مجلة الرسالة/العدد 907/شعراء معاصرون مغمورون

مجلة الرسالة/العدد 907/شعراء معاصرون مغمورون

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 11 - 1950



للأستاذ الدكتور محمد كامل حسين

1 - حسن طنطاوي سليم

روى ابن خلكان في حديثه عن ربيعة الرأي أن بكر بن عبد الله الصنعاني قال: أتينا مالك بن أنس فجعل يحدثنا عن ربيعة الرأي، وكنا نستزيده من حديث ربيعة، فقال لنا ذات يوم: ما تصنعون بربيعة وهو نائم في ذلك الطاق؟ فأتينا ربيعة فأنبناه، وقلنا له: أنت ربيعة؟ قال نعم. قلنا: أنت الذي يحدث عنك مالك ابن أنس؟ قال نعم. قلنا: كيف خطر بك مالك وأنت لم تخطر بنفسك؟ قال: أما علمتم أن مثقالا من دولة خير من حمل علم!!!

هكذا استطاع ربيعة الرأي بهذا الرد المفحم أن يسكت من جاء يؤنبه، وكانت كلماته هذه أصدق تصوير لما عليه المجتمع في كل العصور، وكل البيئات، فقد أدرك ربيعة أن العام لا يعظم قدره إلا إذا اتصل بذي سلطان، وأن الشاعر لا ينبه ذكره إلا إذا عاش في كنف عظيم، وأن الأديب لا يحمد أمره إلا إذا حظى بصحبة من بيدهم الأمر. والتاريخ يحدثنا بأنه قل أن نجد عالما قدر علمه في حياته، أو شاعرا سار شعره، أو فنانا علا صيته إلا وجدنا وراءه صاحب أمر يقدمه إلى الناس، وعندئذ فقط يلقى من الجماهير تقديرا لفنه، وإشادة بذكره وإعجابا بمواهبه، أما هؤلاء الذين وهبوا ملكات علمية أو فنية ولم يستطيعوا الاتصال بعظيم أو كبير فهم يعيشون منطوين على أنفسهم، منزوين في عقور ديارهم، لا يشعر بهم أحد، ولا تعرف ملكاتهم ولا تقدر مواهبهم. فمنهم من لا يقوي ملكته الفنية لأن الناس حوله لا يشعرون به، ومنهم من يغذي مواهبه وملكاته إرضاء لنفسه دون الحاجة إلى إرضاء الناس وهؤلاء هم الذين سنتحدث عنهم محاولين أن نظهر شخصيتهم الفنية، لأن هؤلاء أولى بالحديث عنهم لأن الفن أصيل عندهم. وهم كما قال أرسططاليس يعيشون للفن فقط، ومن هنا كان فنهم أرفع وأرقى من فن كثير ممن حظوا بشهرة واسعة، واسما عريضا، ونالوا تقدير الجمهور وإعجابه.

وأول حديث لي عن الشعراء المغمورين، هو الحديث عن شاعر معاصر هو الأستاذ حسن الطنطاوي سليم مدرس اللغة العربية بمدرسة المنيا الثانوية، فقد سمعت منذ شهور قطعة من شعره كان يحفظها صديق زميل، فأعجبتني تلك المقطوعة لما فيها من شاعرية وف أصيل، لاحظت أن الشاعر لم يكن من المتكلفين ولا من المنمقين، إنما يرسل الشعر عن طبيعة فنان متمكن من فنه في ألفاظ سهلة يسيرة ليس بها غموض ولا تعقيد، فهو يقول في هذه المقطوعة

رأى في اللهو متسعا ... فخلى الزهد والورعا

وأقسم لا يرى قمرا ... بدا، إلا به ولعا

فصار الحب مذهبه ... وعاد لغيده تبعا

وصرف الدهر شيبه ... وصير رأسه شيعا

ودق الهم أعظمه ... فما تاب ولا امتنعا

عذاب الحب شرعته ... رضينا بالذي شرعا

حقيقة أرى كثير من الشعراء المتقدمين تناولوا الغرض في شعرهم، وذكروا أمثال هذه المعاني، ولكن الشاعر الحديث أرق من القدماء، ولا سيما البيتين الأخيرين.

طلبت المزيد من شعر هذا المغمور، وأردت أن أعرف شيئا من ترجمة حياته، فكان من حظي أن ألقاه وأتحدث إليه ويتحدث الي، فعرفت أنه رجل عصامي حقا، نشأ في أسرة فقيرة، ولكنه كافح في الحياة، وذاق الحلو والمر، واضطر إلى أن يلتمس قوته في الوقت الذي كان يهيئ نفسه فيه للحصول على الشهادات الدراسية، يشتغل مرة كاتبا عند صائغ، ومرة أخرى كاتبا عند محام، ثم يحصل على كفاءة التعليم الأولى فيعين مدرسا إلزاميا، فناظر إلزاميا أيضا، ولكن لم تقعد به همته عند هذه الوظائف بل درس وجد في الدرس حتى حصل على دبلوم التجارة الليلية في نفس السنة التي حصل فيها على شهادة تجهيزية دار العلوم، وقد ساعدته مواهبه وملكاته على أن يحصل على هاتين الشهادتين من المنزل دون أن يتلقى العلم عن مدرس بالرغم من كده في أعماله الأخرى التي اضطرته إليها الحياة، واستمر في كفاحه حتى حصل على إجازة التدريس في دار العلوم وتقلب في مناصب التدريس بالمدارس الابتدائية والثانوية حتى استقر به المقام في بلده الذي نشأ فيه، وأصبح قانعا بما وهبه الله من سعة في الرزق. فازدادت إكبار له وإعجابا بنشاطه وهمته، واستمعت إلى أشعاره، فعجبت كيف يغمر مثل هذا الفن، ويجهل مثل هذا الشاعر المكافح المجاهد في الحياة. أنشدني قطعة من قصيدته (معجزة القرآن الكريم) وفيها يقول: قالت أتطرب بعد فوت أوانه ... وترى حليف البشر بعد زمانه

وأراك في مرح الصبا وكأنما ... عاد الشباب إليك في ريعانه

قلت أسمعي يا عز لا تتعجبي ... إني سمعت الله في قرآنه

والجن قد سمعت به فتعجبت ... من رشده، وصغت إلى رحمانه

(عمر) الذي قد كان جد معاند ... للمسلمين يلج في طغيانه

لما تلا (طه) استعاد صوابه ... وأتى الرسول يموج في إيمانه

وأنا الأديب تلوته ووعيته ... فسجدت عجزا عند سحر بيانه

(ومحمد) لم يختلقه وإنما ... مولاه يسره لنا بلسانه

الله غازله وناسج برده ... والمصطفى البزاز في دكانه

لا يبتغي أجرا على تبيانه ... فالله آجره برحب جنانه

قد أعجز الفصحاء منذ نزوله ... حتى يصير الدهر في أكفانه

إن كنت تنكر ذاك، فأت بسورة ... من مثله وانزل إلي ميدانه

أو فانطح الصليب فإنما ... مولاك وازنه على ميزانه

أين السفينة؟ أين بعض حطامها؟ ... يروى لنا ما كان من طوفانه

أين العصا؟ تحكي لنا بلسانها ... ما كان من فرعون أو هامانه

أو طين عيسى فيه ينفخ داعيا ... فإذا به طير على أفنانه

بل أين ناقة صالح في شربها؟ ... ولهيب إبراهيم تحت دخانه

فنيت جميع المعجزات ولم يزل ... حيا يشير إلى الهدى ببنانه

من هذه القصيدة الجميلة نرى الشاعر يتأثر بالقرآن الكريم، ويجري لسانه بالحديث عن إعجاز القرآن حديث رجل امتلأ بنور الهدى والفرقان، فاقتبس في قصيدته بعض آيات القرآن، وضمن قصيدته معاني آيات أخرى، نظمها في هذا الشعر السهل الرقيق، ثم نرى الشاعر وفق في اختيار الألفاظ التي تلائم المعنى الذي يقصده ملائمة تامة ولا سيما في البيتين الرابع والخامس، ففي البيت الرابع يتحدث عن عمر قبل الإسلام فقال إن عمر كان (يلج في طغيانه) وفي البيت الخامس يتحدث عن عمر بعد الإسلام فقال أنه تموج في إيمانه ولعلك معي في إن الشاعر أحسن كل الإحسان في اختيار هذه الألفاظ التي تدل على ما يرمي إليه مع ما فيها من الموسيقى اللفظية التي تلائم المعنى. وجميل من الشاعر أن يتحدث في آخر بيت من القصيدة عن معجزات الأنبياء وأنها فنيت وليس لها أثر الآن، ولكن القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى التي لا تزال بل ستظل باقية إلى أن يشاء الله.

وشاعرنا مصري تتمثل فيه خصائص البيئة المصرية، وتتجلى شخصيته الفنية في مقطوعاته الفكاهية، ومداعباته لإخوانه، أو حديثه عما يحيط حوله من ألوان الحياة، والمصري كما قال بعض النقاد - يميل إلى الفكاهة ويتذوقها، ويقهقه لسماعها، والأدب المصري منذ أقدم العصور مليء بالفكاهات الشعرية وغير الشعرية، حتى لتعد الفكاهة ضرورة من ضرورات الحياة المصرية، والشاعر حسن طنطاوي سليم ضرب بسهم وافر في هذه الناحية حتى لتكاد تذهب إلى أن شعره كله في الفكاهة بل في المجون، ومتى كانت الفكاهة المصرية خالية من المجون؟ - استمع إليه وهو يداعب معالي عبد الحميد عبد الحق باشا وزير التموين سابقا إبان أزمة السكر، وكان الشاعر أصيب بمرض البول السكري.

قل لعبد الحق إن لاقيته ... لا تخف نقصا يصيب السكرا

إن عندي منه قدرا هائلا ... يغرق الأمصار طرا والقرى

أشرب الماء نقيا صافيا ... فإذا السكر فيه قد سرى

أبيض اللون فإن حللته ... صار في الأنبوب شيئا أحمرا

مالكم ترجون (عبودا) وفي ... مصر من سكره يكفي الورى

أو استمع إليه وهو يصف (السويس) إبان الحرب وقد تزاحم فيها الناس، واشتد بها الغلاء، وتساقطت عليها القنابل، كل ذلك في صورة متلاحقة سريعة يتلو بعضها بعضا كأننا نشاهد عرضا سينمائيا.

خرجت من السويس وفي فؤادي ... قروح ما لها قط التئام

لأن بها غلاء لا يدانى ... حلا في جنه الموت الزؤام

وأزمة مسكن دون انفراج ... فليس بها لمغترب مقام

زحام ما رأيت له مثيلا ... تعالى أن يقال له زحام

كأن الناس (سردين) فبعض ... على بعض - وإن كرهوا - ينام ترى في ساحها سمكا ولكن ... على أمثالنا سمك حرام

يكاد الفول فوق السوس يجري ... من الأطباق حتى لا يرام

كسيارات بترول عليها ... صهاريج بسيرها همام

شهدت بها الليالي كالحات ... يضيء سوادها فحمتها ضرام

قنابل في شظاياها فناء ... وفي نيرانها رقص الحمام

فتلك جواؤها، أما ثراها ... ففيران يسابقها (الترام)

جيوش في بطون الأرض تجري ... وفي جدران أدؤرنا قيام

لبسن الليل ثوبا من سواد ... أليس الشر موطنه الظلام

تكاد على أسرتنا تناجي ... وترقد لا تخاف ولا تضام

كأن القط حالفها - أمينا ... فبين كلاهما أبدا ذمام

ذواهب آمنات راضيات ... كأن قد ضمها البيت الحرام

ألست معي في أن فكاهات الشاعر حسن طنطاوي هي فكاهات تتمثل فيها الروح المصرية المرحة، وأن شعره يتناسب مع البيئة المصرية اللينة الهادئة التي تميل إلى البساطة في كل شيء فإذا بألفاظ الشاعر مطبوعة بهذا الطابع المصري اللين البسيط، وأنه يحاول أن يحلي شعره ببعض ألفاظ وتعبيرات مصرية خالصة مما يستعملها الناس في حياتهم العامة، ولا يبالي الشاعر إذا كان هذا اللفظ عربي الأصل أو غير عربي ما دامت هذه الكلمة قد دخلت إلى لغتنا العربية واستعملها الناس وفهموا مدلولها، شأنها في ذلك شأن آلاف الكلمات التي دخلت قواميس اللغة العربية في العصور السابقة وعرفت بأنها دخيلة ولكن الشعراء استعملوها، وأجازها النقاد والأدباء، فشاعرنا لم يتقيد بقيود علماء اللغة العربية، فهو يحافظ على اللغة وسلامتها من ناحيته، ويجدد فيها ويعيد إليها الحياة باستعمال بعض كلمات اصطلح الناس على تسميتها بالعامية، فشأنه في ذلك شأن الشاعر البهاء زهير الذي لم يتردد في أن يكثر من استخدام التعبيرات العامية المصرية في أشعاره وإن أغضب في ذلك نحاة عصره ولكن النقاد الأدباء فتنوا بشعره، ولا يزال النقاد إلى الآن يعجبون به، ولنا رجعة إلى الحديث عن الشاعر مرة أخرى.

محمد كامل حسين