مجلة الرسالة/العدد 913/كيف أعلن محمد حقوق الإنسان

مجلة الرسالة/العدد 913/كيف أعلن محمد حقوق الإنسان

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 01 - 1951


في شهر ديسمبر من عام 1949، وفي فوره من فورات النفاق الدولي، أعلن الساسة في (هيئة الأمم المتحدة) حقوق الإنسان؛ ثم احتفلوا واحتفل معهم الناس بالذكرى الأولى لهذا الإعلان منذ عشرين يوما، فبشروا بالنعيم المقيم والخير العميم والسلام الدائم. ومن وقبل هؤلاء الساسة (الإنسانيين) أعلن قادة الثورة الفرنسية هذه الحقوق عام 1789 وصاغوها في عشرة مادة جعلوها ديباجة لدستور سنة 1791.

ومن السهل على الذهن الاجتماعي أن يعلل صيحة الثوار الفرنسيين بحقوق الإنسان بعد أن كابدوا ما كابدوا من استعباد النبلاء واستبداد القسس، وان يفسر احتضان هيئة الأمم المتحدة لهذه الحقوق بعد أن رأت الحوت الشيوعي معترضاً في خضم الحياة وقد فغر فاه الهائل المروع ليلتقم الديمقراطية الرأسمالية وما تسيطر عليه من أرزاق الناس وأسواق العالم بالاستعمار أو بالنفوذ. ولكن من الصعب على الذهن المنطقي أن يدرك ما يريده الأوربيون والأمريكيون من لفظ (الإنسان) الذي أعلنوا له هذه الحقوق وظاهروا عليه هذا العطف. اغلب الظن أنهم يريدون بإنسان هذه الحقوق ذلك الإنسان الأبيض المترف الذي تحدر من أصلاب اللانين أو السكسون أو التوتون؛ أما الإنسان الأحمر في أمريكا فهو في رأي أبناء العم سام ضرب مهين من الخلق عليه كل واجب وليس له أي حق؛ ولكن وجوده المعدوم في بلاد الديمقراطيين الأحرار لا يزال في رأي المسلمين أغلظ كذبة في دستور الديمقراطية بواشنطون، وأكبر لعنة على تمثال الحرية بنيويورك! وأما الإنسان الأسمر والأسود في أفريقيا، أو الأخضر والأصفر في آسيا، فهو في نظر الفرنسيين والإنجليز نوع من بهيمة الأنعام، وجنس من المواد الخام، يولد ليسخر، ويروض ليستثمر، وينتج ليستهلك؛ وهو موضوع الخصومة في السلم، ومادة الغنيمة في الحرب؛ ولكن حقه المهضوم بين أمم العلم والدستور لا يزال في نظر السلمون اتهاماً لصحة الثقافة في جامعات فرنسا، وإنكار الحقيقة العدل في برلمان إنجلترا! ومن هذا التفسير المزور لمعنى الإنسان في القديم والحديث اضطرب الأساس وفسد القياس واختلف التقدير؛ فلكل جنس وزنه، ولكل لون قيمته، ولكل دين حسابه. ومدار الوزن والتقويم والحساب على قدرة الإنسان وعجزه، لا على إنسانيته وفضله. فالعلم والغنى والقوة سبيل السيادة، والجهل والفقر والضعف سبيل العبودية. والسيادة حق ليس بازائه واجب، والعبودية واجب ليس بازائه حق.

المسلمون وحدهم هم الذين يفهمون الإنسان بمعناه الصحيح لأنهم اتباع محمد. ومحمد وحده هو الذي أعلن حقوق الإنسان بهذا المعنى لأنه رسول الله. والله وحده هو الذي الهم رسوله هذه الحقوق لأنه أرسله رحمة للعاملين كافة.

أرسله رحمة للذين استضعفوا في الأرضلقلة المال كالمساكين، أو لفقد العشير كالموالي، أو لضعف النصير كالأرقاء، أو لطبيعة الخلقة كالنساء، فكفل الرزق للفقير بالزكاة، وضمن العز للذليل بالعدل، ويسر الحرية للرقيق بالعتق، وأعطى الحق للمرأة بالمساواة.

والمستضعفين الذين رحمهم الله برسالة محمد لم يكونوا من جنس مبين ولا من وطن معين؛ إنما كانوا أمة من أشتات الخلق وأنحاء الأرض اجتمع فيها العربي والفارسي والرومي والتركي والهندي والصيني والبربري والحبشي على شرع واحد هو الإسلام، وتحت تاج واحد هو الخلافة. والإسلام الذي يقول شارعه العظيم (ولقد كرمنا بني أدم) لم يخص بالتكريم لوناً دون لون، ولا طبقة دون طبقة. إنما ربأ ببني أدم جميعاً أن يسجدوا لحجر أو شجر أو حيوان، وأن يخضعوا مكرهين لجبروت كاهن أو سلطان.

كان اليهود يزعمون انهم أبناء الله وأحباؤه وسائر الناس سواء والعدم! وكان الرومان يدعون انهم حكام الأرض وما سواهم خدم! وكان العرب يقولون انهم أهل البيان وماعداهم عجم! وكان الهنود يعتقدون أن الله خلق البراهمة من فمه والراجيوت من عضده والمنبوذين من رجله ولا يستوي الأمر بين راس وكتف وقدم! وكان النظام الاجتماعي كله قائمة على الامتياز بالجنس أو بالدين، وعلى السيادة بالنسب أو بالمال، حتى جاء محمد اليتيم الفقير الأمي بالهدى ودين الحق ليظهر على الدين كله؛ فأعلن المساواة بقول الله عز اسمه: (إنما المؤمنون أخوة) (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، أن أكرمكم عند الله اتقاكم) وأكدها بقوله صلوات الله عليه: (الناس سواسية كأسنان المشط) (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، كلكم لآدم وآدم من تراب).

ثم كان الرقيق والمرأة شيئين من الأشياء لا يملكان ولا يتصرفان، فضيق الإسلام حدود الرق، وجعل كفارة الذنوب على الصدقة والعتق، وسوى بين الرجال والنساء في الحق والواجب.

ثم أعلن حرية العقيدة بقول الله تعالى: (لا إكراه في الدين وقد تبين الرشد من ألغى) (ولو شاء ربك لا من فيالأرضكلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟) واحترام عقائد أهل الكتاب، وضمن لهم حرية العبادة وأمان العيش وعدل القضاء، وأمر الولاة أن يرعوهم ويعطفوا عليهم، وأوصى المسلمون أن يبروهم ويقسط إليهم ثم أعلن الإسلام حرية الفكر والرأي فلم يقبل إيمان المقلد ولا حكم المستبد، وأمر بالنظر في ملكوت السماوات والأرض، ووسع صدره لأهل السياسة حتى تعددت الأحزاب، ولأهل الجدل حتى كثرت الفرق، والرجال الفقه حتى تنوعت المذاهب. وسمح لأهل الذمة وأصحاب النحل أن يدعوا إلى أديانهم ويدفعوا عنها في المدارس والمجالس والبيع، ونهانا ألا نجادلهم إلا بالتي هي أحسن.

ثم احترام الملكية وثبت لها الأصول، ونظم المواريث ورتب عليها التعامل. وهذه هي جماع الحقوق الطبيعية التي كفلها الإسلام للإنسان على اختلاف ألوانه وأوطانه وألسنته. أعلنها محمد بن عبد الله منذ ثلاثة عشر قرناً ونصف قرن، والأمر يومئذ للجهالة، والرأي للضلالة، والحكم للطغيان، فأنقذ بها الإنسانية من إسار المادية والعصبية والأثرة، ثم أكرمها ونعمها وهداها الطريق المستقيم إلى نظام أكمل وعالم أفضل وحياة أسعد. ولكن الإنسانية وا أسفاه أضلت هذا السبيل! أضلها أولئك المنافقون الذين يعلنون لها اليوم هذه الحقوق، وهم يسرون في أنفسهم تأكيد الامتيازات وتأييد الفروق!

أحمد حسن الزيات