقيمتهم الاجتماعية، وعجبت لهذه المتناقضات والأوضاع المقلوبة، أنه لمن المؤسف حقا أن يجول في الخاطر السوري ما يسيء الظن بالتفكير السوري الموسوم بالسليم.

قاتل الزعيم الرشوة وسوء الإدارة بقلب الأوضاع الثابتة انقلابا، أصيب الطاغية برعن الحكم فمات بيد حساده من ضباط الجيش، انقلب حساده جبابرة وهم أقزام، طاب لقزم من الضباط أن يقلد زعيم الأتراك مصطفى كمال فأخذ يسكر ويسكر، يحكي ويحكي، وطاب له مرة ثانية أن يمتحن مبلغ سلطانه ليؤمن بنفسه وهو سكران، تناول الضابط العظيم سماعة التلفون وخاطب كبير الوزراء داعيا إياه إلى الاستقالة فاستقال، صحا السكير فقرأ في صحف الصباح خبر استقالة الوزارة فدهش، وأراد عندما استفاق، استدرك عبثه ولكن بعد فوات الوقت، ولم تجد وساطة رئيس الجمهورية بين العازل والمعزول!!

في سورية اليوم إدارتان للحكم، مستترة وظاهرة. لست أريد الكلام في الإدارة المستترة لأنجل رجالها العظام هم من أصحاب السيرة المعروفة في طول البلاد وعرضها، وهم من العصاميين الأفذاذ الذين أوصلتهم شجاعتهم وبطولتهم في ظلمات الليل ومنعرجات الخطط والتواليف وتواريخ عظماء الرجال الفاتحين، وهم بكلمة واحدة أولئك الذين اشترى الفرنسيون شغبهم ببدل عليها أشرطة ونجوم وتعاويذ.

5) قال لي زعيم من زعماء المجلس التأسيسي أنه عزم هو وأقرانه على تحويل المجلس التأسيسي إلى مجلس نيابي، قال لي ذلك يعيد فشل الاجتماع الذي عقده أقطاب أبناء الشمال والجنوب.

أريد بأبناء الجنوب، رجال تلك الأحزاب المعارضة التي أضربت من الاشتراك في الانتخابات للمجلس التأسيسي تفاديا، في الظاهر، عن الاعتراف بالأمر الواقع، ومن تزكية الانقلاب الذي طوح برئيس الجمهورية السيد القوتلي، وهربا، في الباطن، من فشل كان محققا آنذاك. أما أبناء الشمال فهم أكثرية رجال الوزارة القائمة ومن يؤازرها ويساعدها من الأنصار والمحاسيب والطفيليات والمرتزقة.

طلب الدمشقيون إعادة السيد القوتلي إلى رئاسة الجمهورية، وبإعادته نزول الأوضاع الشاذة التي نجمت عن الانقلاب العسكري.

رفد الحلبيون هذا الطلب، وارتأوا لتعود الحياة الطبيعية للرجال العاملين وللبلاد أيضاً أن تبقى رئاسة الجمهورية للسيد الأتاسي مدة ستة أشهر، واشترطوا تحويل المجلس التأسيسي إلى مجلس نيابي. وبعد انقضاه المدة تستفتى البلاد مرة أخرى.

لما شام الحلبيون تمسك الشاميين بمطلبهم ضربوا بهم عرض الحائط. وقد استأسدوا وتنمروا للشاميين، لا بحولهم وقوتهم هم، بل بقوة وسطوة (الإدارة المستترة) وأعلنوا رسميا صيرورة التأسيسيين نوابا، وهؤلاء النواب هم الذين انتخبوا الشيخ الجليل السيد هاشم الأتاسي رئيسا للجمهورية السورية.

للكلام بقية

حبيب الزحلاوي