مجلة الرسالة/العدد 92/محاورات أفلاطون

مجلة الرسالة/العدد 92/محاورات أفلاطون

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 04 - 1935


19 - محاورات أفلاطون

الحوار الثالث

فيدون أو خلود الروح

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

فأجال فينا سقراط النظر، كما هي عادته، وقال باسما: إن دليل العقل ناهض في جانب سمياس، وإن في مهاجمته إياي لقوة، فلماذا لا يتصدى منكم لأجابته من هو أقدر مني؟ ولكن قد يحسن بنا قبل أن نجيبه، أن نصغي كذلك لما يريد سيبيس أن يناهض به الدليل - وسيكون لنا من ذلك للروية متسع، فإذا ما فرغ كلاهما من الحديث، وبدا قولهما مستقيما مع الحقيقة سلمنا لهما، وإلا، فلنا أن نؤيد الجانب الآخر، وأن نناقشهما. قال: تفضل إذن فحدثني يا سيبيس، أي مشكلة صادفتك فأتعبتك؟

قال سيبيس: سأحدثك - إني لأشعر بأن التدليل لم يتزحزح عن موضعه، فأنا مستعد أن أسلم بأن قد قام الدليل القاطع الوافي جدا، إن جاز لي هذا القول، على وجود الروح قبل حلولها في الصورة الجسدية. ولكني أرى أن بقاء الروح بعد الموت لا يزال يعوزه الدليل، ولست أعترض في ذلك بما أعترض به سمياس، لأنني لا أريد أن أنكر أن الروح أقوى من الجسد وأطول بقاء، فعقيدتي أن الروح تسمو على الجسد في كل هذه النواحي سموا بعيدا. وقد يخاطبني الدليل فيقول: حسنا أذن، فلماذا تقيم على ارتيابك؟ إذا رأيت أن الأضعف يظل باقيا بعد موت الإنسان، أفلا تسلم بأنه يتحتم أيضا أن يبقى ما هو أطول بقاء خلال هذه الفترة نفسها؟ ويجمل بي الآن أن أستخدم المجاز، كما فعل سمياس، وسأطلب إليك أن تنظر في استعارتي لترى هل جاءت ملائمة لموضوعها. أما المثل الذي سأسوقه فهو مثل نساج قديم، يموت فيزعم بعض الناس بعد موته أنه لم يمت وأنه لا بد أن يكون حيا، ويستشهد على ذلك بالعطاف الذي نسجه بنفسه وارتداه، والذي لا يزال جيدا متينا، ثم يمضي فيسأل المرتاب من القوم. هل الإنسان أطول بقاء أم العطاف الذي يستخدم ويرتدي؟ فإذا ما أجيب بأن الإنسان أطول جدا في البقاء، ظن أنه قد أثبت بذلك يقينا بقاء الإنسان الذي هو أطول بقاء ما دام الأقصر بقاء لا يزال باقيا. ولكني أرجو أن تلاحظ ي سمياس أن ليست تلك هي الحقيقة، وليس بخاف على الناس أن من يتحدث بهذا إنما ينطق هراء، فحقيقة الأمر أن هذا النساج قد ارتدى ونسج كثيرا من هذه الأعطف، ولئن كان قد أفنى كثيرا منها وعمر بعدها، إلا أن آخرها قد ظل بعد فنائه باقيا، وكن لا ريب في أن هذا أبعد جدا من أن يقوم دليلا على أن الإنسان أقل من العطاف شأنا وأشد ضعفا، غير أنك تستطيع أن تعبر عن علاقة الجسد بالروح باستعارة كهذه، فلك أن تقول بحق إن الروح باقية، وإن الجسد بالقياس إليها ضعيف قصير الأجل، فقد يقال عن كل روح أنها تبلي أجسادا كثيرة، وبخاصة إذا امتد بها أجل الحياة، لأنه إذا كان الجسد يتحلل ويفنى في حياة الإنسان فالروح لا تني تنسج لنفسها لباسا جديدا، وتصلح ما قد أصابه البلى، فطبيعي إذن أن تكون الروح مرتدية آخر أثوابها حينما يدركها الفناء، وذاك الثوب وحده هو الذي سيبقى بعد فنائها، ولكن الجسد بدوره، إذا ماتت الروح، سيكشف آخر الأمر عن ضعف طبيعته، فلا يلبث أن يدركه الفناء، ولهذا لن أركن إلى هذا الدليل برهانا على بقاء الروح بعد الموت، لأنه إذا سلمنا فرضا حتى بأبعد مما تؤكد أنت أنه في حدود الممكن، فارتضينا - فضلا عن اعترافنا بوجود الروح قبل الميلاد - أن أرواح طائفة من الناس لا تزال موجودة بعد الموت، وأنها ستظل موجودة، وأنها ستولد وتموت كرة بعد أخرى، وأن في الروح قوه طبيعية ستقاوم بها حتى تولد مرات عدة - فقد نميل مع هذا كله إلى الظن بأنها ستعاني من آلام الولادات المتعاقبة رهقا قد ينتهي بها آخر الأمر إلى السقوط في إحدى مرات موتها، فتفنى فناء تاما، وربما خفيت عنا جميعا هذه المرة التي يموت بها الجسد ويتحلل، والتي قد تؤدي بالروح إلى الفناء، فليس يمكن لأحد منا أن تكون لديه عن ذلك خبرة فإن صح هذا، زعمت أن من يثق في الموت فإنما يثق وثوقا غاشما، ما لم يكن قادرا على التدليل بأن الروح لا تخضع للموت أو الفناء إطلاقا؛ أما إن كان عاجزا عن إثبات ذلك، فمعقول ممن يقترب من الموت أن يخشى فناء الروح فناء تاما عند انحلال الجسد

- فلما سمعنا منهم هذا القول، أحسسنا جميعا بالكآبة، كما لاحظ بعضنا إلى بعض فيما بعد، وأحسب أنه قد داخلنا الاضطراب والشك، لا فيما سلف من دليل فحسب، بل في كل ما قد يجئ به الدهر من دليل، لأننا، وقد كنا من قبل نؤمن إيمانا راسخا، قد رأينا ذاك الإيمان تتزعزع دعائمه؛ فأما أننا لم نكن قضاة صالحين، وإما أن العقيدة لم تقم على أساس صحيح اشكراتس - إني لأشاطرك إحساسك في هذا - حقا إني لأشاطرك إياه يا فيدون، وقد هممت، وأنت تتحدث، أن أستجيب نفس السؤال. أي دليل يمكن أن أومن به بعد اليوم، فماذا عسى أن يكون أقوى في الإقناع من تدليل سقراط، وهاهو ذا قد هبط إلى الجحود؟ فيا طالما فتنتني فتنة عجيبة هذا المذهب القائل بأن الروح هي الأنسجام، ولم يكد يرد ذكره حتى عاودني بغتة، لأنه عقيدتي الأولى. وجدير بي الآن أن أعود فألتمس دليلا آخر، يؤكد لي بأن الروح لا تموت مع الإنسان عند موته. فأرجو أن تنبئني كيف مضى سقراط في الحديث؟ هل بدا كأنما يشاطركم إحساسكم الكئيب الذي ذكرت؟ أم أنه استقبل الاعتراض هادئا، فأجاب عنه جوابا وافيا؟ أنبئنا بما وقع دقيقا ما استطعت

فيدون - أي اشكراتس، إني ما فتئت معجبا بسقراط، ولكني لم أعجب به قط أكثر مما فعلت وقتئذ، أما أنه استطاع الجواب فيسير، ولكن ما أدهشني أولا هو ما تناول به كلمات الشبان من وداعة وغبطة واستحسان، ثم سرعة إحساسه بما أحدثه الحوار من جرح وما واتته به لباقته من فنون العلاج. مثله في ذلك مثل القائد الذي يستجمع جيشه وقد انهزم واندحر، ويحفز جنده أن يتابعوه فيعودوا إلى ميدان الحوار

اشكراتس - وكيف كان ذلك؟

فيدون: ستعلم مني، فقد كنت قريبا منه، جالسا إلى يمينه على مقعد وطئ، أما هو فقد استوى على سرير يرتفع كثيرا عن مقعدي، وقد أخذ يداعب شعري، ثم مسح رأسي بيديه، وصفف شعري على عنقي وقال: أي فيدون! غدا ستجذ هذه الجدائل الجميلة فيما أظن

أجبت - نعم يا سقراط، إني أظن ذلك

- إنها لن تجذ لو أخذت بنصحي

قلت - وماذا عساي أن أفعل بها؟

أجاب - إني وإياك سنقطع اليوم جدائل شعرنا، فلا نرجئها إلى غد، لو كان هذا الحوار ليموت، واستحال علينا أن نرده إلى الحياة مرة أخرى. وإني لو كنتك، ولم أستطع أن أثبت ضد سمياس وسيبيس، لأقسمت ألا أرسل شعري قط، كما يفعل الأرجيفيون، حتى أثير المعركة من جديد وأدحرها

(يتبع) زكي نجيب محمود