مجلة الرسالة/العدد 906/الألعاب العربية
مجلة الرسالة/العدد 906/الألعاب العربية
للأستاذ محمد محمود زيتون
- 2 -
ومن البداهة أن الألعاب العربية - وأن كان بعضها في الأصل فارسيا - قد أدت مهمتها في شغل أوقات الفراغ لدى صبيان العرب وصباياهم. مما يدل على أن قسوة الصحراء وخشونة العيش وعنجهية الطبع كل ذلك لم يمنع من إعطاء الحياة لونا زاهيا يشيع معه الفرح والمرح ويهدف إلى تسلية النفس وتسرية الخاطر وترفيه الروح حتى أنتجت مصانع العروبة فوارس الغارات وحماة الثغور.
ولا يخفي ما في هذه الألعاب من استجابة للغريزة البشرية عامة وللبيئة العربية خاصة، ولعل كثيرا وكثيرا جدا غير ما ذكرنا من ألعاب - كان سائدا في تلك البيئة التي نبع منها الشعر وفاضت به البحور.
والشعر ليس إلا نوعا من اللعب كان يلهو به العربي كلما ترامى بين يديه الزمان والمكان جميعا، ولعل معالي أستاذنا الدكتور طه حسين بك كان موفقا كل التوفيق إذ اعتبر (لزوميات ما لا يلزم) نوعا من اللعب الذي كان يزجى به أبو العلاء المعري وقته وهو رهين المحبسين.
ومن هنا تبرز القيمة الحضارية للألعاب العربية فلا ينبغي لها أن ينظر إلها الدارسون على أنها عاديات (أنتيكة) ولكنها في جوهر الحقيقة معالم حظارة، ومعارف حياة: فيها عرق ينبض، ودم يجري، ونسيم يرف، ورمال تسفو، وبعر يتفتت، وشباب يجد ويلعب.
وإلى جانب هذا نرى الإسلام يسجل للألعاب العربية ما تستحقه من ذكر؛ مشجعا على النافع، مبغضا في الضار، كالقمار والميسر والأزلام وغيرها.
ومقياس النفع والضرر في العرف الإسلامي لا يشذ عن روح هذا الدين المتين وهو إعلاء الغريزة البشرية كأساس للتربية الصحيحة الكاملة لكل من الفرد والجماعة.
وأقرب مثل لذلك أن النبي كان يلعب وهو صغير بعظم وضاح مع الغلمان فمر به يهودي فرأى مهارته في اللعب وميزته على رفقائه فدعاه اليهودي وتوسم فيه البراعة وقال له: لتقتلن صناديد هذه القرية.
ومن هذا يتضح أن الكبار من العرب لم يكونوا ينظرون نظرة العابرين إلى ألعاب الصبيان وإنما كانوا - وهم أصحاب الفراسة - يتفحصون (شخصية اللاعب) أثناء اللعب حتى إذا جاء الإسلام ذهب بغريزة اللعب إلى أبعد مدى تستقيم معه كرامة الإنسان.
أشاد الإسلام بمبدأ (القوة) لأن الله تعالى (ذو قوة) وهو سبحانه (القوي) (أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين).
والمعجزات التي أيد الله بها أنبياءه إنما هي (قوى) بل كوى تتجلى منها آيات صاحب الحول والطول حتى يعلم العبد المحدود في إمكانياته أنه (لا حول ولا قوة إلا بالله).
ومن هنا أكبرت بنت شعيب قوة موسى إذ قالت لأبيها (أن خير من استأجرت القوي الأمين) وناجى موسى عليه السلام ربه فقال (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون) فاطمأن موسى إلى تأييد ربه إذ (قال سنشد عضدك بأخيك فنجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا، أنتما ومن اتبعكما الغالبون) وقال أيضا كليم الله يلتمس القوة من رب القوة ليستعين به على فرعون وملئه (واجعل لي وزيرا من أهلي، هارون أخي، أشدد به أزري وأشركه في أمري).
وهذا محمد عليه السلام يقول (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف) وينزل عليه من السماء (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) ويرى عمر بن الخطاب رجلا يتنطع ويتماوت فيضربه ويقول (لا تمت علينا ديننا أماتك الله). .
وكان النبي يقول وهو يدخل مكة حاجا في العام السابع لهجرته (رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة) وكان يقول عند دخولها في عمرة الحديبية (أرملوا بالبيت ليرى المشركون قوتكم) وهذه هي المناورة المشروعة في الإرهاب المشروع.
سئل أعرابي: لم تسمون أبنائكم بشر الأسماء: نحو كلب وذئب، وتسمون عبيدكم بأحسن الأسماء: نحو رزق ومرزوق ورباح فقال: إنما نسمي أبنائنا لأعدائنا، وعبيدنا لأنفسنا.
وهكذا عنى العرب بالقوة حتى في تسمية أبنائهم لينشئوا أقوياء الأجسام ومن هنا قال النبي الكريم (ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا) وذلك بقصد ربط الخلف بالسلف برباط وثيق من الرمي كمظهر على القوة والشجاعة.
وكان الأنصار يستقبلون النبي يوم هجرته فيقولون: يا رسول الله هلم إلى القوة والمنعة - وكل بني دار يدعونه إليهم معتزين بما عندهم من عدد وعدة وسلاح وخلائف ودرك.
ولم يمهل نبي الإسلام وأمام القوة والإيمان حقوق البدن فقال: (إن لبدنك عليك حقا) ذلك البدن الذي هو (بناء الله) كما سماه سرول الله إذ يقول (من هدم بناء ربه تبارك وتعالى فهو ملعون) وكان النبي يتمنى في بدأ الدعوة أن يعز الله دين الإسلام بعمر بن الخطاب لأنه كان رجلا طوالا عراضا أوتي بسطة في الجسم. فلما اكتمل به عدد المسلمين أربعين خرجوا من مخبأ الأرقم في صفين على رأسيهما حمزة وعمر وقد انتضيا السيف وقريش تنظر مخلوعة القلب وقد أخذ الإرهاب من صناديدها ما أخذ.
ومر رجل على النبي فرأى الصحابة من جلده ونشاطه ما حداهم إلى القول: يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان).
والمعروف أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي وضع الحدود لكل لهو مشروع؛ فقد عصم الله تعالى نبيه منذ نعومة أظفاره يوم دفعته الغريزة والصبا إلى الربوة ليستمع إلى لهو السامرين وعزف العازفين في عرس بمكة ذات ليلة فضرب الله على قلبه فنام حتى الصباح ولم يتدنس طبعه بفساد.
وكان المسلمون في عصر النبي ينتظرون عودة دحية الكلبي من تجارته وهو القسيم الوسيم فيستقبلونه بالطبول والزمور حتى لقد كانوا يتركون النبي قائما على منبره ويخرجون إلى دحية فنزلت (وما عند الله خير من اللهو ومن التجارة).
وإنه لتوجيه سليم لسائر الأجيال الإسلامية ينفرد به رسول الله من بين معلمي الخير وأساتذة الإنسانية إذ يقول (حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرمي) ويقول المربي الأكبر عليه السلام (علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل) كما يقول (تعلموا الرمي فإن ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة).
وحث على مواصلة تعلم الألعاب فقال (من تعلم الرمي ثم نسيه فقد عصى) وقرن تعلم الألعاب بتعلم القرآن إذ قال (من تعلم القرآن ثم نسيه فليس مني؛ ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس مني) وفي رواية أخرى (فهي نعمة جحدها).
ويزيد هذا الحديث إيضاحا وتبيانا قوله الكريم (كل شييْ ليس من ذكر الله عز وجل فهو لهو أو سهو إلا أربع خصال: مشي الرجل بين الغرضين، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، وتعليم السباحة).
وكأنما أدرك رسول الله أن الألعاب ليست وقفا على الفراغ عند العرب في أول عهدهم بالدعوة فدعا إلى مزاولتها مهما اتسع نطاق حياتهم وامتدت رقعة دعوتهم وخرجوا بفتوحاتهم من البداوة إلى الحضارة فهو يقول (ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهوا بأسهمه).
وإنه لدرس نافع من النبي المرشد إذ يقول (كل شيْ يلهو به الرجل باطل إلا رمي الرجل بقوسه أو تأديبه فرسه أو ملاعبته امرأته).
وعلى الجملة فإن الرسول الكريم إنما يهدف إلى صقل الروح وتهذيبها والبعد بها عما يثقل الكاهل من هموم وأحزان فيقول (من كثر همه سقم بدنه) وباللعب يتفادى المرء هذا السقم.
وعندئذ يبدأ مرحلة جديدة من التربية هدفها امتلاك النفس عند الغضب، وإحكام زمامها خشية الزلل، وقيادتها نحو معالي الأمور.
فإذا كان الصرعة هو الذي يصرع الرجال ولا يصرعه الرجال فإن رسول الله كان أول من دعا بالفطرة الخالصة إلى تعلية الغريزة وكبح جماح النفس إذ يقول (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) وهذا هو الجهاد الأكبر: جهاد النفس المركبة من شتى الغرائز حتى لقد سئل النبي: ما الهجرة؟ فقال: (أن تهجر السوء) ثم سئل فأي الهجرة أفضل؟ فقال (الجهاد) قيل وما الجهاد؟ قال: (أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم) قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: (من عقر جواده وأهريق دمه) وقال أيضا (الجهاد ماض إلى يوم القيامة) ذلك بأن الجهاد منهج المؤمن في سبيل انتصار الحق وانتشار الخير وصدق رسول الله (اعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف).
ومن أجل هذه الغاية البعيدة وذلك الهدف الرفيع كان العربي يعلم ابنه الرماية كل يوم إذ يقول: أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني
وفي غزوة أحد أخذ قائد الإسلام ونبي الجهاد يستعرض الصفوف وإذا برافع بن خديج وهو غلام حدث - يشب بقدميه ليبدو طويلا فلا يحرم من الجهاد والاستشهاد فرده النبي لصغر سنه فبكى رافع، فقالوا للنبي: أنه رام، فشفعت له الرماية وأنتظم في سلك المجاهدين. ثم مر النبي القائد بسمرة بن جندب فرده أيضا لصغر سنه فقال أبوه: يا رسول الله إنه يصرع رافعا - فأمرهما النبي فتصارعا فأحسنا المصارعة فأجازهما وقاتلا أحسن القتال.
وفي هذه الغزاة كان نساء قريش يحرضن الرجال ويذمرنهم على القتال وقد اتخذن المعازف والدفوف بينما الأناشيد والأراجيز تلهب ظهور المحاربين حمية وحماسة.
وأخذ أبو دجانة سيف النبي بحقه واعتصب بالموت الأسود وأخذ يتبختر فأنكروها عليه فقال النبي (إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن) وجاءت إلى النبي أسماء بنت يزيد الأنصارية تسأله في جهاد النساء وأغلب - الظن أنها وغيرها قد سمعت أم عمارة في دفاعها عن النبي يوم أحد - فقال النبي (انصرفي يا أسماء واعلمي أنك من النساء إن حسن تبعل (ملاعبة) إحداكن لزوجها وطلبها لمرضاته وأتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت للرجال) من سعي وجهاد وشهود للجنائز والجماعات.
وكان النبي أعرف الناس بفوائد السفر ومنافع الرحيل فقال (سافروا تصحوا وترزقوا) وكان يسافر إلى الشام صغيرا مع عمه كما كان يتاجر وهو شاب في مال خديجة فأفاد من كل ذلك فوائد جمة. وكان رسول الله مثلا يحتذي في حياته المليئة بكل ما يدفع الإنسانية إلى الرفيع من كل أمر؛ فقد حدثت أم المؤمنين عائشة قالت (خرجت مع النبي في سفر من أسفاره فنزلنا منزلا فقال: تعالي أسابقك، فسبقته. وخرجت معه بعد ذلك في سفر آخر فنزلنا منزلا فقال: تعالي حتى أسابقك فسبقني، ثم ضرب بيده بين كتفي وقال: هذه بتلك).
وكان عليه السلام يقول (إذا أعيا أحدكم فليهرول فإنه يذهب العياء) ولحكمة أسنن الله السعي بين الصفا والمروة هرولة وجعلها من مناسك الحج.
ومن هنا تبرز صفحة جديدة في الإسلام عنوانها (لهو المؤمن) ليتبين المسلم ما أحل الله له وما حرم عليه من صنوف اللهو واللعب، وفي هذا الباب يقول نبي الإسلام (خير لهو المؤمن السباحة وخير لهو المرأة المغزل).
ومما يروى عنه عليه السلام أنه - وله من العمر ست سنوات - أقام بدار النابغة مع أمه وحاضنته أم أيمن، فلما نزل قصر بني عدي بن النجار بالمدينة نظر إلى ذلك القصر وقال: (كنت ألاعب أنيسة - جارية من الأنصار - على هذا الأطم وكنت مع غلمان من أخوالي نطير طائرا كان يقع عليه) ثم نظر إلى الدار وقال: (هاهنا نزلت بي أمي؛ وفي هذا الدار قبر أبي عبد الله ابن عبد المطلب؛ وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار).
وكان اليهود يختلفون عليه وهو يستحم مع الصبيان في البئر فيقول أحدهم - كما تروي أم أيمن - هو نبي هذه الأمة، وهذه دار هجرته.
وفي الحق أن رسول الله قد مارس كثيرا من ألعاب العرب منذ صباه الأول مما كان له أكبر الأثر في نشاطه الجسماني، ورقيه النفساني. وتروي عنه مرضعته حليمة السعدية وتقول (. . . ولما بلغ عشرة أشهر كان يرمي السهام مع الصبيان).
وجاء في كتاب (آداب الإسلام) لابن زمنين أن النبي خرج مع أصحابه حتى انتهوا إلى غدير فسبحوا فيه فقال (ليسبح كل رجل منكم إلى صاحبه وأنا أسبح إلى صاحبي) فسبحوا وسبح النبي إلى أبي بكر.
وإذن فقد أخذت الألعاب على يدي النبي طابعا خاصا فأصبح منها ما يمكن أن نطلق عليه: (السباحة الإسلامية) كمظهر من مظاهر لهو المؤمن، إذ أن روح الإسلام لا تفارق كل عمل يدعوا إليه رسول الله؛ فإذا كانت مهمته عليه السلام هي (المؤاخاة بين الناس) فإنه لم يتخلف عنها حتى في وقت السباحة.
(يتبع)
محمد محمود زيتون
(ممنوع النشر والترجمة إلا بإذن الرسالة)