مجلة الرسالة/العدد 92/الأمير خسرو

مجلة الرسالة/العدد 92/الأمير خسرو

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 04 - 1935



الشاعر الهندي الكبير

للسيد أبي نصر أحمد الحسيني الهندي

تتمة

إن الشعر الراقي يشمل طموحا غامضا مائلا إلى اللانهائي؛ ومع هذا يتخذ لذلك من هذا العالم المادي وسيلة، فهو يعطي صوتا لصمت الغرائب التي تبرزها أسرار هذا العالم. وبناء عليه يكون بيت واحد من ذلك الشعر يحتوي على قيادة روحانية وفكرة سامية مؤثرة في النفس إلى قرار سحيق، وهو ما لا تجده في صفحات من النثر، وذلك لأن من لوازم النبوغ الشعري الراقي بصيرة نافذة من ظواهر الأشياء إلى صميمها. فبها يجمع الشاعر الفيلسوف المفلق الكامل حقيقة الأشياء الأصلية في مجموع كامل جديد مؤثر غاية الأثر، وبها يدرك ويرى من مطالع الحق والجمال في هذا العالم ما لا يراه العامي. فإذا عبر عما يدركه ويراه برموز واصطلاحات مادية فهو لا ينويها بالذات، بل ينوي بها تلك الحقيقة العليا الخالدة التي طالما طمحت إليها روحه ونفسه كلما أدرك مظاهر تلك الحقيقة المتنوعة ومناظرها المختلفة في هذا العالم. وهذا الصنف من الشعر هو شعر فلسفي روحاني. ولقريحة خسرو في هذه الناحية إنتاج واسع لأنه كان صوفيا كبيرا. نذكر الأبيات الآتية منه قال:

جان زتن بردى ردرجاني هنوز ... دردرها دادى ودرماني هنوز

آشكارا سينه أم بشكا فتى ... همجنان در سينه ينهاني هنوز

ملك دل كردى خراب ازتيغ ناز ... واندرين ويرانه سلطاني هنوز

هردو عالم خود كفته ... نرخ بالاكن كه ارز انى هنوز

(أخذت روحي من جسمي ولا زلت أنت في روحي، وأعطيتني الآلام ولا زلت أنت الشفاء)

(شققت صدري على الإعلان، ولا زلت أنت مخفيا فيه كما كنت)

(خربت إقليم القلب بسيف الدلال، ولا زلت أنت السلطان في هذا الخراب) (قلت ثمن نفسك العالمان. ارفع الثمن فأنك لا تزال رخيصا)

لم يكن خسرو نابغة في الشعر فقط، بل كان أيضا موسيقيا بارعا، فقد برع في الموسيقى إلى أن نال لقب (نايك) وهو لقب قل أن ناله أحد غيره فيما بعد من المسلمين. فقد نقل عنه المؤرخ دولت شاه في كتابه (تذكرة الشعراء) بيتين قال فيهما:

(أنا سيد الموسيقى كما أنا سيد الشعر. أنا كتبت ثلاثة مجلدات في الشعر

لو كان ممكنا تحويل جميع ما ألفته من الألحان الموسيقية إلى الكتابة لبلغ إلى ثلاثة مجلدات أيضا)

وحقا قال أمير خسرو ولأنه كان صاحب ذكاء حاد فوق المعتاد، يملك ملكة اختراعية في الشعر وفي الموسيقى فبلغ فيهما ما لم يبلغه أحد. واختراعاته وتأليفه في الألحان والنغمات لا تزال رائجة وشائعة بين الهنود إلى اليوم، وهو الذي اخترع (سيتار) الآلة الموسيقية التي تشبه تقريبا القيثارة العربية والتي لا تزال تهز الأفئدة بنغماتها الشجية في محافل الهند وأفراحها إلى اليوم طالبة الشهادة على كمال عبقرية مخترعها

قد ذكر صاحب (مانك سهال) (وهو كتاب في تاريخ الموسيقى صنفه في عهد الإمبراطور محي الدين أورنك زيب عالمكير وقد ترجم إلى الفارسية باسم (راكي دربن)) كثيرا من النغم والألحان التي اختراعها أمير خسرو، وذكر حكاية تدل على براعة خسرو في الموسيقى وهي أن السلطان علاء الدين خلجي دعا مرة (نايك جوبال) الموسيقي الوثني الشهير حينئذ للأطلاع على كماله في الفن، وكان له ألف وستمائة تلميذ إذا أراد الخروج من بيته حملوه على أكتافهم فلبى دعوة السلطان وأسمعه الألحان والنغمات ستة أيام متوالية، وكان خسرو يسمعها مختفيا. وفي اليوم السابع تصدى له خسرو وأدعى أن جميع الألحان والنغم التي سمعها السلطان هو مخترعها وأعادها واحدة واحدة بإتقان وإجادة أكثر من جوبال فتحير الرجل في كمال خسرو وبراعته في الفن

كانت براعة خسرو في الموسيقى أحرزت له شهرة واسعة لدى عامة الناس أيضا وعلى الأخص السيدات والأولاد منهم، إذا كانوا يحفظون نغماته وألحانه وأناشيده، ويغنونها في أفراحهم ومحافلهم ولم يكن يكتب نشيدا إلا كان يخترع له لحنا خاصا. وقد اخترع أصنافا كثيرة من الألحان والأناشيد التي لم يكن لها وجود قبله، وعلى الأخص باللغة الأردية أذكر منها (أنميل) (مكرني) و (دوخسنة) و (دهكوسلا) الخ وكلها شائعة بين العامة إلى اليوم

كان خسرو يرتجل الشعر والأناشيد بداهة. ومن حكايات ارتجاله أنه عطش مرة فذهب إلى بئر كان أربع سيدات يخرجن منه الماء فاستسقاهن. فعرفته واحدة منهن وقالت للأخريات: إن هذا خسرو: فسألته: هل أنت خسرو الذي يغني كل واحد أناشيده وألحانه ويسمع ألغازه وأنميله ومكرنيه؟ فأجاب نعم، فقال واحدة منهن: اعمل لنا نشيدا واستعمل فيه كلمة (كهير) (أي المهلبية) وقالت الثانية: استعمل فيه كلمة (شرخا) (أي المغزل) أيضا، وقالت الثالثة: كلمة (دهول) (أي الطبلة)، وقالت الرابعة: كلمة (كتا) (أي الكلب) أيضا فقال لهن: أعطينني الماء أولا فأني أموت عطشا، فقلن له: لا نعطيك الماء حتى تقول النشيد المشتمل على كلماتنا: فارتجله خسرو؛ وهذه ترجمته ولكن لم يبق فيها جماله الأصلي:

إن المهلبية طبخت بالاعتناء

واستعمل فيها خشب المغزل وقودا

ثم جاء الكلب وأكلها

وشغلكم ضرب الطبلة

وأنا عطشان، أعطينني الماء

كان الأمير خسرو صوفيا كبيرا ورعا صالحا تقيا. قال المؤرخ (ضياء الدين برني) وهو من أصدقائه في كتابه تاريخ فيروز شاهي: (إنه مع حصافته العقلية، وذكائه الشاذ، وعلمه الواسع كان صوفيا من الطبقة الأولى، فكان يصوم تقريبا كل يوم ويصرف أكثر أوقاته في تلاوة القرآن وفي إقامة النوافل والفرائض من الصلاة، وكان خليفة في الطريقة لسيدنا الشيخ الولي الصوفي مولانا (نظام الدين أولياء) قدس الله سره، وإني لم أر خليفة يعتقد اعتقادا قويا في شيخه مثله)

إن من أهم مبادئ الصوفية التحرز التام من جرح عواطف الناس، وقتل أمانيهم وبذل أقصى المجهود في قضاء حاجاتهم. وكان الشيخ نظام الدين قدس الله سره يقول: إنه لا عمل يساوي يوم القيامة إدخال السرور على قلوب الناس، وفي حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: الخلق كلهم عيال الله، فأحب الخلق إلى الله من أحسن إلى عياله. فكان خسرو من أكبر العاملين بهذا الحديث، لذلك كان محبوبا عند الجميع. وله في ذلك حكايات كثيرة منها: أنه عندما كان يرجع من السراي الملكية كل يوم إلى البيت يرجع راجلا، لأنه كان يحب البساطة والسذاجة في العيش، وهو أيضا من لوازم الحياة الصوفية، فيمر بدكان عجوز تسمى شمو فتقدم له كرسيا ونرجيلة، وتطلب منه تشريفها ولو بدقيقة. فلكي لا يجرح عواطفها كان يقعد عندها ولو دقيقة. ومرة قالت له: يا سيدي خسرو! آلامك وبلاؤك على رأسي إنك تقول آلافا من الغزل وتؤلف النغمات والألحان وتصنف الكتب. أما تؤلف شيئا باسمي حتى يذكر اسمي أيضا بفضلك؟ فقال لها حاضر يا سيدتي شمو وارتجل نشيدا فيه اسمها. فخلد اسمها بذلك النشيد إلى اليوم

كان خسرو لين الجانب رقيق العواطف قطع جميع مدارج التصوف ومنازله، فكان صاحب حرقة قلبية دائمة في حب الله. وقد قال فيه شيخه مولانا نظام الدين أولياء قدس سره: (في يوم القيامة كل واحد يفتخر بشيء، وفخري بحرقة هذا (ترك الله)). ولعل خسرو أشار إلى هذا حين قال البيت الآتي:

خسرو من كوش براي صواب ... تاتو شود (ترك خداى) خطاب

(يا خسرو اجتهد في الحق ليكون لك لقب (ترك الله)

انتهى البحث

السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي