مجلة الرسالة/العدد 91/قصة المكروب

مجلة الرسالة/العدد 91/قصة المكروب

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 04 - 1935



كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور أحمد زكي

وكيل كلية العلوم

اسبلنزاني

صلة حديثه

(القس الماكر الذي مالق الكنيسة والسلطات وهو يحتقرها جميعا لكي يعيش ولكي يعمل في سكون؛ الذي ناضل نضال الجند بغير أهبة الجند وعدة الجند؛ الذي أثبت من مرق اللحم أن المكروبات ككل الأحياء لا بد لها من آباء؛ الذي أهدى للعلم مثانته الوبيئة، ذلك الأثر الوحيد الذي بقي للناس إلى اليوم من هذا الرجل الكبير الخالد)

وجرت مكاتبات كثيرة بين اسبلنزانى وبين الكثير من بحاث أوروبا وشكاكيها. وجرت صداقة بالبريد بينه وبين فلتير ذلك الماكر الخبيث، وشكا له في كتبه أن إيطاليا ليس بها إلاأفذاذ قليلون من الرجال ذوي العقول الراجحة، وشكا له الطقس والرطوبة والضباب. ودار الزمن فإذا اسبلنزانى يتزعم تلك العصابة الرعناء من الفلاسفة والعلماء الذين طلبوا الحق صادقين وأرادوا للناس السعادة والعدل مخلصين، فإذا بهم يمهدون غير قاصدين لفتن هوجاء، تلطخ بها وجه الأرض بأغزر الدماء

واعتقد هؤلاء العلماء أن اسبلنزانى قضى كل القضاء على تلك الفرية التي افتراها الخصماء حيث قالوا إن الحياة قد تنبعث من لا شيء، وأخذ هؤلاء العلماء، وفي طليعتهم (فلتير)، يقهقهون بالنكات النادرة، ويتندرون بالفكاهات المستملحة، على القوة النباتية وعلى (بيفون) الفخم الطنان، وعلى صبي معمله الأدب (نيدم)

وبينا هم على هذا، صاح نيدم: (ولكن هذه القوة النباتية موجودة يا قوم. إنها شيء مستسر خفي. حقاً إنها لا ترى ولا توزن، ولكن بسببها تخرج الحياة من مرق اللحم ونقيع الحب، وقد تخرج بواسطتها من لا شيء. من الجائز أنها احتملت ذلك التحميص الشديد الذي أولاها إياه اسبلنزانى. إنها قوة أكثر ما تحتاج إليه مرونة الهواء، وقد أغلى اسبلنزانى قبابته ساعة فأفسد مرونة الهواء بداخلها، ففسدت القوة النباتية فلم تتكون الأحياء)

سمع الطلياني بهذا فقام تواً للصراع. ونادى نيدم: (هل من تجارب تثبت بها أن الهواء إذا سخن قلت مرونته؟). وانتظر التجارب فلم يجب نيدم بغير ألفاظ. فصاح به الطلياني: (إذن فأنا آتيك بالتجارب). ورجع إلى معمله مرة أخرى فوضع البذر في القوارير، وصفها وأغلاها ساعة. وفي ذات صباح ذهب إليها يقصف رقابها. قصف الأولى وأرهف سمعه فسمع لها صفيراً. (ما هذا؟). واختطف الثانية فأدناها من أذنه وكسرها فسمع لها صفيراً. (هذا هو الصفير يعود! ومعنى هذا أن الهواء يدخل إلى القارورة أو أنه يخرج منها). وأشعل شمعة وأدناها من فم قارورة أخرى وفض قاها فإذا اللهب ينعطف نحوها. فصاح: (معنى هذا أن الهواء يدخل القارورة، ومعنى هذا أن الهواء بالقارورة أقل مرونة من الهواء خارجها، ومعنى هذا أن نيدم قد يكون على حق!)

وعندئذ أحس اسبلنزانى بجيشان في معدته، وأحس بالعرق يتصبب من جبينه، والأرض تدور به. . . أيجوز أن يكون هذا الأبله نيدم قد خبطها خبطةً عشواء فأصابت؟ أيكون قد تظنن فيما تحدث الحرارة في الهواء المخزون بداخل الزجاج المختوم فوقع على الحقيقة وهو لا يدريها؟ أيكون قد قدر لهذا الفيهق الثرثار اللغاط الهراء أن يفسد عليه الجهد الكبير الذي أنفقه في استنباط الحقائق في حرص وحذر كل هذه السنوات الطويلة؟ وقضى اسبلنزانى أياماً وهو سقيم المزاج، مشتت الفكر، ضيق الصدر، واشتد لتلاميذه واخشوشن من بعد رفق ولين. وأراد أن يروح عن نفسه فأخذ ينشد شعر (دانتى) و (هوميروس)، فلم يزده الإنشاد إلا ضيقاً. واستيقظ في نفسه شيطان أخذ يوسوس له: (قم وادرس لم يدخل الهواء داخل القبابة كلما كسرت ختمها، فلعل هذا لا صلة له بمرونة الهواء). وصاحبه هذا الوسواس الخناس وألح عليه حتى استيقظ ذات ليلة على صوته مخبولاً مرتبكاً. . . . وفي برهة كلمحة البصر وقع على تفسير للمعضل الذي هو فيه، فجرى إلى معمله، وكان نضده قد تغطى بقوارير مكسورة وزجاجات مهجورة تبعثرت جميعها عليه فكانت شواهد على ما كان فيه رجلنا من ترك ويأس. ومد يده إلى قمطر فأخرج منه قبابه. لقد كان ضل الطريق واليوم اهتدى اليه، وعما قريب يثبت أن نيدم مخطئ ضال. وتمطى يملأ رئتيه وسمعهما، ثم زفر زفرة طويلة أبدلته من ضيق سعة ومن أزمة فرجا. ومع أنه لم يكن أثبت أن ما بدا له هو التفسير الحق لصفير الهواء، إلا أنه وثق بالذي ارتآه وثوقاً آثر معه أن يستعجل الغبطة والسرور. ونظر إلى القبابات وابتسم وقال: (كل القبابات التي استخدمتها فيما سبق كانت لها رقبة واسعة استلزمت حرارة كثيرة وتسخيناً طويلاً لتسيح ويتم ختمها. وهذه الحرارة الكثيرة تطرد الهواء من القبابة قبل لحامها، فلا عجب إذن أن يندفع الهواء فيها إذا فض اللحام)

وارتأى أن ما قاله نيدم عن إغلاء القبابات الملحومة في الماء وإفساده مرونة ما بداخلها من الهواء كلام هراء. ولكن أنى له بإثبات ذلك؟ أنى له بختم القبابة دون أن يطرد هواءها؟ وجاء شيطانه يوسوس إليه، فأخذ قبابة أخرى فوضع بها بذراً وملأ بعضها بالماء، وأدار رقبتها في اللهب الشديد حتى ساحت وضاقت حتى كادت تلتحم إلا ثقباً صغيراً ضيقاً يصل بينها وبين هواء الجو.

عندئذ برد القبابة؛ حتى إذا تمت برودتها قال: (إن الهواء بداخلها لا بد أن يكون مثله بخارجها. ثم جاء بلهب صغير سلطه على الثقب الباقي وهو كعين الإبرة فسده في لمحة دون أن ينطرد من هواء القبابة شيء. فلما اطمأن إلى ذلك وضع القبابة في الغلاية وأخذ يرقبها ساعة، وبينا هي تتأرجح وترقص في الماء كان هو ينشد الشعر ويترنم بالغناء. ثم نحاها أياماً، وفي ذات صباح جاء ليفتحها وهو واثق مما سيكون، فأشعل شمعة وأدناها من فم القبابة، وفي حذر شديد كسر فاها فسمع صفيراً، إلا أن لهب الشمع لم ينجذب إلى القبابة في هذه المرة بل مال عنها، دليلاً على أن مرونة الهواء داخلها أكثر من مرونته خارجها!

فكل هذا الغلي لم يفسد مرونة الهواء، بل على النقيض قد زاد مرونة، تلك المرونة التي قال نيدم بضرورتها لتلك القوة النباتية العجيبة. وأخرج اسبلنزانى من المرق القطرة فالقطرة، وعبثا حاول أن يجد فيها من الأحياء شيئاً برغم ازدياد مرونة الهواء. وأعاد التجربة فالتجربة بتلك المثابرة التي عرفناها عن (لوفن هوك)، وكسر قبابات وكب المرق على صدر قميصه ووسخ يديه، ولكنه لم يخرج على غير تلك النتيجة التي سلفت

- 5 - انتصر اسبلنزانى فصاح بتجاربه ليسمع أوروبا، فتردد

صداه شرقاً وغرباً، وسمعه نيدم وبيفون فجلسا على أنقاض نظريتهما البالية ينعيان أطلالها في كآبة ظاهرة وحزن باد.

وما كان لهما مندوحة من هذا، وقد أفسدها عليهما هذا

الطلياني بحقيقة واضحة بسيطة. فلما اطمأن على الذي كان،

جلس يكتب. وبمقدار براعته في المعمل كان بارعاً في

المكتب، وعلى حسن جلاده بالقباب والعدس، كان يحسن

الجلاد بالقرطاس والقلم، على شريطة أن يكون قد اطمأن إلى

أن حقائقه العلمية قد سبقت فغلبت في الصراع خصيمه، وهذا

ما كان، فهو في هذا الوقت كان قد اطمأن إلى انصراع نيدم،

وإلى ضياع نظريته الفكهة التي تنشئ الشيء من لا شيء.

وكان اطمأن إلى أن الحيوانات جميعاً - حتى تلك الحيوانات

الصغيرة - لا تأتي إلا من حيوانات مثلها عاشت من قبلها،

وإلى أن هذه المكروبات الصغيرة تظل طيلة حياتها مكروبات

من النوع الذي كانته آباؤها، فإذا هي أنتجت كان نتاجها من

جنسها؛ كذلك الحمار في حياته لا يستحيل جملاً، وهو لا يأتي

إلا عن حمار، فإذا ولد فإنما يلد حماراً

وصاح اسبلنزانى يقول: (واختصاراً قد ثبت أن نيدم مخطئ، وقد أثبت فوق هذا أن في علم الأحياء نظاماً وقانوناً، كما أن في علم الأفلاك قانون ونظاماً) ثم أخذ يصف ما تكون حال هذا العلم لو أن نيدم لم يجد من يراقبه ويحاسبه، إذن لعشنا في اختبال وارتياع من نزق هذه (القوة النباتية) المتقلبة الهوجاء تلك القوة التي إن هي شاءت أخرجت من الشيء ضفدعة، وإن هي شاءت أخرجت منه كلباً؛ أو هي تخرج منه اليوم فيلاً، وغداً عنكبوتاً؛ أو تخرج منه في الصباح حوتاً سابحاً، وفي الظهر بقرة حلوباً، وفي المساء إنساناً ناطقاً

قضى على نيدم، وقضى على قوته النباتية، وأصبح الإنسان يستمرئ العيش، ويستنشق الهواء في أمان وسلام، فلا تروعه تلك القوة الرهيبة اللعينة التي كان يتخيلها مخبوءة في هذا الركن ووراء ذلك الحائط تنتهز الفرصة لتحيله فيلاً أو تخلق منه غولاً وسرى اسماسبلنزانى في جامعات أوروبا يسطع كالماس، ويتألق كالنجم. وأيقنت جماعاتها العلمية بأنه عالم العصر الأوحد وكتبإليه فريدريك الأكبر طويلة، وبيمينه أمضى براءه تعيينه عضواً في أكاديمية برلين. وماريا تريزا النمسا وعدوة فريدريك اللدودة، نافست هذا الملك العظيم في تكريم هذا العالم الكبير، فنفسته، وذلك أنها عرضت عليه أن يكون أستاذاً في جامعة بافيا العتيقة بلمباردي إليه رسلها من عظام مستشاريها فجاءوه في حفل ضخم، وموكب فخم، مثقلين بكتب ملكية، وأختام امبراطورية، يتوسلون إليه في قبول المنصب عسى أن تجد جامعتهم فيه منقذها من السوء الذي هي فيه، ورافعها من الدرك الذي هبطت إليه. وجرت بينه وبينهم مناقشات، وجرت مباحثات ومساومات، في الأجر الذي يتقاضاه اسبلنزانى، فقد كان دائماً يحسن جمع المال كلما أمكنته الفرصة. وانتهت تلك الأحاديث بقبوله أستاذية التاريخ الطبيعي بالجامعة، وبتنصيبه أميناً لمتحف التاريخ الطبيعي في بافيا كذلك وذهب إلى متحف بافيا فوجده خاوياً خالياً. فشمر عن ساعده، وأخذ يحاضر في كل ما هب ودب، ويلقى دروساً في الجمهور يضمنها تجارب كبيرة هائلة يجريها على سمعهم وأبصارهم فهالت الناس وراعتهم، لأن النجاح كان يأتيها دائماً من حذق يديه، وأراد أن يملأ متحفه الخالي فأرسل إلى هنا وإلى هناك في طلب مجموعات من حيوانات عجيبة ونباتات غريبة وطيور لا يعرفها القوم. وذهب هو بنفسه إلى الجبال فتسلقها على خطورة مرتقاها، ورجع منها بركائز كثيرة وخامات غالية. وذهب إلى البحار يصطاد قروشها المفترسة، وإلى الغاب يقتنص من ذوات الريش كل ذات لون بهيج. ذهب كل مذهب ليس من اليسير تحقيقه، وضرب كل مضرب ليس من الهين تصديقه، وكل هذا في سبيل الجمع لمتحفه، وفي سبيل التخفف من ذلك النشاط الجم وتلك الطاقة الصخابة التي امتلأ بها جلده فخرجت به عما وسم العرف به العلماء من طمأنينة وهدوء

وفي الفترات التي تخللت هذا التجميع هذا التدريس، كان ينفلت إلى معمله بأمراقه ومجاهره فيغلقه على نفسه، ويجري فيه التجارب الطويلة ليزيد في إثبات أن الأحياء الصغيرة تنصاع لقوانين الطبيعة انصياع الخيل والفيلة والرجال لها. ووضع قطرات من أحسيته وهي تموج بالمكروب على قطع من الزجاج المنبسط، ونفخ فيها من دخان تبغه، ثم أسرع فنظر إليها بعدسته، ثم ضحك ملء فيه عندما رآها تتهارب لتتقى أثر دخانه، وأطلق عليها شرراً كهربائياً، وعجب لما رآها تطيش وتميد، ثم تتمطى وتموت سريعاً

قال اسبلنزانى: (إن بذور هذه الأخبار الدقيقة أو بيضها قد يختلف عن بيض الدجاج أو بيض الضفدع أو بيض السمك، وهذه الأحياء نفسها قد تصمد للماء الغالي في قباباتي المختومة، ولكن عدا هذا فهي يقيناً لا تختلف عن سائر الحيوانات). ولم يكد أن ينطق بهذا اليقين حتى عاد يسترد ما انفلت به من أنفاسه

فذات يوم وقد انفرد في معمله قال لنفسه: (كل حيوان على ظهر هذه الأرض لا بد له من الهواء ليحيا، وإذن فلأتبين حيوانية هذه الأحياء الصغيرة فأضعها في فراغ خلو من الهواء وأرقبها وهي تموت). وببراعة بينة مط بالنار من أنبوب الزجاج السميك أنبوباً شعرياً رفيعاً كما كان يصنع (لوفن هوك) وغمس أنبوبة منها في مرق يعج بتلك الأحياء، فصعد فيها منه شيء. وأساح أحد طرفيها في النار فسده، ووصل الطرف الآخر المفتوح بمضخة قوية لتفريغ الهواء، وشغلها، ولصق عدسته بجدار أنبوبة الزجاج الرفيع، وأخذ يصوب بصره إلى تلك الأذرع الدقيقة التي منحها الله لتلك الأحياء لتجدف بها في الماء، وضل يرقب من ساعة لأخرى عله يجد في حركتها المنتظمة الهادئة ميدانا وطيشانا، وأخذ يتربص الفناء بتلك الأحياء، ولكن المضخة ظلت في دورانها، وظلت الأحياء في جريانها وروغانها متناسية صاحبنا العالم ومضخته البديعة، متجاهلة هذا الهواء الذي يقول بلزومه لحياة الأحياء. وعاشت أياماً. وعاشت أسابيع. وأعاد اسبلنزانى تجربته المرة بعد المرة. هذا غريب!. هذا محال. لا يعيش حي بلا هواء، كيف تتنفس هذه الأحياء. وكتب إلى صديقه (بونيت) مستغرباً: -

(إن طبيعة هذه الحيوانات مدهشة. فإنها تعيش في الفراغ مثل عيشها في الهواء، وتنشط في هذا نشاطها في ذلك، فهي تعلو في السائل ثم تهبط، وهي تظل تتكاثر فيه أياماً. ألا ترى في هذا عجباً! ألم نقل دائماً أنه ما من حي يستطيع العيش من دون هذا الهواء)

كان اسبلنزانى معجباً بقوة خياله، معجباً بسرعة خاطره، وزاد إعجاباً بنفسه، وزاده غروراً إعجاب طلبته، وملق الأوانس والغواني، وإطراء الأساتذة العلماء، وتقريب الملوك الفاتحين. ولكنه كان إلى جانب خياله يتعشق التجربة، بل هو يقضى حقوق التجربة أولاً ثم يخال بعد ذلك، فان هي عارضت خاطرة بديعة من خياله الخصيب فسرعان ما كان يقر بالحق، وينزع عن خواطره مهما بلغت من الإبداع

وفي هذه الأثناء كان هذا الرجل الأمين، الغالي في أمانته في كل ما يتعلق بتجاربه، هذا الرجل الذي كان لا يخط قلمه إلا الحق الذي يجده بين روائحه الكريهة وأبخرته السامة وأدوات معمله اللامعة، هذا العالم الجليل الأمين، نعم أعيد فأقول الأمين، كان يتدنى إلى الحيلة الخسيسة ليزيد مرتبه في جامعة بافيا. هذا الرجل الشديد، لاعب الكرة، الكشاف، متسلق الجبال، يأتي إلى عاصمة النمسا متخاذلاً متواعكاً متأوهاًمتوجعاً، يشكو إلى رجال الحكم فيها سوء صحته، ويقول إن ضباب بافيا وأبخرتها تكاد تقتله. وأراد الإمبراطور أن يستبقيه فزاد أجره وضاعف إجازاته. وتحدث اسبلنزانى عن هذه الواقعة فضحك وسماها في خبث مداورة سياسية. هذا الرجل كان يصل إلى الغابة التي يريد فلا يقف شيء في سبيله. يريد الحقيقة فينالها بالتجربة البارعة والملاحظة القريبة والصبر المضني، ويريد المال والترقي فيناله بالعمل الشاق وأحياناً بالحيلة والكذب، ويريد أن يتقى ظلم الكنيسة واستبدادها فينال ذلك بدخوله قسيساً فيها

ولما كبر وطالت به السنون تشهى إلى تجارب غير تجارب معلمه، تجارب صخابة عنيفة يطلق فيها القياد لنفسه وحسه، فاعتزم أن يزور موقع طروادة القديمة لأن قصتها كانت تهزه هزاً؛ واعتزم أن يزور الشرق بحريمه وأرقائه وخصيانه، فقد كان يعتبر هذه الأمور جميعاً جزءاً من التاريخ الطبيعي كوطاويطه وضفادعه والحيوانات الصغيرة التي بنقيع بذوره. وشغل الشفاعات، وأعمل المحسوبية، واتصل ورجا، حتى أعطاه الإمبراطور إجازة عام، وأعطاه نفقة السفر إلى القسطنطينية، كل ذلك لاستعادة صحته واسترداد عافيته، وعلم الله ما كان أحسن صحته وأتم عافيته وقام اسبلنزانى فاختزن فباباته، وأغلق معمله، وودع تلاميذه وداعاً حاراً استطاع أن يذري فيه ما تيسر من الدمع. وركب البحر الأبيض فاعتوره دواره وآذاه إيذاء شديداً، وارتطمت سفينته بالصخر وتحطمت، ولكنه استطاع أن ينجو وأن ينجى ما كان قد جمعه من بعض جزائر البحر، وجاء السلطان فأولم له وسقاه وأكرم وفادته، وأذن له أطباء السراي في دراسة عادات السراري الجميلة. . . . . . وبعد كل هذا قال للأتراك، وهو الرجل الأوربي الطيب - رجل القرن الثامن عشر - قال لهم إنه يعجب بكرمهم، ويعجب بعماراتهم، وما تضمنته من الفن الجميل، ولكنه يمقت استرقاقهم للجواري والعبيد، ويمقت استسلامهم للأقدار والأقسام. فكنت تخاله يقول لصديقه الشرقي، والشرقي رجل جامد، تقول حوله الدنيا وهو قاعد، وتجري عليه الأيام وهو مركوم، وتنبو عنه الحوادث وهو ملموم، كنت تخاله يقول له: (نحن الغربيين سنفتح بعلمنا الجديد هذا من الأمور مالا يفتح، ونجتاز به مالا يرجى اجتيازه، وسنمحو عن الإنسان وبني الإنسان هذا العذاب الأبدي والشقاء السرمدي الذي يئست الدهور من محوه). كان اسبلتزانى يؤمن بالله، ويؤمن بقدرته وجبروته، ولكنه كان بحاثا نقاباً طلاباً للحقائق فكانت تغلبه غيرة الباحث وروح المنقب على كل ما يقوله، وتسيطر على كل ما يفكر فيه، حتى ينسى الله، وحتى ليعتذر عنه آنا فيسميه الطبيعة، وآناء أخرى فيسميه المجهول، وحتى دفعته إلى أن ينصب نفسه شبه وكيل أول لله، يفتتح وإياه مجاهل هذه الطبيعة الغامضة ويكشف أسرارها

وبعد أشهر عديدة قضاها في الشرق عاد أدراجه، لا عن طريق البحر هذه المرة، بل عن طريق البلقان، وأنفذت معه الحكومات من الجند أصوبهم رماية، وأولم له أشراف البلغار وأراء الأفلاق. وأخيراً دخل فينا عاصمة الإمبراطورية وذهب إلى الإمبراطور يوسف الثاني، صاحب نعمته وراعيه، ليقضي واجب الشكر ويقدم فرائض الاحترام. وكانت هذه الساعة أفحم ساعات حياته، وأملؤها بالمجد، ذلك المجد الذي يعطيه الملوك والأمراء. وأسكرته خمرة تلك الساعة، وذهب دبيبها إلى رأسه، ومشت سورتها إلى أعماق نفسه، فكنت تسمعه يقول: (ما أحلى تحقيق الأحلام). ولكن. . . .

(يتبع)

أحمد زكي إلى الأستاذ مصطفى صادق الرافعي

-