مجلة الرسالة/العدد 913/هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين

مجلة الرسالة/العدد 913/هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين

مجلة الرسالة - العدد 913
هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين
ملاحظات: بتاريخ: 01 - 01 - 1951



لصاحب الفضيلة الأستاذ محمود شلتوت

(وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فنفرق

بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون).

يقاسى العالم اليوم ألواناً من الشرور والمفاسد، ويكابد أصنافا من الآلام والمتعب، تقض عليه مضاجع الأمن والاستقرار، وتزلزل كيان الطمأنينة والسعادة في الأفراد والجماعة. وما مثل الناس في هذا الزمان إلا كمثل قوم في سفينة أخذتها الأعاصير من كل جانب، واضطربت في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، يكاد اليم يبتلعها بمن فيها؛ أو كمثل قوم حوصروا بالنار ذات الوقود في بيت مغلق النوافذ وقد تقطعت بهم الأسباب، وجمدوا في أماكنهم شاخصة أبصارهم يشهدون الهام النار لمتاعهم ونفائسهم وأموالهم وأبنائهم وأنفسهم، ثم لا يستطيعون أن يحركوا ساكناً، ولا يلتمسوا طريقاً للخلاص، سوى الصياح والعويل والاستغاثة من الخطر الذي داهمهم وحل بدارهم!!

وليس لهذه النكبة فيما يرى عقلاء العالم من سر سوى انسياق الناس في حياتهم مع نظم وضعها الإنسان وأملتها عليه الشهوات والنزعات، لم تبن على مصالح البشر ولم يلاحظ فيها مقتضى الطبيعة الإنسانية التي تفترض المساواة في الحقوق والواجبات، فجاءت مختلفة باختلاف بواعثها، مضطربة باضطراب ألوانها وغاياتها، متنازعة بالعصبية لها، والتناحر عليها، كل أمة تعمل جاهدة على أن يسود نظامها، وتعلو كلمتها، ويستقر في العالم سلطانها، وتصبح ذات السيادة المطلقة، والكلمة النافذة، فمن نازية إلى فاشية إلى شيوعية إلى رأسمالية إلى ديمقراطية، إلى اشتراكية، إلى غير ذلك من ألوان ما أنزل الله بها من سلطان.

فمن الطبيعي وهذا شأنها وشأن واضعيها والمتعصبين لها ان تقضى بالعالم إلى هذا الشر المتفاقم، وأن توقد نيران الحروب في جميع أرجائه، ما بين حرب تصلى الشعوب نيرانها، وتدمر البلاد والديار أسلحتها، وحرب باردة تأتي على الهدوء والسكينة، فتزلزل الأ والقرار من القلوب، وتثير الخوف والفزع في النفوس، وتهيج في المجتمع ألوان النفاق والأخلاق الفاسدة، وتحل عرى الجماعة؛ فيصبح الأخ عدوا لأخيه، والأمة شيعاً وأحزاباً يتربص كل بالآخرين دوائر السوء، ويقدر كل منهم ان خيره كله في نجاته هو، وشر الآخرين. وانه ليس عليه لوطنه، ولا لمواطنيه وبني جنسه شئ من الحقوق ينبعث بها الشعور من قلبه، ويتحقق بها معنى التعاطف والتراحم.

ولعمري أن العالم سيظل في هذه الحيرة، وهذا الاضطراب بل في هذا البحر اللجي من الشرور والمفاسد، لا يجد راحة مادية، ولا يحس راحة روحية، ولا يتنسم شيئاً من النسيم الذي يبشر بالخلاص والنجاة، سيظل كذلك ما ظل متمسكاً بأهداب هذه النظم التي أفتحرها الإنسان، واتخذها أساساً لحياته فما ذاق منها إلإ الخوف والجوع، والظلم والطغيان.

طريق الخلاص:

وقد أقلقت هذه الحالة كثيراً من مفكري الأمم في الشرق والغرب ومدعى حب السلام والأمن في العالم، ولم يبق أحد له فكر سليم وقلب رحيم إلا أشفق على الإنسانية من عواقب ما تتخبط فيه من ظلمات، وأخذوا يفكرون في طريق الخلاص فتفتقت بعض الأذهان عن وسائل زعموها طريقاً للسلم العالمي المنشود، وما هي في واقعها إلا تلبية لنزعات الطغيان الكامن في النفوس الذي يدين بالأثرة ولا يعبأ بمصالح الأمم، ولا يكترث بما يصيب الإنسانية من ويلات.

وهذا هو سلامهم لا يزال بعد اتخاذ هذه الصور يتعثر في خطواته، ويلتوي في مشيته، والشر يتكون ويقوى في خلال خطواته: تنطلق أبواق الدعاية وتعقد المؤتمرات، وتوضع المبادئ وتعقد المجالس، ثم لا تلبث الدعاية أن تخفق، والمؤتمرات أن تنفض، والمبادئ أن تتبخر، والمجالس أن تنحل، وتصبح ردهات هذه المنشآت ميداناً للارعاد، والإبراق. وتتطاير شرر الطغيان على الضعفاء. والويل كل الويل لمن لا تحميه قوة، أو يرمى بنفسه في أحضان قوى مستعبد. ولا عجب فإن الطغيان الذي تندلع به نيران الحروب الفتاكة هو الذي يتسلط على تلك الرءوس التي حاولت أن تستر طغيانها باسم التفكير في وسائل السلم العالمي؛ فهو سلم تذوق الإنسانية من مرارته مثل ما ذاقت وتذوق من مرارة الحرب، فكلاهما وليد الطغيان، وكلاهما وسيلة من وسائل التخريب والتدمير والقلق والاضطراب.

وبحال أن تجد الإنسانية علاج هذا الطغيان فيما وضعه الإنسان أو يضعه بروح الأثرة والزهور والغرور؛ إنما العلاج الحق في الرجوع إلى ذلك العلاج الإلهي الخالد الذي يستند في صدوره وتنظيمه وإبداعه إلى العليم بخفيات النفوس، الخبير باتجاهات القلوب، وذلك هو الإسلام وحده الذي مهما تعددت مبادئه وتنوعت إرشاداته يرجع إلى كلمتين اثنتين: إيمان، وعمل صالح (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون).

(والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)

لقد مرت على الإنسانية حقب انتابها فيها مثل ما انتابها في هذه الحقبة من شرور وآثام وطغيان، وما أنقذها من شر تلك الويلات إلا هذا العلاج الإلهي، زكاها وطهرها وعلمها الكتاب والحكمة، وحولها من مجاري الشر والشقاء إلى سبيل الخير والفلاح، والإنسانية هي الإنسانية، والويلات هي الويلات، والعلاج هو العلاج؛ فليكن علاج الآخرين هو علاج الأولين.

لهذا وبمناسبة ذكرى ميلاد مسدد هذا العلاج، محمد بن عبد الله رأيت أن أتقدم على صفحات الرسالة بموجز بين واضح عن جملة العقاقير التي تألف منها ذلك العلاج رجاء أن يتعرفه الناس ويقبلوا عليه فيكون في تناوله الشفاء والإنقاذ، والصحة والعافية. (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا. وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا).

الإسلام:

ليس الإسلام - كما يظن الذين يجهلون حقيقته - دين نسك وعبادة فقط، تقتصر مهمته على تنظيم علاقة الإنسان بربه، وإنما هو - كما ينطق كتابه - دين عملي، عام، خالد. ينظم علاقة الإنسان بربه، وعلاقته بمواطنيه وبني جنسه، ويرسم للجميع طريق السعادة في الدارين: الدنيا والآخرة (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ان لهم أجراً كبيراً، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة اعتدنا لهم عذاباً أليما) (9، 10) الإسراء.

(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) (24 الأنفال.

(ولو انهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) (66 المائدة).

(فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً؟ قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها، وكذلك اليوم تنسى، وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى) (123 - 127 سورة طه.

أساس التنظيم الإسلامي للحياة

شرع الله الإسلام، وجعل منه نظاما يكفل سعادة الفرد والجماعة في الدنيا والآخرة، لم يترك عنصرا من عناصر الخير والفلاح، عناصر الحياة الطيبة والسعادة الخالدة إلا أمر به ودعا أليه، وحث عليه، ولم يترك عنصرا من عناصر الشر والفساد، عناصر الحياة الذليلة والشقاء المقيم إلا نهى عنه، وحذر ونفر منه.

ذلك أن الإسلام بني تنظيمه للعالم على الواقع وهو: إن الإنسان جسم وروح، وان للجسم حظا ومتعة، وان للروح حظا ومتعة، وان للإنسان شخصية مستقلة عن بني جنسه، وشخصية يكون بها لبنة في المجتمع الوطني والإنساني، وأن له بكل من هاتين الشخصيتين حقوقا وعليه واجبات.

ولا تتحقق سعادة الإنسان إلا باستكماله حظ الجسم والروح، وتنظيم حقوقه وواجباته في نفسه وفي مجتمعه دون إفراط ولا تفريط.

وكل ما جاء به الإسلام من عقائد وعبادات وآداب وتشريعات لا يخرج عن هذه الدائرة، دائرة رعاية حظ الجسم وحظ الروح للإنسان منفردا ومجتمعا.

المبادئ العامة للإسلام

وفي ظل هذا المبدأ العام الواقعي، وفي سبيل الوصول إلى غايته السامية، وضح الإسلام المبادئ الآتية:

أولا: طلب الإيمان بمصدر الوجود والخير، والرجوع إليه في كل شئ، وإفراده بالعبادة والتقديس، والدعاء والاستغاثة، حتى لا يذل مخلوق لمخلوق، وحتى يشعر الإنسان بعزة نفسه، ولا يضل باتخاذ الوسائط والشفعاء من دون الله، وطلب الإيمان بيوم الحساب والجزاء، والإيمان بمعرفة طريق الحق الذي ارتضاه الله لعباده، وربط به سعادتهم في الدنيا والآخرة. ذلك الطريق هو: ملائكة الله الذين يتلقون عنه الشرائع والأحكام، وأنبياؤه الذين يتلقون عن الملائكة ويبلغون الناس ما أمروا بتبليغه، والكتب السماوية التي هي رسالة الله لعباده. وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين) صدر الآية (177) سورة البقرة.

ثانياً: رسم طرق العبادة وفرض منها جملة أنواع ما بين بدنية ومالية، جعلها مددا للإيمان بالخالق، وسبيلا لمراقبته، واعترافا بشكره فرض خمس صلوات في اليوم والليلة يتكرر بها وقوف الإنسان بين يدي خالقه ومولاه يناجيه، ويستشعر عظمته، ويخلص بها من سلطان الحياة المادية المظلمة.

وفرض صوم شهر في السنة - وهو شهر رمضان - شكرا على نعمة نزول القرآن، وتدريبا على خلق الصبر الذي لابد منه في احتمال الحياة.

وفرض الزكاة وهي إخراج جزء معين من ماله سبيل الله شكرا على نعمة المال وقياما بحق الجماعة.

وفرض الحج إظهار الشعار الإيمان العام وهو الالتجاء إلى الله مع جماعة المؤمنين متجردين عن المال والأهل والولد والمساكن الطيبة ابتغاء مرضاة الله وتذكر اليوم المعاد، وجمعاً لكلمة الموحدين وإحياء لذكرى المصلحين الأولين الذين اصطفاهم الله لإنقاذ عباده من هوة الظلال والمآثم.

فرض هذه العبادات وبين على لسان رسوله كيفياتها ومقاديرها وأوقاتها، ووحد بين الناس في كل ذلك حتى لا تتشعب أهواؤهم ولا تختلف أنظارهم، وحتى يكون ذلك سبيلا لجمع القلوب وائتلاف الأرواح، والشعور بوحدة الغاية والمقصد.

الثالث: حث على العلم والمعرفة، وفك عن العقل البشري أغلال التقليد والجمود، ودفع به إلى معرفة أسرار الله في خلقه: أرضه وسمائه، مائه وهوائه، وذلك ليقوى الإيمان بالله، وليسعد الناس باستخدام ما يدركون من أسرار هذا الكون الذي أخضعه الله للإنسان وسخره له في حياته، ومن هنا علا شأن العلماء الذين خاضوا غمار هذا الكون وانتفع الناس بما أدركوا.

(قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون).

(يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات) (إنما يخشى الله من عباده العلماء).

الرابع: أمر الإسلام بتحصيل الأموال وقرر أنها قوام الناس، وعصب حياتهم، وجعل السعي في تحصيلها من الطرق المشروعة، وهي الزراعة، والصناعة، والتجارة؛ عديلا لعبادة الله (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون) (10) سورة الجمعة.

(هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) 15. سورة الملك.

وأمر بحفظها، ونهى عن تبذيرها واغتيالها. وجعل فيها حقا للفقير الذي لا يستطيع العمل وللمصالح العامة (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا نبذر تبذير، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا - ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) 26 - 29 سورة الإسراء.

(وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) 195 سورة البقرة.

(ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) 188 البقرة

(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) 278 - 280 البقرة.

وبجانب هذا قرر الإسلام أن الترف منبع شر يقضي على أخضر العالم ويابسة.

(وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتهم به كافرون، وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين) 34، 35سورة سبأ وبذلك حارب في القائمين على أموال، والذين لهم فيها حق التصرف - مالكين أو مشرفين. حارب فيهم الترف والبذخ والتبذير فيما لا يعود بخير على الأمة، وجعل للحاكمين الحق في أن يقفوا للمسرفين المبذرين بالمرصاد حتى يحتفظوا بأموال التي استخلفهم فيها، والتي هي الحياة للفرد والجماعة، وحتى تسلم صدور المقلين من الحقد الذي تولده وتنميه مظاهر الترف والإسراف التي تحيط بهم وتقع عليها أبصارهم وهم محرمون من حاجتهم الضرورية، والمعيشة المطمئنة المريحة.

وبهذا المبدأ الذي قرره الإسلام إزاء المال تحل المشكلة المالية التي ولدها الجشع فهددت العالم في حياته وأمنه، فهو يقضي على الطغيان المالي، ويصوم المجتمع من الشيوعية الهدامة، ويحتفظ بالحقوق والجهود، ويوفر ثمرة العمل، ويفتح باب التنافس في عمارة الكون وتقديم الحياة والفضائل الإنسانية السامية.

أمر الإسلام بحفظ العرض احتفاظا بعنوان الشرف والكرامة، واقتلاعا لبذور الفوضى الجنسية التي تقضي على نظام الأسر والأنساب، وتجعل الأفراد لبنات مبعثرة لا يجمعها رباط ولا يظللها قبيل. وقرر أن الاختصاص في الحياة الجنسية كالاختصاص في الملكية الشخصية كلاهما عنصر من عناصر الحياة الآمنة الشريفة، وبفقدها أو إحداهما تنفصم العرى وتنقطع الروابط، ويصير الإنسان إلى إباحة مطلقة أو قسوة وحشية، وجدير به حين إذ أن يرحل من قصور الحضارة إلى غابات الوحوش وفلوات الذئاب.

أمر الإسلام بحفظ الصحة وحارب المرض، فأمر بالوقاية، وحذر من العدوى، وحث على التداوي، وأباح للمريض والخائف من المرض إذا توضأ - أن يتيمم - واكتفي به طهارة له. وأباح الفطر في المرض والسفر، والحيض والنفاس، والحمل والإرضاع والشيخوخة؛ كل ذلك عناية بالصحة ووقاية من المرض. والإسلام يبني أمره كما قلنا على الواقع، والواقع أنه لا علم إلا بالصحة، ولا جهاد إلا بالصحة، ولا عمل إلا بالصحة، فالصحة هي رأس مال الإنسان وأساس سعادته، وقد استقر ذلك في نفوس المسلمين حتى اشهر على ألسنتهم: إن صحة الأبدان مقدمة على صحة الأديان.

السابع: أمر بحفظ العقل الذي هو ميزان الخير والشر في هذه الحياة، فحرم كل ما يفسده أو يضعفه (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) 90 المائدة

جاء على لسان الرسول : كل مسكر خمر، وكل خمر حرام.

الثامن: أمر الإسلام حفظاً لكيان الدولة وردا لغائلة المعتدين بتحصيل القوة واتخاذ العدة التي يكافح بها الأعداء.

(واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) 60 سورة الأنفال.

وقد أرشدت الآية الكريمة إلى القوة ليست في نظر الإسلام إلا طريقا من طرق الإصلاح وسبيلا من سبل السلم بإرهاب المفسدين، ورد المغيرين، وتقوية جانب الخير بشد أزر المصلحين، وأنه لا يقرها طريقا للإذلال والتخريب، وإخراج الناس من ديارهم وسلب أموالهم والتضييق عليهم في الحياة، ولا يريدها إكراهاً للناس على اعتناق الدين (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغنى فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم. 256 سورة البقرة).

(ولو شاء لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) 99. سورة يونس.

التاسع: قرر الإسلام المساواة بين الناس، وقضى في الحقوق والواجبات على الفوارق بين بني الإنسان، وأعلنهم في الصراحة لا تعرف الموارية أنهم جميعا من نفس واحدة، وأنهم ما جعلوا شعوباً وقبائل للتفاضل أو للتناحر والتقاتل؛ ولكن للتعارف والتعاون.

يا أيُها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) 13 الحجرات.

العاشر: وضع الإسلام الأحكام وأصول التشريعات لحياة الناس، وكان سبيله في ذلك أنه لم يترك الناس يشرعون لأنفسهم في كل شيء، ولم يقيدهم بتشريع معين في كل شيء، وإنما نص وفوض: نص على أحكام ملا تستقل العقول بإدراك الخير فيه وما لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، وفوض فيما وراء ذلك معرفة ما تقضي به المصلحة لأرباب النظر والاجتهاد في حدود أصوله العمة، وبذلك حفظ الإسلام للعقل الإنساني كرامته، وحياته في الوقت نفسه من الاضطراب للأهواء والنزعات.

الحادي عشر: مكن الإنسان من حظ الجسم وأرباح له التمتع بالطيبات، في مأكله ومشربه، في ملبسة ومسكنه بحسب وسعه وقدرته دون إسراف أو تبذير، وأرباح له التمتع بحاجة نفسه من الزوجة والمال والولد، ومكنه من متعة الروح بالعلم عن طريق التصفية والرياضة، وعن طريق الفكر والتدبر في جلال الله وجماله وما خلق الله من آيات وعجاب.

(يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا أن الله لا يحب المسرفين - قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق - قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) 31 - 33 سورة الأعراف.

(يا أيها الذين لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتقدون إن الله لا يحب المعتدين، وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي انتم به مؤمنون. 87، 88 المائدة)

الثاني عشر: منح الإنسان باعتباره فرداً - شخصية مستقلة وجعله في الوقت نفسه - لبنة في ناء المجتمع، والاعتبار الأول اثبت له حق الملكية لما له ودمه، وحق الهيمنة على نفسه وولده، ومنحه في هذه الدائرة حق التصرف بما يكون مصلحة له وسبيلا مقوماً لحياته دون مساس بحق الغير.

وباعتبار الثاني أوجب عليه للمجتمع حقا في نفسه يرشد الضال، ويعين الضعيف، ويأمر بالمعروف، وينهي عن المنكر، ويخرج للغزو والجهاد في سبيل رد العودان، ويساهم في كل ما يستطيع في مرافق الحياة ووسائل رفاهيتها، وأوجب عليه حقا في ماله بالبذل والإنفاق في سبيل الله بما بفضل عن حاجته وحاجة من يمونهم وبلى عليهم ولاية خاصة، كما حثه على أن يعمل - لو كان قادراً - على إيجاد النسل القوى الصالح الذي يرفع بقوته وصلاحيته صرح المجتمع على كاهله.

وفي مقاله هذه الواجبات التي فرضها الإسلام على الفرد للمجتمع فكلف المجتمع الممثل في الحاكم الأمر بحفظ دمه وماله وعرضه، وشرع لحماية ذلك العقوبة من قصاص وحد وتعزيز. وبذلك تبادل الفرد مع المجتمع - في الوضع الإسلامي - الحقوق والوجبات، وجعلت سعادة الحياة منوطة بالتعادل بين الجانبين دون طغيان من أحدهما على الآخر؛ فلو ضمن الفرد بنفسه أو ماله، أو بلسانه أو بامتناعه عن الزواج والنسل مع قدرته - ساءت حالة الأمة وانقلبت حياتها جحيما واستوجب الفرد عذاب الله وغضبه. وكذا لو ضن المجتمع بقوته وسلطانه عن حماية الفرد وكفالته ساءت الحال وانقلبت جحيما واستوجب الحاكم وولاة الأمر الممثلين للأمة سخط الله وغضبه.

شد الإسلام أزر هذه المبادئ التي لا بد منها في أصل الحياة، وحفظها بجملة من الآداب الفردية والاجتماعية تخلع على الإنسان في شخصه ومجتمعه حلة البهاء الإنساني والجمال النفسي، وتقية شر التدهور والانحلال.

ففي أدب التواضع والمشية والنداء واشتغال الإنسان بما لا يعنيه وجريه وراء الظنون الفاسدة والخواطر السيئة يقول الله تعالى (ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرضمرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور، واقصد في مشيك واغضض من صوتك). سورة لقمان.

ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا، ولا تمش في الأرضمرحاً إنك لن تخرق لأرضولن تبلغ الجبال طولا، كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها) 36 - 83الإسراء.

(يا أيُها الذين لآمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا) 12 الحجرات.

وفي أدب الزيارة للبيوت: (يا أيُها الذين لآمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير للكم لعلكم تذكرون، فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعلمون عليم) 28 سورة النور.

وفي سد أبواب الفتنة الجنسية (قل للمؤمنين بغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلكم أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات بغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منه وليضربن بخمرهن على جيوبهن) 30، 31 سورة النور.

وفي أدب المجالس (يا أيُها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فأفسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انتشروا فانتشروا،) 11سورة المجادلة.

وفيأدبتلقى الأخبار وإذاعته: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم فاسق بنبأ أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) 6سورة الحجرات.

وفي أدب اجتماعي خطير (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن، ولا تلزموا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الآثم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) 11 الحجرات.

وفي معاملة المسالمين المخالفين في الدين (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديارهم من ديارهم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) 8 الممتحنة.

الرابع عشر: هذه جملة المبادئ الأصلية، وقد صانتها الإسلام فوضع العدل والشورى أساسين للحكم فيها وبين مصادر التشريع التي يتجه إليها المشروع فيما يحتاجون إليه من أحكام (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا)، (وشاورهم في الأمر) (وأمرهم شورى بينهم) (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ويعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تتذكرون) (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).

وفي بيان مصادر التشريع يقول (يا أيُها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) 58، 59 النساء.

ثم أمر الناس يتقوى الله فيها والتزم حدوده منها وحذرهم مخالفتها إلى الاعتصام بحبلها، والتضامن فيها، والتواصي بها حاكمين ومحكومين، رعاة ورعايا.

وفي ذلك يقول الله تعالى (يا أيُها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم. ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).

(والعصر إن الإنسان لفي خصر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).

أما بعد: فهذا هو الإسلام وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده، ينظمون به حياتهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور، وقد بعث بأصوله الرسل، وبينها في الكتب ثم أكملها بما يناسب رقي الإنسانية في آخر الكتب المنزلة وهو القرآن، وعلى لسان خاتم الأنبياء والمرسلين وهو محمد عليه الصلاة والسلام. أجملناه في هذه العجالة ليكونوا مناراً يسترشد به المسترشدون وليكونوا تبصرة وذكرى لأولى الألباب، وليكون حدا فاصلا بين الحقيقة التي أنزلها الله ودعا الناس إليها، وربط بها سعادتهم، وبين الانحراف الذي وقع فيه العالم، وتفكك به المسلمون.

والسلام على من اتبع الهدى.

محمود شلتوت