مجلة الرسالة/العدد 905/الأدب والفن في أسبوع
مجلة الرسالة/العدد 905/الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
بين التعليم والثقافة
تناولت (مشكلة القراءة) في عدد مضي من (الرسالة) فنظرت في أهم أسبابها، وهو طريقة التعليم عندنا وملابساته، من حيث المناهج المزدحمة والامتحانات التي تتجه إلى الذاكرة ولا تكاد تهتم بالإدراك، وإرهاق التلاميذ والمدرسين، فكل ذلك كما قلت (يبغض في الكتاب، إذ لا يكاد التلميذ ينتهي من (سخرة) الامتحان حتى يلقي بالكتب وهو يشعر بالسعادة لتخلصه منها، وبغضه للكتاب المدرسي بجره إلى بغض جنس الكتاب، فلا مكان إذن لحب القراءة من نفسه)
قلت ذاك، وقلت أيضاً (من أكبر الخطر أن المشكلة واقعة أيضاً بين المدرسين أنفسهم. . أولئك الذين يرجى منهم أن يبثوا حب القراءة والإطلاع في نفوس الطلاب، لأنهم أيضاً ضحية هذا النظام المدرسي. . . الخ) وحين قلت هذا وذاك لم تكن تغيب عني جهود الرجل العظيم طه حسين في وزارة المعارف التي يبذلها في تيسير التعليم وتعميمه وإنصاف المعلمين وبعث الطمأنينة في نفوسهم والحق أنني كلما تناولت مشكلة ثقافية لأكشف عن نواحي التقصير فيها يخالجني شعور الإشفاق على ذلك الرجل لما ينهض به من أعباء أثقلها الإهمال والتواني في الزمن الماضي، وأشعر في الوقت نفسه أن تلك المسائل الثقافية غير خافية عليه، ولعله يتحين لها الفرصة بعد الفراغ من إنصاف المظلومين وإتاحة فرص التعليم لجميع المواطنين. وقد لمحت بارقة من ذلك في خطبته التي تحدث بها إلى المعلمين في الحفلة التي كرمهم بها في الوزارة، إذ قال أنه يود أن يرى المعلم ينتفع بالعلم قبل الطلاب. ثم راعني هذا الغيث الذي انهمر في حديثه إلى مندوب الأهرام الأستاذ محمود العزب موسى الذي أثار كامن نفسه عندما سأله عما أعده من مشروعات للنهوض بالتعليم بعد الفراغ من التوسع في قبول التلاميذ والتوسعة على رجال التعليم. وقد كان الأستاذ العزب موفقا كل التوفيق في هذه الإثارة التي حدد نقطها، وكان منها (قصة الامتحانات ومستقبل الثقافة في البلاد).
لقد كان الحديث حديث أستاذنا وزميلنا الأديب الناقد الدكتور طه حسين بك. . إذ حمل على ما تتبعه وزارة المعارف من سخافة في الامتحانات وما تجترحه بذلك من تبغيض المتعلمين وتنفيرهم من العلم والتعليم، قال، بعد أن بين ما يلاقيه من جهد في فحص المظالم ولقاء الآلاف من المظلومين وأصحاب الحاجات، وبعد أن ذكر ما أخذ فيه من تيسير المناهج لتكون أوفى إلى عقول التلاميذ وقلوبهم: وفكر في محنة الامتحان، فسترى أنها العلة التي لا يستقيم معها التعليم ولا بد من أن نصل إلى علاج مصر منها، فالتلاميذ يتعلمون ليمتحنوا آخر العام، والأساتذة يعلمون لينجح تلاميذهم في آخر العام، ويصبح الامتحان هو الغاية الأولى التي أنشئت المدارس والمعاهد من أجلها. . وما أعرف أن بلدا وصل من السخف إلى مثل ما وصلنا إليه في أمر الامتحانات. امتحانات النقل يشقى بها التلاميذ من أول يوم في العام الدراسي: أسرته تشعره دائما بأن عليه أن ينجح، وأساتذة يشعره دائما بأن عليه أن ينجح، فيشغله النجاح عن فقه ما يلقى إليه من الدرس، ويعنى بذاكرته، ويعطي عقله وقلبه إجازة أثناء العام الدراسي) وقال: (والامتحان العام نفسه نقدم عليه كأنما نقدم على عمل مقدس يجب أن نعدله عدته، في نفوسنا، وفي مظاهر حياتنا نفسها، ثم نعقده تعقيدا لا حد له) ثم رد على من يظنون أن تعقيد الامتحان هو الوسيلة الوحيدة لرفع مستوى التعليم بقوله: (فتعقيد الامتحان إن أدى إلى شيء فإنما يؤدي إلى تكوين المواطن الآلي الذي لا يفكر ولا يتعمق، وإنما يحفظ ما يلقى عليه، ثم يؤديه كما حفظه، ثم ينجح فيصبح مواطنا عقيما، أو يرسب فيصبح كلا على المدرسة، فإن اطرد رسوبه أصبح كلاً على الشعب. إن الذين يريدون أن يرفعوا مستوى التعليم حقا، يجب أن يحببوه إلى التلاميذ لا أن يبغضوه إليهم إن كنت تريد أن ترفع مستوى التعليم فاجعل أمور ميسرة، يقبل عليها التلاميذ عن حب لها ورغبة فيها، ويجدون الوحشة حين ينصرفون عنها في الإجازات. كل هذه أمور لا بد من التفكير فيها والفراغ لها، وقد فرغت لبعضها، وأرجو أن يتاح لي تحقيق ما أريد منها)
وهكذا نجد الرجل مشغولا بما كنا نمسك عن مواجهته به ومطالبته بتحقيقه، يثارا للاصطبار والانتظار، والواقع أن معاليه جند الجنود وحشد الحشود ووزع الأعطيات ونظم الأرزاق، ولكن بقي (التكتيك) بقي أن يوجه التعليم إلى غايته، بقى أن يوفق بين التعليم وبين الثقافة، وينهي الخصام الذي لا يزال قائما بينهما في عقول (المتعلمين) ولست أدري ما فائدة التعليم إذا لم يفتح أبواب المعرفة أمام المتعلم ويغرس في نفسه حب التزود ومداومة الإطلاع.
لقد أفسدت الطريقة الآلية في التعليم، هذا الجيل، وجعلت التعليم المدرسي غاية في ذاته، فلم يتخذ - كما ينبغي - سببا إلى التثقيف الذاتي الذي يأخذ به المتعلم نفسه ويكمل نقصه، فيشعر أنه طول عمره محتاج إلى وجبات الثقافة كما هو محتاج إلى وجبات الطعام. وإنه ليعييك البحث عن المثقفين الحقيقيين بين (المتعلمين) الذين اجتازوا الامتحانات وظفروا بالشهادات، إذ لا تجد من أولئك غير أفراد بهم مناعة ضد آلية التعليم مثل المثقفين في مصر كمثل الفرق الرياضية فيها، قلة ممتازة تفصلها عن الكثرة الغالبة هوة بعيدة القرار.
لقد ضاع جزء كبير من أعمارنا في حفظ أشياء لا قيمة لها، ولقد سخروا عقولنا في مواد لم نجد لها أي أثر في حياتنا بعد التخرج، ولقد كان بغضنا لها داعيا إلى تعمد نسيانها بعد. . ويقولون أن الطالب في مصر يحصل على ورقة الطلاق من العلم بحصوله على الشهادة، ومن الإنصاف أن يقال أيضا: بعض المتعلمين يحصل على ورقة الطلاق من السخافات بفكاكه من التعليم المدرسي. .
والتعليم عندنا يفترض في كل إنسان قوة الحفظ ويفرض عليه أن يحفظ، فإن كان كذلك فحفظ ووعى ما تمتلئ به المناهج من سخافات، برز وتقدم ونال أعلى الدرجات وأكبر التقديرات، وفضل في الوظائف وأرسل في البعثات وتكون النتيجة أن يلي الأمور هؤلاء الآليون.
ولقد سافر أولئك المبعوثون وجاؤوا، لم يفيدوا شيئا، لأنهم ذهبوا بعقولهم الآلية وعادوا بها. حفظوا شيئا مما هناك لمجرد الحفظ، فلم ينتفعوا به في بحث ومقارنة وتعمق. وها نحن أولاء ما زلنا نشكو من عقم التعليم على الرغم من كثرة من أوفدنا إلى أوربا لدراسة التربية والتعليم!
أن العلة كلها تنحصر في البرزخ الكائن بين التعليم المدرسي وبين الثقافة العامة. واليوم الذي يزال فيه هذا البرزخ هو اليوم الذي يقال فيه إن التعليم يؤتي ثمراته ويؤدي إلى غايته.
إلى فضيلة شيخ الأزهر: لم تنقطع عني رسائل طلبة الأزهر منذ كتبت في موضوع الكتب التي تدرس في الأزهر، وهي تدور حول لرغبة في مواصلة الكتابة في هذا الموضوع والإيهابة بالمسئولين أن يهتموا بإصلاح هذه الناحية في الدراسة الأزهرية، ويحسن بعضهم الظن أو يقوي أمله في أن يضع كل شيء وفق ما يكتب الكاتبون.
الآن وقد تولى مشيخة الأزهر شيخ جديد هو فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم، فطبيعي أن تتجه إليه الآمال لينتقل بالأزهر خطوة جديدة في سبيل تأدية رسالته، وهذا هو الطالب الأديب (عبد الصبور السيد الغندور بالمعهد الديني بشبين الكوم) يرجو أن يفسح له ليطل من (الرسالة) على الشيخ الأكبر، يقول:
(سيدي شيخ الأزهر - لقد استبشرنا باختيارك لنا، فمرحبا بقدومك، وأهلا بمعهدك الذي نرجو الله أن يجعله ميمونا سعيدا على الإسلام والأزهر. نتوجه إلى فضيلتكم فنضع بين يديكم ما يأتي:
1 - لقد وعدنا الجميع بإزالة الكتب المقررة على المعاهد الدينية، لعدم صلاحها مطلقا وإبدال أخرى بها تكون ملائمة للعصر الذي نعيش فيه، فهل ستبحث فضيلتكم هذا الموضوع الشائك الذي من أجله شرد الكثيرون وبحت أصوات الباقين؟
2 - لقد آمنت وزارة المعارف بالحكمة القائلة (العقل السليم في الجسم السليم) فأمرت بصرف الغذاء لجميع طلبتها أفلا تأمرون بصرف الغذاء لأبنائكم؟
3 - لماذا يتسلم أبناء وزارة المعارف كتبهم المقررة والأدبية ونحرم نحن طلبة الأزهر ذلك؟ ألسنا من أبناء الأمة؟ ألم يصبح التعليم كله بالمجان؟ فلم هذا الفارق؟
نسأل الله تعالى أن يجعل نجاتنا على يديكم بعد أن أشرفنا على الغرق وإنا لمنتظرون)
ونحن نستبشر بما صرح به فضيلة الأستاذ الأكبر للصحفيين من أنه معنى بدراسة كتب المتقدمين والاستغناء بها عن بعض كتب المتأخرين، على ما في هذا التصريح من تحفظ قد يقتضيه المنصب الكبير، ونعده مقدمة لخير كثير نرجو أن نعتبره المرحلة الثالثة في إصلاح الأزهر بعد المرحلتين اللتين تمتا على يدي الإمامين عبده والمراغي، كما سبق أن أوضحنا.
ولا شك أن الاستغناء بكتب المتقدمين الموضوعية البليغة عن كتب المتأخرين الشكلية المعقدة، أمر مفيد، وهو واجب لربط الثقافة الأزهرية والإسلامية على العموم بماضيها ولكن هناك التأليف بأسلوبي العصر والتطبيق على مسائل العصر، فقد أصبح مما يعرفه الجميع أن أساس التعليم - على اختلاف أنواعه - ملاءمة بين ثقافة المتعالم وبين حاجات عصره.
وهذا يستلزم أن يكون التأليف الجديد أهم ما تعتمد عليه الدراسة في الأزهر وخاصة في المرحلتين الابتدائية والثانوية، فالنهضة التي ينتظرها الأزهر أو ينتظرها الناس من الأزهر في الوقت الحاضر، تنحصر في كلمة واحدة هي (التأليف)
ذكرى الزين:
يظهر هذا العدد من (الرسالة) في يوم الذكرى الثالثة للمغفور له الشاعر الراوية الأستاذ أحمد الزين.
ولقد كان الزين شاعرا كبيرا من شعراء العربية المبرزين في هذا العصر، قرأ له الناس قصائد ممتعة في الأهرام والرسالة والثقافة، وكان رحمه الله قد جمع شعره في ديوان مخطوط، على عزيمة أن يطبعه في الفرصة المواتية. وتوفي قبل أن تواتيه هذه الفرصة. وقررت لجنة التأليف والترجمة والنشر، طبع ديوان الزين، على أن تقوم بنفقاته وتخصص ممن ما يباع منه لليتيم الذي تركه الفقيد.
وها قد مضت سنوات ولم يخرج الديوان. . لماذا؟ لأن اللجنة لا تزال تطلبه ممن هو عنده. فهل فقدنا الزين وفقدنا ديوانه؟!
أكتفي اليوم بتحية طيبة أبعث بها إلى روح فقيدنا الكبير في يوم ذكراه، وفي الأسبوع القادم إن شاء الله قصة ديوانه الذي يوشك أن يلحق به. . .
عباس خضر