مجلة الرسالة/العدد 91/رؤيا في السماء

مجلة الرسالة/العدد 91/رؤيا في السماء

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 04 - 1935



بقلم الأديب فليكس فارس

إنك تتناول أدق المباحث الاجتماعية التي شغلت وما زالت تشغل المفكرين في كل عصر وفي كل بلاد، تتناولها وتخوض غمارها معتكفاً على موضع السر في ثقافتك العربية، مستنيراً بأضواء الكتاب الحق وحكمة من اهتدوا قبلك في هذا الشرق النير، فكانت عبادتهم فلسفة، وكانت صلواتهم استغراقاً وتفكيراً كثير من مجددي الإنشاء في هذا الزمان ينحرفون عن ثقافتهم وغرائزهم القومية، فينتحلون مذاهب كتاب الغرب وأساليبهم، أما أنت فمن الفئة القليلة الآخذة بروح الشرق لأحياء الشرق، النافخة في الأحفاد أرواح أجدادهم

قرأت لك في منارة العرب الوهاجة، في (الرسالة)، ما تتحف به العالم العربي من طرائف وبدائع، فأيقنت أنك من الكتاب العالميين الذي يستخدمون آياتهم من الألهام، ويستجلون الحقائق من قلب الحياة الخفاق، وما أقل من ينحنون على أنفسهم في هذه البلاد حين يكتبون! وما أكثر من يستطبعون الرواسم وينقلون مقلدين مشوهين!

بين ما نشرته لك (الرسالة) قطعة (رؤيا في السماء) وقفت عندها مأخوذاً بروعتها، فأردت أن أنقلها إلى اللغة الفرنسية لنشرها في مجلة أدبية في باريس، وقد ترجمتها فجاءت بما أبقيت لها من أسلوبك الفخم دليلاً على استقلال لغة العرب عن كل هذه الأساليب التي ينتحيها أكثر كتابنا مأخوذة عن الأسلوب الغربي، وعلى تفرد بيانها بهذا الإيجاز المعجز وفيه سر سحرها وبهائها

إن في مقالك من الدفاع عن حق الحياة وواجبات الحياة ما يعزز الوحي الذي أنزل على عيسى ومحمد (عليهما السلام) تحت سماء الشرق، فلم ينفذ الغربيون إلى كنهه في مبادئ المسيحية إذ ذهبوا منها في مسألة التبتل مذهباً أتى به الحواري بولس متأثراً بفلسفة الرومان وضائقة أزمنة الاضطهاد، لذلك ترى الأمم الغربية عندما تقف واجفة من تناقص النسل تهب إلى معالجة الأخطار المحدقة بها متوسلة بنظريات الكفاح والتفوق على الأمم المجاورة، فهي ترمي طغمات الأطفال فيالق للجهاد في ساحات الحروب من أجل المال، وكتلاً من لحم تعصرها الآلات عصراً فتتدفق بدمائها رحيقاً تتجرعه المدنية سماً زعافاً

إن الغربيين ليفوتهم أن يحاربوا أعداء الأسرة والنسل بالمبادئ الروحية تتناول ما و هذه الحياة. وما أذكر مما قرأت لكتاب الغرب انهم شعروا بالأبوة كما شعرت بها أنت مخترقة حجاب الموت لتتجلى عند هدفها الأسمى في عالم الخلود

إن الأدب الغربي يقف بالأبوة عند نهاية الشطر الفاني من الحياة، فهو يرى الأرحام تدفع بالأجنة للقبور لا للأبد، لذلك أردت ألا يفوته ما أتيت به في مقالك الرائع من دعوة هي أقوى ما يتوسل به داع إلى حق الله في تناسل عبادة. وقد ترجمت هذا المقال لا مباهاة بروح الشرق العربية التي تهب من كل سطر فيه فحسب، بل لأنشر أيضاً في الغرب ما استوحته عبقريتك الشرقية من مبادئ الهداية الخالدة

إن هذا الحديث الذي أنطقت به أبا خالد وشيخه أبا ربيعة، لخير ما ابتكرته الآداب العالمية في هذا المطلب، وهذه الرؤى التي تقبض على الروح وترفعها قسراً إلى عالم الخفاء لتبسط من الحق أمام المتطلعين إلى ما وراء المادة ما يشعرون به في قرارة نفوسهم وينكرها عليهم عقلهم المنتبه المحلل الغارق في لجج الزائلات من قوة ومال ودول وجنود وحروب

غير أنني قبل أن أعلق على مقالك بما لا أرى بداً من إيراده بالفرنسية، أجدني مضطراً لإيضاح وجيز لا أراك تضن به، فان في ختام مقالك ما يفسح للفكر مجالاً للذهاب مذاهب تختلف اختلافاً بيناً عند النتيجة التي ترمي إليها

قلت: إن أبا ربيعة وقف في آخر حلمه تمر به طغمة الخالدين وتلقى إليه بكلمة (المشئوم) حتى مر غلام هو آخرهم فقال له: (كنا نرفع عملك في أعمال المجاهدين في سبيل الله، ثم ماتت امرأتك وتحزنت على ما فاتك من القيام بحقها، فرفعنا عملك درجة أخرى، ثم أمرنا الليلة أن نضع عملك مع الخالفين الذين فروا وجبنوا)

فهل لك أيها الأستاذ الكبير أن تأتينا بإيضاح عما رآه الحق تخلفاً وجبنا في أبي ربيعة. فهل استحق هذا الشيخ نعته بالمشئوم لأنه، وقد استهوته عظة رفيقه، إلى على نفسه أن (يحول المرأة التي كانت في قلبه إلى صلاة) فأراد قتل تذكارها بالوفاء لله دون الوفاء لها في قبرها. أم كان ذلك لأنه قرر التبتل بعدها فلا يأخذ من بنات حواء من تقوم مقامها

إن من ينظر إلى حديث الشيخين ويأخذ بما ورد في القصة وفي ختامها ليقف مخيراً محتاراً بين السببين، وليس غير الأستاذ الكبير من يزيل هذا الإبهام فيأتي بمقال عن مسألة لها مكانها بين العقد الاجتماعية، فيقول لنا ما إذا كان المثل الأعلى في العلاقة الزوجية محبة الشخصية في الأنوثة أم محبة الأنوثة، في الشخصية

إسكندرية

فليكس فارس

رئيس قسم الترجمة في البلدية