مجلة الرسالة/العدد 91/حول الأوزاعي

مجلة الرسالة/العدد 91/حول الأوزاعي

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 04 - 1935



للأستاذ أمين الخولي

المدرس بكلية الآداب وكلية أصول الدين

الأوزاعي الكاتب: تفسير النصوص التاريخية والاستنباط منها

اتفق وأنا قريب عهد بكتاب (أحسن المساعي، في مناقب الأمام أبي عمرو الأوزاعي) الذي نشره ونقحه وعلق عليه، وقدم له، الأستاذ الكبير الأمير شكيب أرسلان؛ أن وصلني العدد 89 من الرسالة الصادر في 18 مارس سنة 1935، وفيه مقال عن الأوزاعي لحضرة الأديب عبد القادر علي الجاعوني؛ فلما قرأته تبدت لي نواح من القول عن الأمام الأوزاعي؛ وعن مقال الرسالة فيه، وأحببت أن أحدث بها قراء الرسالة؛ لكنما أحب قبل الخوض في شيء من ذلك أن أرسل وراء البحار، على صفحات الرسالة الغراء، تحية وإجلالاً للأمير العربي الكبير الأمير شكيب أرسلان لصدق غيرته، وجليل خدمته للعروبة وأهلها علمياً وأدبياً واجتماعيا: تحية تقدير لحقه على الشرق والعرب؛ وإجلال لذكريات كريمة للأديب العالم الأمير، على تمادي الأيام، ونأي الديار

الاوزاعي الكاتب

اشتهر عند القدماء والمحدثين، أن الأوزاعي إمام فقيه مجتهد، صاحب مذهب، أو ما يتصل بذلك وينتهي إليه، فحسب، ولم يعرفه الأدباء ومؤرخو الآداب، من أصحاب الأقلام والناثرين المقتدى بهم في القرن الثاني الهجري، من جيل عبد الحميد الكاتب أو يكاد؛ لكن هناك ناحية أدبية، في الأوزاعي، له فيها تفوق خطير، وآثار ذائعة، ومشاركة فعلية في حياة النثر العربي الأولى، وتاريخ الرسائل؛ إذ يذكر مترجموه أنه كان بارعاً في الكتابة والترسل؛ وأنه كانت صنعته الكتابة والترسل فرسائله تؤثر وينقلون أنه كان من ذلك موضع الإعجاب والإكبار، إذ يروون أن كتبه كانت ترد على المنصور فينظر فيها، ويتأملها، ويتعجب من فصاحتها وحلاوة عبارتها؛ بل كان في موضع الاحتذاء والتقليد، بل كان يقتبس رءوس الكتابة من قوله، ويأخذون عنه، ويتهيبون الإجابة عن رسائله؛ إذ يقول المنصور يوماً لأحظى كتابه عنده، وهو سليمان بن مخلد: ينبغي أن تجيب الأوزاعي عن كتبه، فيقول: والله يا أمير المؤمنين لا يقدر أحد من أهل الأرض على ذلك وقال: لا على مثل كلامه ولا على شيء منه؛ وإنا لنستعين بكلامه نكاتب به إلى الآفاق، إلى من لا يعرف أنه كلام الأوزاعي. لكن فقه الشيخ طغى على أدبه، وأخمل ذكره فيه؛ حتى يقول الذهبي في طبقات الحفاظ بعد أن روى عن أبي زرعة الدمشقي أن الأوزاعي كانت صنعته الكتابة والترسل فرسائله تؤثر: قلت: هذا ناقلة سوى الفقه؛ وهكذا غلب الفقه الأدب على الرجل، كما غلبه على الشافعي من بعده؛ وكما لا تزال تهيئ تلك الغلبة ظروف الحياة، فتمضي بأدباء متفوقين إلى غير حرفة الأدب. لكنا لا ننصف حين نؤرخ الأدب فنتابع القدماء على اعتبار أدب الأوزاعي نافلة؛ ولا ننصف إذا أعطينا هذا العهد المبكر بنثره لعبد الحميد وابن المقفع وحدهما؛ ولا نتحرى درس الأوزاعي الأديب الناثر الممتاز إذ ذاك، ولا نعني بجمع آثاره في هذا، ولاسيما بعد ما نسمع قول المؤرخين أنهم عرفوا له كلاماً ومواعظ ورسائل كثيرة. فلعل الأدباء يعنون بجمع هذه الآثار وتتبعها؛ ولعل المؤرخين يعنون بدراسة أثر الرجل ومنزلته بين الأدباء الناثرين في هذا العصر. وفي سبيل هذا التعاون أشير إلى مواضع ذلك في الكتاب المنشور عنه؛ ففي الصفحات - 84، 120، 121، 136، كتب للأوزاعي. وفي - 87، 124، 137، مواعظ له؛ وفي - 138 وما بعدها كلمات له وحكم، ولعل الزمن يسعفني على المشاركة في شيء من ذلك الدرس

2 - تفسير النصوص التاريخية والاستنباط منها

تاريخنا الفني والعلمي والاجتماعي لم يكتب بعد، إذ اتجهت عناية القدماء إلى التاريخ السياسي واستيفائه؛ فلم يتركوا إلا أصولا متفرقة عن التاريخ غير السياسي، وإن النهضة لتتقاضانا هذا الحق، سداً لذلك النقص البادي، ونحن في هذا العصر نحاوله في النواحي المختلفة، وننتفع بما كتبة المستشرقون فيه، ولكن المادة الحقيقية إنما هي تلك المتفرقات القديمة التي كتبها أهل ذلك الشأن، عن قرب ومباشرة، وبادراك صحيح لروح ما يؤرخون وحقيقته. وفي الرجوع إلى هذه المتفرقات نحتاج إلى تفسير النصوص التاريخية بعد فهمها على وجهها فهما صحيحا لنستنبط منها أحكامنا على العصور والرجال والأعمال؛ والمتصدون لهذه الدراسة التاريخية الفنية أو العلمية أو الاجتماعية، يجرون من ذلك على أسلوب أشعر أنه لا يزال يحتاج إلى غير قليل من الدقة؛ وإن أحكامهم معه لا تسلم من الدخل والوهن؛ وليس هذا موضع الإفاضة والبيان المسهب في ذلك، فانه مما يستحق القول المفرد في غير هذه الفرصة؛ وإنما أحببت في هذا المقام أن أشير إلى ما يقع كثيراً في تفسير هذه النصوص، من عدم الرجوع إلى مواضعات القدماء أنفسهم في الشؤون الخلقية والعلمية والعملية مما تشرحه كتبهم؛ والاعتماد في الفهم على ظواهر العبارات، أو القياس على مواضعاتنا وعوائدنا دون تقدير لما هناك من اختلاف قد يكون كبيراً، وكذلك عدم التنبه إلى نواميس الحياة النفسية الإنسانية التي يجب توفر الخبرة بها قبل التصدي لتفسير أعمال الأشخاص وأقوالهم أو الأقوال عنهم، ثم وجوب رعاية السنن الاجتماعية وتأثيرها وتأثرها قبل الحكم على الحوادث أو الرجال وتعليل الأعمال وبيان آثارها؛ فكل أولئك وكثير غيره مما يجب أن يقوم عليه فهم النص التاريخي، وتفسيره بله الاستنباط منه؛ وليست تلك المهمة من الهوان بما يتراءى لبعض محاولي تلك الدراسة، وأستميح الأديب الجاعوني عذرا في أن أشير إلى بعض تفسيرات تاريخية وردت في مقالته، تمثيلا لهذه الدقة وما تجب مراعاته في هذه المهمة. فهو مثلا يقول، حين عد شيوخ الأوزاعي وتلامذته: (وروى عنه جماعة من الذين سمعهم كقتادة والزهري وغيرهم) (ص 419 رسالة) وعلق على ذلك في الهامش رقم 7 بقوله: (يظهر أن قتادة والزهري كانا معاصرين للأوزاعي، فسمع عنهم وبذلك نعدهم أساتذته، ومن ثم رووا عنه، ولذلك يصح لنا تجاوزاً أن نعدهم من تلاميذه)

وتنظر أولا إلى قوله إن قتادة والزهري كانا معاصرين للأوزاعي فلا ترى ذلك صواباً على هذا الإطلاق؛ فهؤلاء من التابعين، وليس الأوزاعي منهم - وإن ادعي بعضهم له ذلك - ثم هم على كل حال جيل آخر، بين وفاة الأوزاعي ووفاة آخرهم نيف وثلاثون عاماً - قتادة توفي سنة 117، والزهري سنة 123، والأوزاعي توفي سنة 157 - وتدع هذا فترى تفسير الكاتب لأخذه عنهم وأخذهم عنه واعتبارهم تجوزا تلاميذه، تراه قلقاً مظطربا. وكانت تدفعه ملاحظة عادة القوم في هذا النوع من الروية الذي كانوا يسمونه رواية الأكابر عن الأصاغر، ويفردونه بالبيان الخاص في أصول الروية؛ وكانوا يرمون فيه إلى اعتبار خلقي نبيل من تقدير العلم وأخذه حيث كان، وحطم الكبرياء المغرورة للأستاذية، ليظل المروى عنه أبدا طالب علم، ومرتاد حقيقة يأخذها حتى عن تلميذه، وهذا التفسير نفسه منصوص في كتاب أحسن المساعي الذي أرجح كثيرا أن الكاتب قد رجع إليه، إذ ورد في ص 52 - 53 منه ما نصه (. . . وحدث عنه جماعات من سادات المسلمين، كمالك بن أنس، والثوري، والزهري، وهو من شيوخه، وهذا من رواية الأكابر عن الأصاغر فان الزهري من التابعين، وليس الأوزاعي من التابعين) ثم إن الكاتب صاحب المقال عن الأوزاعي يتعرض لقول جولدزيهر بتأثر الفقه الإسلامي بالفقه الروماني، ويرى أن الأوزاعي أحرى بأن يكون آخر المتأثرين؛ ص 420 (رسالة)؛ ويحتاج لهذا الاستنباط (بأنه من أبعد الفقهاء عن الرأي، ومن أقربهم إلى اتباع الكتاب والسنة. . . والكتاب والسنة أبعد الأشياء عن التأثر بالفقه الروماني). ومع عدم تعصبي للقول بهذا التأثر، ومع القصد في بيانه، فإني أرى هذا الاستدلال على عدم تأثر الأوزاعي غير مقبول من الوجهة الاجتماعية والنفسية، فان متبع الكتاب والسنة لا بد له من أن يفهمهما، ويتبين مراميهما، وأغراضهما، وعللهما وحكمهما، ولكل شخص في هذا الفهم والتبين عقله الخاص، وشخصيته الخاصة، ومنهجه الخاص، وذلك كله من أشد ما يكون تأثراً بالثقافة والبيئة، فلا غرابة في أن يتأثر فهم الفاهم للكتاب والسنة المتبع لهما، تأثراً جلياً بعوامل تثقيفه، وظروف حياته، كما تأثر بذلك تفسير القرآن في كل الأزمنة، بل كما تأثر بذلك فهم العقائد وأصول الدين ذاتها تأثراً لا يسعنا إنكاره؛ ولا قيمة لحرصنا على هذا الإنكار، لأننا بذلك نقاوم سنن الله في خلقه

تلك مثل صغيرة لما تجب مراعاته في تفسير النصوص وفهمها والاستنباط منها، حتى نوفق لكتابة تاريخنا غير السياسي، بل السياسي كذلك كتابة علمية صحيحة، تنير ماضينا وتمد مستقبلنا بكل قوة وحقيقة

أمين الحولي