مجلة الرسالة/العدد 922/القصص

مجلة الرسالة/العدد 922/القصص

ملاحظات: Toujours Aimer, Toujours Souffrir. Rene Maizeroy بتاريخ: 05 - 03 - 1951



الحب ألم

لرينيه مبزروا

بقلم الأستاذ كمال رستم

(هذه قصة في يوميات لرينيه ميزروا ألخصها لك. . وأجمل من أن تقرأ القصة كما كتبها كاتبها فإن التلخيص يفقدها الكثير من مزاياها التي تفردت بها. . ولكن هذا لا يمنع من أن أنقل إليك - بقدر الإمكان - المتعة التي وجدتها وأنا أطالعها. . وأن أجعلك تأسى كما أسيت على العاشق (روبير دي بلينفي)!)

(روبير دي بلينفي) فتى من سراة باريس قدم (نابلي) على ظهر اليخت (البجعة البيضاء). . وقد صادف مقدمه احتفال المدينة بذكرى استجابة القديسة (سانتا مارياديل كارمن) ضراعات القوم بأن يقي المدينة شر الأمطار!.

شهد الفتى الاحتفال. . وكانت تصحبه (مس تمبلي) و (البرنسيس داسبرامونت). . وإذ يخلو الفتى إلى هذه الأخيرة يسألها قائلا:

- هل تأذن لي سيدتي بأن اسأل عمن عساها تكون هذه الفتاة اللطيفة التي كانت تتأمل بسخرية ألبوم (البجعة البيضاء)؟

وتهز البرنسيس داسبرامونت رأسها بسخرية قائلة:

- إنك يا عزيزي بلينفي سابع شخص ألقي علي هذا السؤال. . وليس يدهشني هذا ما دامت ابنة خالتي (فوستين) فتاة سابية الحسن. . آسرة الجمال!.

- فوستين. لكم يجلب اسمها السعادة!.

ومع هذا فأن السعادة لم تقع للطفلة البائسة على صفة. . فقد انتهت حياة والدها (المركيز دي تيفيرون) ذات ليلة بالقتل على طريق (بوزول) وما لبثت زوجه أن لحقت به جزعا عليه وأسى!؟

- ومن الذي كفلها بعد وفاة والديها؟.

- كفلتها خالتها (دوقة دي ستابيا) التي تدين لها فوستين بابتسامتها الجميلة التي أسرتك! وتقترب منهما فتاتان فيزداد وجيب قلب بلينفي إذ تقدمه البرنسيس داسبرامونت إلى إحداهما قائلة:

- فوستين! هذا هو السيد روبير دي بلينفي. . وهو يود أن يتحدث إليك. . .

وتظطرب فوستين. . . ويتضرج وجهها فيقل بلينفي:

- هل جئتك متأخرا يا آنستي؟

- على النقيض يا سيدي. . فقد كنا جراس: وأنا منشغلتين بتحليل كتابتك على الألبوم!

قالت مس تمبلي:

- صحيح. . وقد جاء التحليل في صالحك!

قالت فوستين:

- وما كادت صديقتي تطالعني بأنك موسيقي موهوب. . وأنك لا تبارى في الرقص حتى نازعتني النفس إلى التعرف بك!

- مس تمبلي هي اللطف بعينه. وإني لأشكرها على صنيعها هذا الجميل!

- على أنني موقنة بأنها لم تبالغ في وصف مواهبك. . أما عن نفسي فإني أخشى أن أبدو مبتدئة في الرقص!

- أيضايقك أن تعطيني هذا الدرس الصغير!

. . ويدلفان إلى صالون (البجعة البيضاء) ويلبيان نداء الفالس ويهمس بلينفي قائلا:

- أتذكرين يا آنستي مثلنا السائر. . . (كما يأتي الحب يمضي؟)

- شد ما أنت متشائم يا صديقي!

وتسمي أصابعها لتضغط على أصابعه وتهمس:

. . ولكن الفتى يقف فجأة عن الرقص. . . إذ يشعر كما لو كانت شوكة حادة استقرت في عقبه الأيسر. . . ويفيض الدم من وجهه. . . ويستغرق الألم كيانه كله. . . ويشله تماما عن الحركة وتصيح فوستين وقد أخذتها اللهفة على الفتى:

- رباه. . ماذا دهاك؟

- ليس سوى خور. . خطوة خاطئة!

أستند إلى ذراعي ودعنا نخرج من هنا. . فإن الهواء خليق بأن ينعشك. .

وإذ يعود الفتى إلى حالته الطبيعية يقول لنفسه:

- كم كان سخيفا أن أموت. . وأن أخلف ورائي هذا الهناء كله!

وتقبل (مس تمبلي) و (البرنسيس داسبرامونت) يصحبهما طبيب هو الأستاذ (مورياك)

. . وتطري عيادة الدكتور (دينيز مورياك) الأستاذ بكلية الطب للفتى. ولكن الأمريبدو له غامضا كالسر. . وهو عاجز تماما عن تشخيص مرض بلينفي أو تفسير الأزمة التي انتابته!. ويتحدث طويلا إلى الفتى عن تلك الآلة المعقدة المسماة (بالجسد الإنساني) إلى أن يقول:

- أمن الممكن أن يحدث اضطراب عصي مروعنتيجة حركة فصلت برهة شريان القدم. . أو الشظى القصير الجانبي بينما كنت تراقص الآنسة دي تيفيرون؟. . لقد استطلعت آراء بعض الزملاء. فكان إجماعنا على أنه ينبغي لك أن تأخذ حذرك من الآن!

- أن تتنبه إلى هذا الإنذار! اكرر انه ليس طبيعيا أن يتعرض شاب شديد الأسر مثلك بريء من العيوب الجسدية لمدة خمس دقائق لموت محقق؛ وأن يشعر برعدة الموت المروعة تسري في عروقه!. ثم فجأة يتوقف هذا العذاب. . كما لو كان دعابة سخيفة

وإذ يخلو الفتى إلى نفسه يقفز إلى رأسه هذا السؤال: أصحيح إنني في خطر. وإن هذا الطبيب الكريه إنما قرر الحقيقة!. . .

. . يخت (البجعة البيضاء) يتحرك مبعدا عن الميناء. . ويريد بلينفي أن يستطيع رأى (فوستين) عما إذا كانت تبادله الحب وترغب في بقائه إلى جوارها حتى يكللا هذا الحب بالزواج فيمضي إليها ويطرح السؤال التالي:

- فوستين! أيبغي أن أرحل أم أبقى؟

وتجيبه في صوتها الحبيب بكلمة واحدة:

- إبق!

وتسلم شفتيه جبينها الوضىء. وعينيها النجلاوين. . وتستطرد هامسة:

- إنني أحبك أكثر مما تحبني. وسأغدو زوجتك. . وغلا فأنني لن أمنح نفسي بعدك لغير الله

ويتم قرانها وها هو ذا بلينفي في منزل الزوجية يعزف إحدى سمفونيات بيتهوفن، وفوستين زوجه في حال من خدر الحس وسكرة النفس - جالسة على حافة النافذة تصغي إلى النغم الحالم الصادر من البيان. . ويهتف بلينفي من أعماق نفسه قائلا:

- أتحبينني يا فوستين؟.

- نعم. . أحبك. . أحبك وما عيشي إلا لحبك. . إنني سعيدة إلى حد يخيل إلى أنني أحلم!

. . وفجأة يتوقف بلينفي عن العزف إذ تعود نوبة المرض وتهتف فوستين قائلة: -

- أرجوك. . . لا تكف عن الإيقاع. . . ما أعذب موسيقى بيتهوفن في سكينة الليل!

تتكرر نوبات المرض. . ويغدو قعيد عربة تجرها ممرضة بين دموع فوستين التي يشير عليها الأطباء بان ترد عنها أحزانها إشفاقا على صحتها، وأن تنطلق إلى الحياة وتعب من معينها الصافي لا من الكدر الذي يصوح جمالها ويذوي جسدها!

وينقضي شهران يجتر فيهما بلينفي الألم، ويبكي سعادته الغاربة إذ يتأمل حاله؛ ولكنه يذكر رجلا مقعدا يدعى (كونت دوجنربلاك) يبدو، أبدا ضاحك السن. مرح الفؤاد. . ولكنه سرعان ما يلمس الفارق بينه وبينه؛ أن الكونت رجل أعزب. . أما هو فقد دلف إلى حياة الحب وربط إلى عجلته. . فوستين!.

ويقع بلينفي فريسة الحلم يثبته هكذا في يومياته:

(وقع لي هذه الليلة كابوس مخيف كان مسرحه حديقتنا في (بوزيليب). . ورحت في الحلم أنتحب كطفل. لم تكن الأشجار إلا هياكل عظيمة شائهة تحكي فروعها الجرداء المشانق!

وكانت ثمة وردة وحيدة - لست أدري بأية معجزة تفادت الكارثة - كانت تخفق بلطف متلألئة. . نصف متفتحة كأنها شفتان تتأهبان لتلقي حلاوة القبلة الأولى!

. . وكان لها شذا فوستين!

وراح ضوءها ينتشر تدريجيا على بقعة الخراب. . مهددة من أثر هذا الحزن؛ وكلما شرعت أستروح عطرها السحري. . وهممت بأن أقتطفها واحملها بعيدا عن هذا اليباب. . شعرت بالوردة المعبودة تمد جذورها تشبثا بالأرض. إذ ذاك دلف إلى الحديقة فتى غض الإهاب، رشيق القوام، متين البنيان حلو السمات. . واجتاز الممشى وعيناه عالقتان بالزهرة، ويداه ممدودتان كما لو كانتا تسعيان إلى يدي حبيبة!. . وتفتحت الزهرة عن كمامها، وتلألأت، وخفقت على ساقها الواهن. . وقد نفثت عطرا نفاذا أصابني منه دوار!

وأردت أن أقبض على الدخيل وأن أسد عليه الطريقوأرده عن أن يدنس متاعي وأن يسرق ملكي. . كنزي!

. . وبذلت مجهودا فوق طاقة البشر لأزيح عن ساقي هذه الصخرة التي أثقلتهما. . وطلبت الغوث، وضرعت إلى الله وتوعدت. . وسببت. . ولكنه وقد أصم أذنيه عن ضراعاتي. . مستخفا بإهانتي، وإذ بلغ الوردة جثا أمامها وهمس بصوت خفيض: فوستين! إذ ذاك رأيت الوردة العجيبة، الوردة الوحيدة تميل على راحة الفتى وتهوى متناثرة الأوراق بين أنامله! وسرعان ما ضرب فوقي ومن حولي نطاق غامض من الظلمات وثارت في وجهي عاصفة من الرمال، وأعقب ذلك سكون الأبد. . والعدم.

وهذه نازلة أخرى تنزل ببلينفي: أن السيد فيليب سترادون الذي عهد إليه بكل ثروته. . بدد الثروة وأصبح بلينفي وكل ما يملكه بعض أراض في (بيريجور) وفندق في (نوبلي). . ويلج الألم بالفتى إذ يذكر إنه عاجز عن العمل والكفاح. . فلو إنه سليم معافى لشق طريقه في الحياة، ولمضى إلى الأرجنتين أو إلى كندا. . . وحسبه فوستين سندا ومعينا. . . فوستين. . . كيف يمكن أن تألف حياة الفقر والفاقة؟

ويعود الدكتور (دينيز موريان) فيسأله أن يحدثه بصراحة عن مرضه فيقول له:

- إنك مصاب بمرض من أخطر الأمراض. . . مرض لم يأت ذكره في كتاب. . . ولم يعرف بعد في مستشفى. . . لا في أوربا ولا في آسيا. . . ومن شأن هذا المرض أن يحيل الأنسجة العضلية إلى عظام، وهو يفضي حتما إلى الموت

- الموت؟ بعد أجل قصير أو طويل؟

- إني أجهل ذلك

ولكن الدكتور دينيز مورياك الذي تطمح نفسه إلى اكتشاف سر هذا المرض الجديد لا ينصرف من قبل أن يظفر منه باتفاق يضع فيه بلينفي جسده تحت تصرفه في مقابل أن ينقده الدكتور دينيز مبلغ 50 , 000 فرنك سنويا إلى حين وفاته!

ويتأمل بلينفي فوستين فيبهره تغيرها المفاجئ. . . ويثبت في مذكراته حديث نفسه فيقول:

- كم تبدو فوستين سعيدة! وكم تتحامى لقائي وتهمل شأني. . . إنني لا أقوى على أن أصعد النظر إلى عينيها! لقد دفعتها إلى السرور والى الحياة. . . مستعينا في ذلك بإرادتي وقوتي ورقتي!

وحملتها العاصفة

فإلى سهر مضى كان عهدي بها تقص علي ما عماته وما علمته، أما الآن فقد غدت كلماتها عابرة مفتعلة حتى لتثلج القلب. إنها أصبحت تنهي حديثا على وجه السرعة. . . ولا تقول لي إلا ما تريد أن تقوله حسب!

إن فكرها شارد في مكان آخر

ويشتد به اليأس فيقول:

(إني لأتصور الآن وهم يعتبرونها أرملة. . . وانهم لم يعودوا بعد يحدثونها عني. . . كأنني عدمت النفس. . . وفارقت الحياة. من الذي تحبه؟ من سلبني قلبها؟ وأي شؤم طالعني به وجه هذا الحلم؟ أو ما كان ينبغي أن تكون أفضل من سواها، وأن تضع في اعتبارها أنني أحبها إلى حد الهوس والجنون. . . وإنني عاجز عن حماية نفسي بينما أن غريمي في حبها سالم من مثل النكبة التي حلت بي. . . وأن تكون فوستين من رقة القلب وشفافية الشعور بحيث تدعني أموت في سلام)

. . ولكن حياة بلينفي لم تعرف السلام فكذلك ينبغي أن يكون مماته.

إنه يأمر الخادم بان يذهب به إلى غرفة زوجه. . وثمة يجد رسالة لم تفرغ بعد فوستين من كتابتها إلى عشيقها

وتتراقص أمام عينيه هذه الكلمات:

. . إنك لتسبب لي يا عزيزي ألما لا ينفض عندما نتسخط هكذا ظلما على القدر، أو لم تظفر بكامل حبي؟. ما قيمة بضعة أشهر من الانتظار بالقياس إلى حبيبين قطعا على نفسيهما العهد بان يكون أحدهما للآخر. . ولا تزال أمامهما سنوات. . وسنوات. . من السعادة،.

أم تراك تعد توددك إلى - هذا التودد الذي أسرني - وقتا مضيعا؟.

. . ويتحامل بلينفي التعس على نفسه ويخط هذه الكلمات في أسفل الرسالة:

(وداعا يا فوستين. . وإني لأصفح عنك. . مادامت أوفر سعادة معه.) إن يمينه كانت لا تزال قوية على استعمال النصل الذي أهدته إليه فوستين. . وهكذا سقط على الأرض مضرجا بدمائه، متأثرا بغدر المرأة التي طالما زعمت له إنها (إنما تعيش من أجله وإنها (لن تمنح نفسها بعده لأحد غير الله!)

كمال رستم