مجلة الرسالة/العدد 91/كيف نبعث الأدب

مجلة الرسالة/العدد 91/كيف نبعث الأدب

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 04 - 1935



وكيف نترواه للأستاذ عبد العزيز البشري

تتمة

أين أدبنا الصريح؟

لقد تعرف أن الأدب الحق لكل أمة هو الذي يشاكل حضارتها، ويكافئ ثقاتها، ويواتيها في جميع أسبابها، ويترجم في صدق ويسر عن عواطفها، وينفض ما يعتلج في الصدور من ألوان الشعور والإحساس. ولقد تعرف أن الأمم كما تختلف في ألوانها وفي ألسنتها وفي أخلاقها وعاداتها وغير أولئك، فإنها تختلف كذلك في شعورها وفي أذواقها ومنازع عواطفها. ومهما تختلف في أفراد الأمة الواحدة هذه العواطف بالقوة والضعف، والرقة والجفاء، وغير ذلك من وجوه الاختلاف، فإنها ترجع إلى اصل واحد، وتندرج تحت جنس واحد، على تعبير أصحاب المنطق، وذلك لأنها أثر من أثار الإرث، والبيئة، والعادة، والتاريخ، وما يتردد عليه النظر من صور الطبيعة، وغير ذلك. كما أن لنوع الثقافة ومبلغ حظ الأمة منها أثره البعيد أو القريب في هذا الباب

ومهما يكن من شيء فان لون العواطف الشائع في كل أمة ليس بالشيء الذي يستعار استعارة، ولا بالذي تتناقله الأمم كما تتناقل العلوم وفنون الصناعات مثلا. وكيف له بهذا وقد رأيت أن أبلغ عناصره مما لا يدرك بالكسب ولا بالاختيار، إن هو إلا حكم الطبيعة وما من حكم الطبيعة مناص!

وأحسب أننا، بعد التسليم بهذا، في غير حاجة إلى أن نبعث الأدلة على أن ما يترجم عن عواطف قوم ويصور من حسهم الباطن قد لا يؤدي هذا لغيرهم، وأن ما يستقيم من البيان لأذواق خلق من الناس لقد ينشز على أذواق معشر آخرين. على أنه قد تشترك العاطفة والذوق كلاهما في معنى من المعاني وحينئذ يصدق البيان

وعلى هذا فانه مهما نسرف في مطالعة أدب الغرب والتروي منه، ومهما نجهد في محاكاته وتقليده، فانه لن يكون لنا أدباً في يوم من الأيام، اللهم إلا أن تنقلب أوضاع الطبيعة، فان الأمم لا تطبع على غرار الآداب، بل إن الآداب لهى التي تطبع على غرار الأمم! لقد نكون في حاجة ولقد تكون هذه الحاجة شديدة جداً إلى مطالعة آداب الغرب وإطالة النظر فيها، واستظهار الكثير من روائعها، ونقل ما يتهيأ نقله إلينا منها في لسان العرب، ولكن ليس معنى هذا أن نتخذها آداباً لنا. فذلك، كما علمت، عبث لا يغني ولا يفيد

والآن نلتمس أدبنا باعتبارنا عرباً أو مستعربين نعيش في مصر، مأخوذين بثقافتها القائمة، وموصولين بتاريخها القديم. إننا نلتمس هذا الأدب الذي يوحي به إلينا تاريخنا العربي من ناحية، وتاريخنا المصري من الناحية الأخرى. هذا الأدب الذي تلهمنا إياه أخلاقنا وعاداتنا وثقافتنا، ويسويه لنفوسنا العيش في وادي النيل. إننا نلتمس هذا الأدب الذي يفيض بما تجيش به عواطفنا، ويصدق في الترجمة عما يعتلج في نفوسنا، ويصور دخائل حسنا أكمل تصوير، ويعبر عنها أدق تعبير. وإن شئنا الكلمة الجامعة قلنا إننا نلتمس الأدب القومي فلا نصيب أثره إلا قليلاً فيما يخرج لنا من آثار الأدباء والمتأدبين!

اللهم إن فينا أدباء جروا من العربية على عرق، وأحرزوا صدراً من بديع صيغها، وتفتحت نفوسهم لمنازع بلاغاتها، واستظهروا الكثير من روائعها فيما نظم متقدمو شعرائها وما أرسل المجلون من كتابها. على أن أكثر هؤلاء، والشعراء منهم على وجه خاص، إذا اجتمع أحدهم لحديث العاطفة لم ينفض ما يحس هو وما يشعر، وإنما تراه يترجم عما كان يجده السلف الأقدمون من مئات السنين، لأنه جعل كل همه إلى المحاكاة والتقليد ليخرج شعره عربياً لا شك فيه، وهؤلاء يتناقص عديدهم على الزمان حتى أشفى فنهم على الزوال

وهناك شباب لم يبلغوا حظاً مذكوراً من العربية، ولعل من بلغ منهم حظاً منها لم يعن ولم يكترث لها، وهؤلاء أقبلوا على أدب الغرب فجعلوا يحاكونه ويترسمون آثاره، فيستحدثون أخيلة لم تتراء لأحلامهم، ويسوون صوراً لم تتمثل لخواطرهم، ويريقون عواطف لم تترقرق في نفوسهم، ويفصدون أحاسيس لم تجش قط في صدورهم. وتراهم يستكرهون هذه الأمشاج من المعاني على نظام ليس فيه من العربية إلا مفردات الألفاظ، يشد بعضها إلى بعض بمثل قيود الحديد برغم تنافرها وتناكرها بحيث لو أطلقت من إسارها لتطايرت إلى الشرق والغرب ما يلوي شيء منها على شيء! فيخرج من هذا ومن هذا كلام لا يستوي للطبع، ولا يستريح إليه الذوق، ولا يخف للتعلق به الخيال! وكيف له بشيء من هذا ولم ينتصح به طبع، ولا رهف له حس، ولا تحركت به عاطفة، ولا انبعث إليه من نفسه خيال! فهو أدب مصنوع مكذوب على كل حال بل إن هناك شباباً لم يحذقوا شيئاً من لغات الغرب، ولم يظهروا فيها على شيء من آداب القوم، ولكن لقد تعاظمتهم صنعة أولئك فراحوا هم الآخرون يشاكلونها ويحذون جاهدين حذوها ليضافوا هم كذلك إلى جمهرة (المجددين)، وما التجديد في شرعة أكثر هؤلاء إلا الإتيان بالغريب الشامس في نظمه وفي صوره وأخيلته ومعانيه! وإذا كان هذا اللون من البيان مما يصح أن ينتسب إلى أي أدب من الآداب، فانه مما لا يصلح لنا على أي حال!

وإن مما يضاعف الإساءة ويزيد في الألم أن يقبل الناشئون من طلبة المدارس على هذا اللغو فيتخذوا منه نماذج يحتذونها إذا شمروا للبيان، ولن يجشمهم التجويد والبراعة فيه جليلاً من جهد ولا مشقة، لأن قسر أي معنى على أي لفظ، وتسوية الخيال في أية صورة، وليس مما يعي جهد المرء ولا مما يعتريه بالمشاق. ومن هنا يشيع ارخص الآداب، أو أنه ينذر بالشيوع في هذه البلاد! ولو قد ترك في مذهبه هذا لطغى أشد الطغيان ما تغني في صده جهود الأعلام من الأدباء وحينئذ يكتب على مصر أن تعيش من غير أدب أو تعيش بهذا الأدب المنكر الشائه الذي لا نسب له مدة طويلة من الزمان!

الأدب القومي

إذن لا مفر لنا من أن نلتمس أدبنا القومي. ولا يكون هذا الأدب إلا عربي الشكل والصورة، مصري الجوهر والموضوع. وإذن فقد حق علينا أن نبعث الأدب العربي القديم، وننثل دواوينه، ونستظهر روائعه، ونتروى منها بالقدر الذي يفسح في ملكاتنا، ويقوم السنتنا، ويطبعنا على صحيح البيان. فإذا أرسلنا الأقلام في موضوع يتصل بالآداب، بوجه خاص. أطلقنا القول في صيغة عربية لا شك فيها، على ألا نطلب بها إلا الترجمة عما يختلج في نفوسنا، ويتصل بإحساسنا، ونصور بها ما نجد مما يلهمه كل ما يحيط بنا، وما يعترينا في مختلف أسبابنا من فكر ومن شعور ومن خيال

ولقد قدمت لك أننا قد نكون في حاجة شديدة جداً إلى مطالعه آداب الغرب وإطالة النظر فيها، واستظهار الكثير من روائعها. ونقل ما يتهيأ نقله إلينا منها في لسان العرب. وهذا أمر لا شك فيه ولا غناء لنا عنه، فان ذلك مما يهذب من ثقافتنا، ويفسح في ملكاتنا، ويرهف من حسنا، ويهدينا إلى كثير من الأغراض التي تشتعبها آداب الغرب في هذا العصر. والواقع أننا تهدينا من آداب الغرب إلى فنون لم يكن لنا بها عهد من قبل، أو أنها مما عالجه سلفنا ولكن لم يكن حظهم منه جليلاً. ومن أظهر هذه الفنون القصص بالمعنى القائم، ومذاهب النقد الحديث!

على أن شيئاً من ذلك الأدب الأجنبي لا يجدي علينا، ولا يؤدي الغرض المقسوم بمطالعته والإصابة منه إلا إذا هذبناه وسوينا من خلقه ولونا من صورته حتى يتسق لطباعنا ويوائم مألوف عاداتنا، ويستقيم لأذواقنا. كما ينبغي أن نجهد الجهد كله في تجليته في نظام من البلاغة العربية محكم التنضيد، فلا نحس فيه شيئاً من نبو ولا نشوز. وبهذا نزيد في ثروة الأدب العربي، ونرفع من شأنه درجات على درجات

وليس هذا الذي نرجوه لأدبنا بدعا في شريعة الآداب سواء في جديد الزمن أو في قديمه. فقد كان الأدباء وما برحوا إلى اليوم يعتمدون الفكرة البديعة، والمعنى السامي، والخيال الطريف المنسجم، ويصيبونه في لغي أجنبية، فلا يزالون به يطامنون منه لأذواقهم، ويروضونه لأساليب لغاهم، حتى يجلوه فيها من غير عسر ولا استكراه. وان تصرف المتقدمين من أقطاب البيان العربي فيما شكوا من ألوان المعاني في اللغات الأجنبية لمن أصدق الدليل على صحة هذا الكلام. وهل رأيت إلى ابن المقفع لو لم يجئك أنه ترجم كتابه (كليلة ودمنة) عن إحدى اللغات الهندية. أفكان يتسرح بك الشك في أنه عربي الأصل والمنجم، عربي الحلية والنسب؟ اللهم إن تسوية المترجم لما ينقل إلى لغته، وطبعه على ما يواتي أحلام معشره، ويسوغ في أذواقهم، وينزع منازع بلاغاتهم، ليس مما يقدح في كفايته، بل إنه لما يرفع من قدره ويغلى من تصرفه. وكيف لا وهذا القرآن الحكيم لقد حدثنا عن عشرات من الأمم، كانوا ينطقون في الأعجمية لغات متفرقة، ونقل إلينا كثيراً من أحاديثهم ومقاولاتهم ومحاوراتهم ومجادلاتهم، فما أداها إلا في أعلى العربية الخالصة، بل في العربية البالغة حد الاعجاز، وهل بعد بلاغة القرآن بلاغة، وهل وراء بيان الكتاب العزيز بيان؟!

وصفوة القول أنه لا يعيب اللغة أو يغض من شأنها أن تصيب من بلاغات غيرها على أن تسيغه وتهضمه وتسويه حتى ينتظم في سلكها، ويتصل بخلقها، ويوسع في مادتها، ويضاعف ثروتها، لا أن يقسر عليها قسراً ويستكره لها استكراهاً، فينكر صورتها ويشوه من خلقها على ما نرى من صنع كثير يعربدون في الأدب العربي باسم (التجديد) في هذه السنين!

كيف نعلم الأدب:

ولا شك في أن الينبوع الأول الذي يرده النشء لينهلوا من فنون العربية ويترووا آدابها ويستشعروا بلاغتها، وينبعثوا لترسمها إذا هم أقبلوا على البيان، هو معاهد التعليم على وجه عام، فإذا هي جدت في مهمها وأخذت من بين يديها من التلاميذ بما ينبغي أن يؤخذوا به من أساليب التعليم والتمرين، كان لنا في هذا الباب كل ما نريد

وإذا كان الأدب كسائر الفنون إنما يبرع المرء فيه بالاستعداد الفطري مع الكلف به وشدة الاقبال عليه وطول التمرين فيه بأكثر مما يحرز بالتعليم والتلقين، فان مما لا يعتريه الريب أن للأستاذ، وخاصة في ابتداء العهد بالطلب، أثراً بعيداً في تعليم أصول الفن وبيان حدوده، وإعلام طريقه بين يدي الطالب، وتهذيبه بطول التعهد، وتوسيع ملكاته بألوان الملاحظة، وإسلاس الإجادة له بفنون التدريب والتمرين. ولعمري لو قد أخذ الأساتيذ تلاميذهم بهذا الأسلوب في تعليم الأدب العربي لأحبوه وكلفوا به وانبعثوا من تلقاء أنفسهم لمراجعته في أوقات فراغهم، وإمتاع النفس بتسريح النظر في بدائعه. وكذلك تصبح مطالعة الأدب رياضة يطلب بها الترفيه والاستجمام إذا لحق الكد، وأجهدت المطاولة في طلب العلم. وسرعان ما تستقيم الطباع، وتدرك الملكات، ويجري صادق البيان في الأعراق مجرى الدماء

أما إذا حصب التلاميذ بالقواعد جافة لا يترقرق فيها ماء البيان صافياً، وقنع الأساتذة بأن يلقوا إليهم قطعاً من الشعر أو النثر ليحفظوها دون أن يوصل بين نفوسهم وبين ما تحوي من ناصح البلاغة، فقد استثقلوا الدرس وكرهوه وبرموا به، وتجرعوه تجرعاً إشفاقاً من العقوبة أو من التخلف إذا كان الامتحان! وإني لأكره أن أقول إن إقبال كثرة التلاميذ على هذا الأدب الرخيص الذي يخرج في العامية حيناً، وفي تلك العربية المنكرة الشائهة أحياناً، وتهافتهم عليه، وافتتانهم به، وأخذ الأقلام بمحاكاته وترسمه، إنما هو أثر من آثار ذلك البرم والاستثقال لدروس العربية وآدابها في معاهدنا المصرية!

والآن فالرأي في قيام أدبنا القومي وفي لغة الكتاب العزيز إلى أساتيذ المدارس، وإلى وزارة المعارف، فلننظر ما هم فاعلون! عثرة ورجاء:

بقيت هنالك مسألة لا يجمل بنا أن نختم هذا المقال دون أن نعرض لها بشيء من البيان: يقولون إن اللغة العربية فقيرة، أو إنها أصبحت فقيرة بحيث لا تستطيع أن تؤدي بعض مطالب الحياة في هذا العصر إلا في شدة عسر وحرج، ولا تستطيع أن تؤدي بعضها أبداً. وهذا كلام، على أنه لا يخلو من الحق، فانه لا يخلو من الإسراف إلى حد بعيد. إذ الواقع أن اللغة العربية غنية سخية بالكثير مما يواتي مطالب العاطفة، ويصور نوازع الشعور أحسن تصوير. فلقد بلغ المتقدمون من شعراء العربية في هذا الباب ما لا أحسب أن قد برعهم فيه كثير من أصحاب البيان في اللغات الأخرى. ولو قد نفض متكلفو الأدب دواوين أولئك الشعراء وفروا ما أجنت من قصائد ومقطوعات لخرج لهم من ذلك ما يبلغهم جليلاً من تصوير مختلف العواطف والتعبير عن خفيات الحس والشعور. وهذا، لو علمت، أجل مطالب الأدب في جميع اللغات. وحبذا لو أكثر الأساتيذ من عرض هذه الأشعار على تلاميذهم، وتقدموا إليهم الفنية بعد الفنية بالحديث في الموضوعات الإنشائية، عن الحس والعاطفة في مختلف الأسباب، واستدركواعليهم ما عسى أن يكون قد أخطأهم في ذلك من ناصح البيان

على أن هناك عقبة أخرى تحتاج إلى جهد في التذليل، وهي أنه في ركود لغة العرب بانقباض حضارتهم، عقد ما لا يكاد يحصره العدد من الاصطلاحات العلمية والفنية، واستحدثت أشياء كثيرة جداً في جميع وسائل الحياة، سواء منها الضروريات والكماليات. ولا شك في أن إصابة هذه الأشياء في لغاتها إفساد للعربية واستهلاك لها. كما أنه لا معنى للالتفات عنها إلا الإعراض عن هذه الحضارة العريضة، بل الإعراض عن أكثر ما نجده وما نعالجه في هذه الحياة. وهذه العقبة تقوم الآن على تذليلها جهود أفاضل الأدباء من جهة، والمجمع الملكي للغة العربية من جهة أخرى، بالغوص عما يدل على ذلك في مجفو العربية سواء بأصل الوضع أو بالطرق الفنية الأخرى

ولقد يكون من المفيد في هذا المقام أن ننبه حضرات رجال هذا المجمع أن الاكتفاء بإثبات ما يتسق لهم من المصطلحات والألفاظ في معجم جامع أو نشرها في كراسات دورية ليس مما يجدي كثيراً في إصابة الغرض المقسوم، فقد ثبت، بحكم التجربة، أن أبلغ الوسائل في شيوع الألفاظ والصيغ المستحدثة أو المبعوثة من جاثم اللغة، وكثرة دورانها على الألسن والأقلام، هي استعمال كبار الشعراء والكتاب لها، وترديدها فيما تجليه الصحف السائرة لهم من الآثار، فحبذا لو سعى إلى هذا أولياء اللغة، وخاصة فيما يتصل، مما يستظهرون، بالفنون والآداب

نسأل الله تعالى أن يهدي الجميع سواء السبيل

عبد العزيز البشري