مجلة الرسالة/العدد 906/ما رأيت وما سمعت

مجلة الرسالة/العدد 906/ما رأيت وما سمعت

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 11 - 1950



في سورية ولبنان

- 4 -

للأستاذ حبيب الزحلاوي

لا محبذ للباحث في شؤون سياسة البلاد العربية التي قسمتها معاهدة سايكس ـ بيكو إلى مناطق نفوذ، وصيرت في تلك المناطق دويلات تنقصها أكثر المرافق الطبيعية، والخصائص الضرورية لقيام الدولة، أقول لامناص له من الإطلاع على أغراض الدول الكبرى صاحبات الأطماع الاستعمارية والأغراض المتشابكة المتضاربة، خصوصا أغراض الدولة البريطانية صاحبة النفوذ والسيطرة على هذا الشرق المبتلى بها. ولابد له أيضا من الاسترشاد بالخطط التي وضعها أقطاب الاستعمار، والاستئناس بالرأي الصحيح الذي بسطه ويبسطه ساسة العالم سواء في مؤلفاتهم أو في مذكراتهم، وهي معروضة في المكاتب وفي متناول يد الكاتب والباحث والطلعة والمتطفل، ولأن من أوائل أغراض المستعمر إيقاف السواد الأعظم من المتعلمين من أبناء البلاد على نياتهم ومقاصدهم التي هي كالبلاء النازل الذي لا مفر منه، والقضاء المحتوم الذي لا مرد له، ولأن من أوجب واجبات الكتاب ومن إليهم من قادة الفكر والساسة المحترفين إيقاف الشعب على ما يحيط به من أمور وما يدبر له من شؤون، أما سياسة إهمال الشعب وخداعه وتضليله وتخدير أعصابه فهي سياسة ضارة بليغة الضرر، سيئة العواقب. وإن من أوائل ما يجب معرفته الآن، الآن فقط هو ما يأتي.

1 - أن الخطة التي رسمتها أطماع الإنجليز، بعد إجلائهم الفرنسيين عن سورية ولبنان، والتي صيرت سورية ولبنان والعراق وشرق الأردن ودولة إسرائيل في أوضاعها الحالية، لم يبق على تنفيذها لتكون تامة كاملة سوى اعتراف الدول رسميا بدولة إسرائيل.

2 - أن الخطة الجديدة التي يضطلع بتنفيذها الجنرال كلايتون، مازالت في دور المناورات، وستبقى تدور في محيط المحاولات حتى تزول الحوائل العسيرة التي تحول دون تنفيذها فورا.

3 - أن تلك الحوائل ليست سهلة كما يتوهم الناس استنادا إلى الصداقة الإنجليزية الأميريكية، بل هي صعبة عسيرة بالنسبة لهذه الصداقة الأميركية الإنجليزية، وأن عسرها، ويسرها موقوف على قرب أو بعد الحرب المقبلة، المقبلة حتما.

4 - أن الحوائل سواء أكانت يسيرة أو عسيرة ستذلل قبل وقوع الحرب المقبلة، أما إذا رضا الشعب السوري أن يتغاضى عن الأميركان، وألا يلتفت إلى ألاعيبهم، وأن يسير مع الإنجليز مدفوعا مع عواطفه، وأن تتحد كلمة رجالاته وهيئاته على مد يدهم إلى العراق وإلى شرق الأردن ضاربا بالفوارق الأساسية والنظم القويمة لبناء الدولة، فعندها فقط تكون (سوريا الكبرى) لا جمهورية سورية ولا عراقية، بل ذيلا للمملكة العربية الهاشمية التي ربطت مصيرها بدولاب عربة الإمبراطورية البريطانية.

هذه هي الخطوة الاستعمارية الإنجليزية الجديدة التي سميتها تجوزا خطة الجنرال كلايتون.

إذن هناك حوائل تحول دون ربط العراق والأردن بسورية فما هي تلك الحوائل؟

- لست أدري كيف أسمي تلك الحوائل أو العراقيل الأمير كية ولا كيف أنعتها، لأنها أقرب إلى ألاعيب الصبية منها إلى المناورات الدبلوماتية.

يقول الأمريكان جهرا أنهم أبناء الإمبراطورية البريطانية البكر، وورثتها الشرعيون، وأن مصلحتهم التي قضت بوضع يدهم على بلاد اليونان والأتراك من جانب وعلى دولة إسرائيل والمملكة السعودية من الجانب الآخر تقضي أن تمتد إلى لبنان ليتم الاتصال من الجانبين. ويقولون ويجهرون بعدم رضاهم عن اتحاد عراقي سوري أردني يعرض وضعهم الساحلي للخطر، ولهذا تراهم يعملون على إحباط خطة سورية الكبرى عملا يماثل مساعي التي يبذلها الجنرال كلايتون وأعوانه على القد والمثل، يسخرون رجالا كرجاله من سوريا ولبنان والعراق منهم المسلم السني والشيعي والمسيحي الموراني والكاثوليكي والأرثوذكسي، والدر زي واليهودي أيضا.

هذا هو الواقع الذي رأيته ولمسته وسمعته، ولكني برغم ذلك أعتقد أن الأميركان لا يعملون أي عمل سياسي أو غير سياسي بغير حلفائهم الإنجليز، وكذلك لا يعمل الإنجليز عملا انفراديا بدون حلفائهم الأميركان. وأكبر ظني أن تلك الألاعيب أن هي إلا ضحك من السوريين، وأن الغرض منها أبعد كثيرا من غاية الضحك نفسها، وقد ألمس الحقيقة أو أدنو منها إذا قلت أن الغرض الحقيقي هو إظهار العرب بمظهر غير الكفؤ لإدراك معاني الحياة الديمقراطية، وتقدير المسئولية الاجتماعية، وجهل السياسة إطلاقا.

سميت حوائل الأميركان ألاعيب صبيان، ويحسن أن أسميها ألاعيب أميريكانية على الطريقة الأميريكية وإلى القارئ مثلا أورده للتسلية والترفيه.

للبنانيين والسوريين جاليات موزعة في جميع أنحاء العالم هاجرت منذ زمن بعيد، واستقر بأكثرها النوى في أمريكا بلاد الاجتهاد والمغامرات والكسب، وقد صار لها فيها نشاط اقتصادي ملحوظ، ومكانة في التجارة محترمة، وسمعة في الأخلاق طيبة. ولكن هاتيك الجاليات، وعددها في ولايات أميركا المتحدة وغير المتحدة أكثر من عدد سكان لبنان، برغم البعاد البعيد، والمسافات الشاسعة الفاصلة، تحن دائما أبدا إلى الوطن وساكنيه، لا تألو جهدا في إمدادهم بالمال المعونة، كلما دعاها داع وطني أو قومي، أو استنجد بها مستنجد، حاكم أو هيئة أو راع ديني.

من هذه الجاليات، ولأول مرة في تأريخ الهجرة، قيل لنا بلسان الصحافة اللبنانية في الوطن والهجرة أن جمعيات لبنانية سورية، عددها حوالي الأربعين عقد رؤساؤها الأفاضل، مؤتمرا عاما في نيويورك أطلقوا عليه اسم (الأحلاف السورية اللبنانية لولايات أميركا الشرقية) قرروا فيه دعوة إخوانهم الأعضاء لزيارة الوطن والأهل.

لبى الدعوة نحو من ألف سيد وسيدة منهم الثري واسع الثراء، ومنهم المتوسط الحال، وأكثرهم من المتقاعدين عن العمل، وفيهم الصبي اليافع والفتاة الناضجة.

رحبت الحكومتان اللبنانية والسورية بالفكرة وتبنتاها، واتفقنا على تسمية هذا الحجيج الأول (بمؤتمر المغتربين) ونظمتا برنامجا للاحتفال بالمغتربين أضياف الحكومتين وقد رصدتا لهم مبلغا من المال وفرا ينفق بسخاء على إخواننا وأبنائنا (العائدين برؤوس أموالهم الضخمة يستثمرونها في بناء المصانع والمعامل وأحياء أرض الوطن).

لبيت أنا الدعوة، فلمست الذوق اللبناني الرفيع يتجلى في الدعوة التي أقامها لبنان في (عالية)؛ وتذوقت السخاء العربي والأنس البهيج في الحفلة التي أقامتها سورية في متحف آل العظم بدمشق، ورافقت المغتربين وحضرت أكثر الاحتفالات والاجتماعات والدعوات والزيارات المدبرة، وسعدت بلقاء إخوان وأصدقاء ومعارف لم يكن يخطر ببالي أن سألقاهم بعد أن فرقت بيننا سبل العيش، وانتبهت إلى سماع ردود المغتربين على أسئلتي ودونتها على مذكراتي، ووعيت أقوال الخطباء من أركان الحكومتين السورية واللبنانية، وتيقظ ذهني لكل كلمة وردت في خطاب رئيس المغتربين، وعنيت بعض العناية بما نشرته أكثر الصحف. ولما عدت إلى نفسي وذاكرتي، وقفت حيران لا أدري كيف تكون المقارنة بين أقوال الداعين والمدعوين، ولا كيف السبيل إلى التوفيق والتوحيد بين من يريني السهى فأريه القمر!

لقد رحب لبنان رسميا (بالمغتربن العائدين بأموالهم يستثمرونها في إحياء أرض الوطن) ورحبت سوريا بأبنائها (الذين غادروا البلاد عندما كانت تحت وطأة الحكم الأجنبي. . . ولم ينسوا أهلهم أيام محنتهم وجهادهم للاستقلال. . بل أمدوهم وأعانوهم وشاركوهم بالألم والأمل) وهي تعترف لهم بلسان رئيس الوزراء (بنصيبهم من أسباب الحياة القومية المتقدمة) ويدعوهم (مع المحافظة على ولائهم لأوطانهم الجديدة، إلى أن يبقوا صلتهم بالوطن قوية فعالة للخير المشترك والمصلحة الشاملة. . . لتكون مؤدية لما تنشدون وننشد من دعم نهضة وتوطيد محبة وأخوة).

أما الخطاب الذي ألقاه رئيس مؤتمر المغتربين في الجامعة السورية بحضور رئيس الجمهورية ووزراء من سورية ولبنان، وعدد من أعضاء الجمعية التأسيسية ومن هيئات تمثل جميع الطوائف والأعيان وسفراء الدول كان خطابا جامعا لتاريخ الهجرة، وجهاد المهاجرين، وما عملوا وما أفادوا وكيف تطوروا فصاروا شركاء مع الأمريكان في الحياة الديمقراطية، وتعريفها (أنها في جوهرها طريقة في الحياة أساسها الإيمان الوثيق بقيمة الفرد وكرامته) ثم أخذ يشيد يتقدم سورية العظيم في نهضتها الاقتصادية والعمرانية وأنها (موضع فخرنا وثقتنا بإخلاص الشعب السوري لقضية بلاده) وقال:

(كلنا يعلم أن في الاتحاد قوة. . . ونحن متأكدون أن شعبي سورية ولبنان وزعماءهما سينهجون سياسة تعاون مستمر بين البلدين. . . لأن سلامة أي منهما متعلق بالآخر).

أنتقل الخطيب إلى موضوع أخر وهو ما ألفت نظر القارئ إليه قال ما نصه:

(ومنذ أمد وجيز تألف اتحاد إقليمي يضم سائر الأحلاف في الولايات الأمريكية. . ولي وطيد الأمل أن تكون اجتماعاتنا هذه في سورية ولبنان بما تضمه من مندوبين عن المهاجرين في مختلف أرجاء العالم، (خطوة تمهيدية لتشكيل منظمة دولية لكافة المغتربين). . (ومؤتمرنا المنعقد في سورية ولبنان قد أتاح لنا فرصة نادرة لتوطيد العلاقات الوثيقة بين الأمم، وخاصة بين الولايات المتحدة وسورية ولبنان). . (والمهم في الأمر هو أن نكون بعملنا هذا، أداة فعالة في وضع الأسس لمشاريع أخرى في المستقبل تساعد على نشر التفاهم وحسن النية مع شعوب العالم).

تلفت حولي أسأل نفسي عن المراد بتشكيل منظمة دولية لكافة المغتربين وما الغرض منها؟ وعن سنوح الفرصة النادرة لتوطيد العلاقات بين الولايات المتحدة وسورية ولبنان، وكيف تتطور العلاقات بينهما وبين الولايات المتحدة وهي تناصر اليهود وتشد أزرهم على عرب فلسطين الذين نزعت بلادهم منهم وطردوا منها؟ وعن كيف تكون جمعيات المهاجرين أداة فعالة في وضع الأسس لمشاريع تساعد على نشر التفاهم وحسن النية بين شعوب العالم، وأي عالم هذا الذي ليس بينه وبين سورية ولبنان تفاهم وحسن نية غير دولة إسرائيل ربيبة ترومان وشعب العم سام؟

وددت لو أستعين بمن تمرنوا على قراءة ما بين السطور أو ألفوا التعابير المرنة والصياغات المتنوعة للمعنى الواحد، ولقد كنت استعنت بسواي من غير تردد لو أن حكومة أمريكا هي القائلة هذا القول بلسان وأحد من رجالها، ولكني تذكرت قول الصديق الكريم أحمد رمزي بك في رجال يرددون ما يلقنون تلقينا، وليس ببعيد أن يكون هؤلاء من أولئك.

يممت زحلة موطن أجدادي للاستجمام والراحة، وإذا بي أتلقى ساعة وصولي دعوة من شخصية رسمية لبنانية كريمة إلى حضور مؤتمر لبناني يضم جميع رؤساء الجمعيات التي كونت مؤتمر المغتربين لم أستغرب الدعوة بل استغربت اجتماع هؤلاء الرؤساء في مدينة زحلة وبرنامج الاحتفالات في سورية لم يتم بعد!

لبيت الدعوة ونفسي تحدثني بوقوع مفاجئة مسرحية تحل عقدة الرواية.

سمعت خطبا عدة كلها إشادة بالعبقرية اللبنانية وسمعت رئيس المؤتمر يشرح لرؤساء الجمعيات معاني الجمل التي وردت في خطابه وكيفية تفسيرها، ورأيت الأستاذ سعيد عقل الشاعر المعروف بألمعيته وجرأته، يقف فيرتجل خطابا حمل فيه حملة شعواء على أولئك الذين يلعبون بعبقريات الرجال لعب القط بالفار، وعلى دولة إسرائيل التي لا حد لأطماعها وتوسع دولتها وعلى الدولة العاتية التي تريد أن تغرر بنا باسم النصرانية والإسلام وهي لا تحترم العرب ولا تقدر نهضة الشرق ويقول، أن كتابا قد أتم تأليفه سينشره قريبا، وعندها يعلم الأمريكان أي أثم يجترحونه في إضعافهم العرب وتقوية اليهود، وأي جريمة اقترفوها في فلسطين.

لقد وجم الحاضرون وسكتوا احتراما لمكانة الخطيب الشاعر ابن زحلة المحبوب.

لا داعي إلى ذكر ما حدث بعيد خطاب الأستاذ عقل وارفضاض المؤتمر، وما أوردت هذه الخلاصة المقتضبة إلا لأظهر العقلية الأمريكية الطفلة كيف تلعب بعقليات وعبقريات الرجال الطفلة أيضا على طريقتها الأمريكية، وهي تلعب في سورية كما تلعب في لبنان وبالمهاجرين أيضا.

حبيب الزحلاوي