مجلة الرسالة/العدد 907/من الحوادث الأدبية

مجلة الرسالة/العدد 907/من الحوادث الأدبية

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 11 - 1950



روزفلت في مصر

للأستاذ محمد سيد كيلاني

في شهر مارس سنة 1910 جاء مستر روزفلت رئيس جمهورية الولايات المتحدة سابقا إلى مصر عن طريق السودان بعد أن أمضا فترة في الصيد في غابات السودان. ونزل في أسوان والأمصر وزار ما فيهما من آثار.

وقد أراد المحتلون أن ينتفعوا بنفوذ روزفلت الأدبي في تثبيط همم المصريين وأضعاف عزائمهم حتى يرضوا بالاحتلال وينصرفوا عن طلب الاستقلال. فأوعزوا إليه أن يخطب مطريا الحكم البريطاني محبذا بقاءه. فقام في الخرطوم وألقى خطبة أشاد فيها بمزايا هذا الحكم وفوائده؛ كما أشاد بمزايا الدين المسيحي وفضائله وتواترت الأنباء بهذا إلى أذهان المصريين فتأثر الرأي العام بما سمع. وقد نظم المرحوم أحمد شوقي قصيدة فريدة هي قصيدة (أنس الوجود) وأهداها إلى الرئيس الأمريكي مرفقة بخطاب جاء فيه (. . . أنت اليوم تمشي فوق مهد الأعصر الأول، ولحد قواهر الدول. أرض أتخذها الإسكندر عرينا، وملأها على أهلها قيصر سفينا، وخلف أبن العاص فيها لسانا وجنسا ودينا، فكان أعظم المستعمرين حقيقة وأكثرهم يقينا. وهو الذي لم يعلم عليه أنه بغى أو ظلم أو سفك الدم أو نهى أو أمر إلا بين الرجاء والحذر، من عدل عمر، الذي تنبيك عنه السير.

(قمت أيها الضيف العظيم في السودان خطيبا فأنصت العصر، والتفتت مصر، وأقبل أهلها بعضهم على بعض يتساءلون: كيف خالف الرئيس سنة الأحرار من قادة الأمم وسواس الممالك أمثاله فطارد الشعور وهو يهب، والوجدان وهو يشب، والحياة وهي تدب في هذا الشعب. ومن حرمة العواطف السامية ألا تطارد كأنها وحوش ضارية، على صحراء أو بادية، كما طارت السباع بالأمس نقما من طبائعها الجافية. . . الخ) وقد وفق شوقي في هذه القصيدة توفيقا كبيرا وأجاد إجادة تامة. ولا ريب في أن عاطفته القوية وإحساسه المتدفق وشعوره الفياض كان حافزا له على التجويد. واهتم الشاعر في هذه القصيدة بالتنويه بمجد مصر القديم وحضاراتها ومدنيتها وما كان فيها من العلوم وما تركه الأقدمون من العمران. وقد كان قوي الأسلوب متين العبارة. وأراد الشاعر أن يكسب عطف هذا الرجل الأمريك حتى ينصر لمصر والمصريين ويعينهم بنفوذه الأدبي في قضيتهم الكبرى؛ قضية الاستقلال.

ومن قوله مخاطبا روزفلت:

يا إمام الشعوب بالمس واليو ... م ستعطى من الثناء فترضى

كن ظهيرا لأهلها ونصيرا ... وابذل النصح بعد ذلك محضا

قل لقوم على الولايات أيقا ... ظ إذا ذاقت البرية غمضا

شيمة النيل أن بقى وعجيب ... أحرجوه فضيع العهد نقضا

لم يشأ شوقي أن يلوم روزفلت أو يعتب عليه على ما تفوه به في الخرطوم من مدح للإنجليز وإطراء لهم. وذلك لأنه كان يطمع في أن يضمه إلى جانب المصريين فرأى أن يخاطبه فيأدب جم ورفق ولين، وأن يستميله إلى ناحية مصر بالتغني بهذه الآثار التي شاهدها روزفلت في الصعيد، ومما تدل عليه من عبقرية ونبوغ. وشعب كهذا جدير بالتقدير والاحترام، خليق بالحرية والاستقلال

أما حافظ وغيره من الشعراء فإنهم قابلوا روزفلت بالعتاب المر واللوم الشديد والتقريع والتعنيف، وقدموا له الأدلة والحجج على فساد آرائه وخطأ أفكاره وبعده عن جادة الحق،

أنظر إلى حافظ حين يقول:

يا نصير الضعيف مالك تطرى ... خطة القوم بعد ذاك النكير

لم تطيقوا جوارهم بل أقمتم ... في حماكم من دونهم ألف سور

أنت تطريهم وتثني عليهم ... نائما آمنا وراء البحور

ليت شعري أكنت تدعوا إليهم ... يوم كانوا على تخوم الثغور

يوم كانوا قذى بعين (نيويور ... ك) وداء مستحكما في الصدور

يوم نادى واشنجتون فلبا ... هـ من الغيل كل ليث هصور

يوم سجلتمو على صفحات الد ... هر تاريخ مجدكم بالنور

ووثبتم إلى الحياة وثوبا ... ونفضتم عنكم تراب القبور

إنما النيل والمسيسبي صنوا ... ن هما حليتان للمعمور

وعجيب يفوز هذا بإطلا ... ق وهذا في ذلة المأسور هكذا خاطب حافظ روزفلت.

والشاعر في هذه الأبيات يرسل القول من أعماق فؤاده ممتزجا بدمائه. ويقول له إنكم لم تصبروا على حكم الإنجليز ولم تطيقوا بقائهم في بلادكم بل قمتم عليهم وأجليتموهم عن دياركم وطاردتموهم حتى خلت منهم أقطاركم ونلتم حريتكم واستقلالكم. ثم أخذ يسأله قائلا: هل كنت تمدح الإنجليز وتتغنى بفضائلهم يوم كانوا مرابطين في ثغوركم؟ هل كنت تمدحهم يوم قام واشنجتون يدعو إلى كفاحهم وجهادهم؟ يوم أن كانوا قذى في عين نيويورك وغصة في حلقها؟ لا شك في أن روزفلت لا يجيب عن هذا السؤال لأنه لم يرد خدمة الحق؛ بل أباح له ضميره الميت أن يحكم على شعب مجيد بالذل والهوان في سبيل منفعته الخاصة.

لقد دعى الجل إلى الخطابة في الجامعة المصرية فألقى خطبة طويلة ردد فيها آراء المحتلين في عدم صلاحية المصريين للحكم الدستوري والاستقلال ومما جاء فيها قوله (. . . فإنك لا تجعل الإنسان متربيا ومتعلما تعلما حقيقيا بمجرد إعطائه دروسا معينة، وكذلك لا تجعل أمة صالحة لأن تحكم نفسها بنفسها بمجرد إعطائها دستورا على الورق؛ بل تربية الفرد وتعليمه حتى يصير صالحا للعمل في العالم تستغرقان أعواما طويلة. وهكذا تربية الأمة وإعدادها حتى تنجح في قضاء واجبات الحكومة الذاتية لا يتمان في عشر سنوات أو عشرين بل يلزم لهما أجيال متعاقبة.) ثم قال (. . . فإن بعض الدجالين الجهلاء يزعمون أن مجرد إعطاء دستور على الورق ولا سيما إذا جعلت له مقدمة ترن ألفاظها في الآذان يجعل الأمة قادرة على الحكم الذاتي. وليس الأمر كذلك أبدا. . . الخ)

ظن روزفلت أنه قادر بمثل هذه الأقوال على القضاء على الروح الوطني عند المصريين وإخماد أنفاسهم وتدمير عزائمهم فيقبلون حياة العبودية والاحتلال راضين مطمئنين. ولكن خيب الله ظنه وأخزاه فلم يفلح في ما سعى إليه بل باء بفشل عظيم. ولم يكن الشعب المصري من الغفلة والسذاجة بحيث ظن، بل كان يقضا حساسا. وعلى هذا فإن خطبة روزفلت أثارت حفيظة المصريين أجمعين وأشعلت في قلوبهم نيران الحقد والبغض للمستعمرين وأنصارهم. فكأن الرئيس الأمريكي والحالة هذه قد أساء إلى المحتلين وأثار في وجوههم زوبعة عنيفة. أنظر إلى ما قالته صحيفة الأهرام في عدد 31 مارس سنة 1910 وهو (ما خطر لنا في خاطر أن المستر روزفلت يمر بهذه البلاد مرور العاصفة تترك وراءها دورا كبيرا، أو مرور الصاعقة تهز أعصاب البلاد هزا عنيفا. بل لم يخطر لنا بخاطر أن تكون زيارته مثارا يثير كوامن الأقلام ومحظأ تحرك به نيران الأحقاد فنسمع بعد رحيله عنا من فرقنا كلاما طالما أنكره العقلاء وتبرأ منه ومن إثارة زوابعه الفهماء. ولكن أبى روزفلت إلا أن يقول كلمة هاجت من الناس شجونا وحركت سكونا وأبرزت كامنا. . . الخ) فمن هذه الفقرة تدرك مقدار ما أثارته خطبته من آثار سيئة في النفوس.

وقد شمر الكتاب والخطباء والشعراء للرد على الرئيس الأمريكي فامتلأت الصحف بالمقالات الطويلة في هذا الموضوع، والظاهر أن الكتاب وجدوا فرصة للدعوة إلى الحكم الدستوري فكتبوا وأطنبوا شارحين الخطأ العظيم والضلال الكبير الذي وقع فيه روزفلت عامدا متعمدا. وهكذا ارتدت سهام المستعمرين إلى نحورهم وثبت المصريون على حقهم بل ازدادوا قوة وحماسة في المطالبة بالحكم الدستوري والاستقلال.

ولو عقل المستعمرون لما قاوموا هذه الرغبة ولما وقفوا في وجه تلك النهضة؛ ولكن شهوة الاستعمار أعمتهم وأضلتهم عن سواء السبيل. وكيف يعقل أن يسكت الشعب المصري على الذل والهوان في الوقت الذي تمتع فيه الترك وأمم البلقان بالحرية والدستور وهم أقل من المصريين ثقافة وحضارة؟ لقد أشتد تطلع المصريين إلى الدستور منذ اليوم الذي ظفر الأتراك به. قلنا إن الشعراء ساهموا في الحملة على روزفلت. فمن ذلك قول أحمد نسيم

سدد سهامك عند كل خطاب ... لست الذي ترجى ليوم مصاب

أمبشر يهدي العباد لدينه ... أم ضيفن مذق اللسان محابي

برح الخفاء وبان روزفلت لنا ... من أبغض الأعداء لا الأحباب

برح الخفاء فلا تكونوا أمة ... تدع الدخيل يعضها بالناب

أياكموا أن تركنوا لزخارف ... تثنيكم عن مجلس النواب

أني أرى الدستور يخطر بينكم ... لا تتركوه فإنه بالباب

وقال آخر

روزفلت آلمت العواطف منكرا ... كرم الوفادة مرضيا إنكلترا

ما هكذا الرجل العظيم تميله ... عن مبدأ الأحرار أغراض الورى ما أصدقوك رواية عن حالنا ... بل كان ذاك القول افكا مفترى

هلا سبرت شعورنا من قبل ما ... تلقى الخطابة بيننا مستهترا

أنسيت تاريخا لكم ولغيركم ... شغلت به تلك المظالم أعصرا

حكم النفوس على النفوس مصيبة ... عظمى أيمدحها الرئيس مكررا

حكم ضميرك يا رئيس وبعدها ... فأحكم بما يرضاه عنك مسطرا

وقال الأستاذ علي الغاياتي

لعمرك لست بالرجل الهمام ... إذا عد الهمام من الكرام

كرام الناس أصدقهم حديثا ... وأبعد عن أكاذيب اللئام

فمالك لم تقم بالنيل إلا ... لتسمعنا أباطيل الكلام

لقد كنتم لأهل الأرض نهبا ... وكانت أرضكم أرض اغتنام

وكان الإنجليز لكم رؤوسا=فهل رفعوا لكم هام احترام

وهكذا أفرغ الشعراء غضبهم على السائح الأمريكي الذي جر على نفسه ذلك الغضب. والشعر الذي قيل في هذا الصدد شعر عاطفي صادق كل الصدق. ولم يكتف أحمد نسيم بلوم الرئيس روزفلت وتعنيفه، بل أتجه إلى المصريين وحثهم على احتقار أقوال روزفلت وازدرائها وحرضهم على مواصلة الجهاد والكفاح في سبيل الدستور الذي آن أوانه واقتربت ساعته كما قال في شعره. وهذه روح طيبة تدل على سمو صاحبها وعلى أنه لا يعرف اليأس ولا القنوط.

أما أبيات الغاياتي فإنها امتازت بالشدة والقسوة. فهي هجاء لاذع وطعن فاحش، ولكنه لا يقاس إلى جانب طعن روزفلت في المصريين. فهو مثلا في قوله (. . . فان بعض الدجالين الجهلاء يزعمون أن مجرد إعطاء دستور. . . الخ) عنى رجال الحزب الوطني الذين كانوا يلحون في طلب الدستور ليل نهار. والأستاذ الغاياتي كان وما زال من رجال الحزب الوطني، فلا لوم عليه إذا قابل وقاحة روزفلت بما تستحق، وجزاء سيئة سيئة مثلها.

وقال إسماعيل صبري:

إذا سيق تبر إلى مسمع ... تعسر خالصه في الرغام وإن ساق روزفلت ما دونه ... إليه تنحى كلام الكرام

صدقتم وأخطأ من لم يقل ... كلام الرئيس رئيس الكلام

وقد استهجن الناس هذه الأبيات وأطلقوا ألسنتهم في قائلها بألفاظ نابية، فأضطر إسماعيل صبري إلى إعادة نشرها ثم علق عليها بكلمة جاء فيها: (. . . وما البيت الثالث الذي هو مظنة المدح والإطراء إلا تهكم على من يقدرون الكلام على حسب مقدار قائله.) ولكن الذي لا شك فيه أن إسماعيل صبري لم يكن موفقا في هذه الأبيات.

وقد تألفت مظاهر وسارت إلى فندق شبرد الذي نزل فيه روزفلت وأخذت تهتف ضده فأضطر إلى الرحيل عن البلاد ولما وصل إلى الإسكندرية قابلته الجماهير بالشتائم والسباب.

ومن الغريب أن الجامعة المصرية بالرغم من شعور السخط الذي سببه روزفلت بخطبته قد منحته الدكتوراه الفخرية متحدية بذلك الرأي العام مع أن مركزها لم يكن ليسمح لها بذلك. إذ لم تكن جامعة بالمعنى الصحيح، بل كانت قاعة صغيرة لإلقاء محاضرات في بعض المواد، وعلاوة على ذلك فإن حداثة عهدها لا تخول لها حق هذا المنح.

وقد كانت هذه الحادثة تصرف الرأي العام عن الجامعة والقائمين عليها ووجه إلى رجالها نقد عنيف وطعن شديد؛ كما أن بعض الكتاب حثوا الجمهور على عدم التبرع للجامعة حتى تسحب درجة الدكتوراه الفخرية التي منحها للرئيس روزفلت وكانت أول درجة فخرية منحتها تلك الجامعة الناشئة.

ولم يكتف روزفلت بما ساقه في مصر من مطاعن في أهلها، بل وقف في دار البلدية بلندن وألقى خطبة ملأها بالشتائم والسباب على المصريين. فأنبرى له الكاتب الإنجليزي المرحوم برنارشو وصفعه بمقال عنيف جاء فيه (. . . فلئن كان من واجبنا نحن الإنجليز أن نحكم مصر لمصلحة مصر بدون اخذ رأي أهلها المصريين كما يقول مستر روزفلت لقد كان من واجبنا العظيم أن نحكم أمريكا بنفس نصيحة مستر روزفلت.)

قلنا إن شعور الوطني في مصر في ذلك الوقت كان ينذر بالانفجار عن ثورة ضد الاحتلال والمحتلين. وقد ظهر ذلك واضحا حينما رفض المصريون أجمعون المشروع الذي عرضته شركة قناة السويس لمد أجل امتيازها.

وهذه الفترة من تاريخ مصر حافلة بقصائد الشعر السياسي الذي كانت تغذيه عاطفة ملتهبة وشعور متدفق

محمد سيد كيلاني