مجلة الرسالة/العدد 922/نفوس عراقية ثائرة
مجلة الرسالة/العدد 922/نفوس عراقية ثائرة
للأستاذ حمدي الحسيني
1 - الشيخ عبد المحسن الكاظمي - طيب الله ثراه - شاعر عربي استقلالي. نشأ في بغداد فاشتغل فيها بالتجارة ثم بالزراعة، فلم ينجح في كلا العملين فتوجه نحو الأدب وكل ميسر لما خلق له. فطالع كتب الأدب وحفظ من الشعر القديم أثني عشر ألف بيت فعرف فضله ونبه ذكره. واخذ يفكر في العرب والمسلمين، وما هم عليه من الخضوع والذل، حتى قدم السيد جمال الدين الأفغاني إلى بغداد منفيا من حكومة ايران فالتقى به الكاظمي وعقدت الصداقة والمبادئ بين قلبيهما. وما كاد الأفغاني ينفى من بغداد حتى شعر الكاظمي بان الخطر يقترب منه لأنه صديق الأفغاني ولأنه يناضل الحكومة العثمانية على نور القضية العربية، فاضطر أن يغادر بغداد وينتقل في البلاد الإسلامية حتى ألقى عصا تسياره إلى مصر، وجعلها دار إقامته، ولامس قضيتها الوطنية بزعامة سعد ملامسة قوية حارة، نظم فيها القصائد الكثيرة العامرة، ولم يخرج منها إلا بعض الأقطار العربية المجاورة.
وقد زار فلسطين وشرق الأردن بعد الحرب العالمية الأولى، فأقام بيننا في القدس مدة قصيرة رأينا خلالها من أدبه الجم ما ملأ النقوس إعجابا، ومن عواطفه الوطنية ما أفعم القلوب سرورا وطربا. مما دعا العرب في فلسطين أن يقوموا له بعد وفاته حفلة تأبين كبيرة في مدينة يافا دعوا إليها عددا من أهل الفضل في البلاد العربية. وقد تكلم في هذه الحفلة نخبة من عارفي فضل الكاظمي. والمعجبين بشعره ووطنيته وتضحيته، منهم المرحومان إبراهيم عبد القادر المازني وإسعاف النشاشيبي والأستاذان أسعد داغر وعجاج نويهض وكاتب هذه السطور وغيرهم
فالكاظمي يعد من شعراء القومية العربية والقضية الاستقلالية. وأما النبع الذي يفيض على سعره الوطني بالقوة فهو المبدأ القويم الراسخ. والكاظمي كان منفردا بين شعراء العرب والمعاصرين في القدرة على نظم المطولات ارتجالا. وأما أخلاقه الشخصية فالفضيلة بكل معانيها، ولعل الإباء وعفة النفس هي أقوى أخلاقه وهي من أقوى أسباب بؤسه وشقائه في حياته. ولنسمع الآن الكاظمي يخاطب حرية العرب المسلوبة ويتودد لهذه الحرية حتى تعود إلى البلاد العربية المشوقة لجمال طلعته يا حبذا يوم الجمال وحبذا ... يوم الوصال وأجره المكسوب
يوم يعود لنا به استقلالنا ... ويرد فيه حقنا المغصوب
حثام نحتمل المذلة طوعا ... ولنا بآفاق البلاد وثوب
ولنسمع هذه القطعة القوية من شعره:
سيروا نذب عن الحمى ... ونرد عنه المستبدا
نحمي حمى أوطاننا ... ونصونها غورا ونجدا
ونرد عنها من عدا ... ظلما عليها أو تعدى
أيروق لي عيش أرى ... فيه الكريم الحر عبدا
وإذا نظرت إلى الهوا ... ن رأيت طعم الموت شهدا
إن لم تكن تجدي الحيا ... ة بعزها فالموت أجدى
2 - السيد محمد رضا الشبيبي، شاعر عراقي بارز الشخصية، وقطب من أقطاب الحركة الفكرية والنهضة الوطنية في العراق. وهو فوق هذا ذو ثقافة إسلامية عالية ومقام اجتماعي رفيع. قرأنا طائفة من شعره فرأينا القوة تتدفق والوطنية تتألق
خسرت صفقتكم في معشر ... شروا العار، وباعوا الوطنا
ضيعوه ولو اعتاضوا به ... هذه الدنيا، لفلت ثمنا
يا عبيد المال خير منكم ... جهلاء يعبدون الوثنا
إنني ذاك العراقي الذي ... ذكر الشام وناجى اليمنا
إنني أعتد نجدا روضتي ... وأرى جنة عدن، عدنا
وقد رأينا روح الوحدة العربية تتنفس في قصائد الشبيبي مما دلنا على إنه مؤمن بهذه الوحدة عامل لها
ببغداد أشتاق الشام وها أنا ... إلى الكرخ من بغداد جم التشوق
فما أنا في أرض الشام بمشئم ... ولا أنا في أرض العراق بمعرق
هما وطن فرد، وقد فرقوهما ... رمى الله بالتشتيت شمل المفرق
3 - السيد خيري الهنداوي، شاعر عراقي، اتصل في نشأته الأولى بالزهاوي والرصافي في بغداد وعاشرهما مدة طويلة فأفادته تلك المعاشرة في تفكيره وأسلوبه الشعري، وهدته إلى أقوم الطرق وأصح الوسائل لخدمة القضية العربية. وقد سجنه الأتحاديون مرارا وضيقوا عليه الخناق حتى زال حكمهم فاشتغل بالوظائف في العراق. وقد نفي مع من نفي على أثر الثورة العراقية الكبرى. وقد رأيت فيما قرأته له من شعر، روح الرصافي مشرقة بين السطور أيما إشراق:
مرحبا بالخطوب إن هي كانت ... سببا موصلا إلينا الحقوقا
وأحب الخطوب عندي حبس ... فيه نستطيع بالكرام اللحوقا
لا أبالي إذا خدمت بلادي ... أأسيرا رأيتني أم طليقا
وبك لا أرتضي الحياة بذل ... قم فمزق إهابها تمزيقا
وأدر لي الرافدين حميا ال ... حرب صرفا، وكسر الإبريقا
إن موتا يكون في ساحة الع ... ز لموت أجدر به أن يروقا
4 - الشيخ كاظم الدجيلي شاعر عراقي، واسع الإطلاع كثير المعرفة؛ اشتغل في بغداد بالصحافة قبل الحرب العالمية الأولى. وهو يحب الرحلة والتنقل، ويميل إلى التحقيق العلمي. قد رأينا فيما قرأناه له من شعر، قوة نزوع للحياة وشدة اندفاع للحرية، وهو يعتقد بأن لا بد للحق من قوة تعضده وإلا فهو ضائع
حديثك عن غيري القوي حرام ... وسعيك في نصر الضعيف أثام
نحدث بمجد الأقوياء ففيهمو ... قعود بأحكام الورى وقيام
إذا كنت بين العالمين أخا قوي ... رعتك عيون الناس حيث تنام
حمى الغاب بأس الليث من كل طارق ... ولم ينج من فتك البزاة حمام
يقولون أن الحق من فوق قوة ... وما الحق إلا مدفع وحسام
إلى العز فاركبها معودة السري ... عليها ركوب الصاغرين حرام
ولاتك عن نيل العلاء بقاعد ... وفيك إلى نيل العلاء قيام
ولا ترض ذل الخاملين وعيشهم ... فإن حياة الخاملين حمام
5 - في يدنا للسيد أحمد الصافي النجفي - متعه الله بالصحة والعافية - ديوانان، الأمواج، وأشعة ملونة. فرأينا للصافي في هذين الديوانين نفسا كبيرة، ثائرة، نزاعة إلى مثلها العليا التي يحيا الصافي من أجلها ويموت في سبيلها؛ وهي الحق والحرية والرحمة. ونحن نعتقد بأنه مخلص لهذه المبادئ، وأنه جاد في التقرب منها مجاهد في سبيل تحقيقها. وكيف لا يكون الصافي مخلصا لهذه المبادئ وهي أهداف لأقوى غرائزه ووسائل لإشباع أعرق رغباته. وكيف لا يكون للصافي هذا المقام الرفيع في قومه، وأهدافه مشتركة بينه وبين العرب في سائر بلاد العرب، بل مشتركة بينه وبين الإنسانية كافة. واستهداف الصافي للحق والحرية والرحمة يجعله في نظرنا ليس شاعرا عربيا فحسب، بل شاعرا إنسانيا يشترك مع جميع الناس في نصرة الحق المهضوم، واسترداد الحرية المسلوبة، وإرسال الرحمة نسيما عليلا معطرا ينعش نفوس البائسين. ومع كل هذا نرى في نفسية الصافي تعقدا وفي سلوكه شذوذا. ونعتقد أن سبب هذا التعقد وهذا الشذوذ، ما قست به الطبيعة عليه من مرض وما اشتدت به البيئة عليه من فقر
الفلاح - على الإطلاق - صديق للصافي، نراه يرفق به ويتوجع له مما لحق به من أذى الظلم الاجتماعي الذي يباعد بينه وبين سعادة الحياة وهناء العيش، على رغم ما يبذل في سبيل الحياة من عرق جبين وعضلات ساعد. ولكنه لا يقف منه عند حد التوجع، بل يدفعه إلى استنكار الظلم ودفع الحيف
حتام يا هذا لسانك الكن ... وإلى م السنة الطغاة فصاح
كل الجناح على الضعيف إذا اعتدى ... أما القوي فما عليه جناح
يا ريف أن كتاب بؤسك مشكل ... يعيا بحل رموزه الشراح
أطيار روضك غالها باز العدى ... وعدا على أسماكك التمساح
الورد قد خنقته أشواك الربى ... ظلما. وفر البلبل الصداح
يا ريف مالك شرب أهلك آسن ... رنق، وشرب ولاة أمرك راح
وإذا كان الصافي صديق الفلاح في كل أرض فهو صديق الشعب في كل وطن، فاسمعه الآن يخاطب الشعب المظلوم
لا تشك للعدل ضيما واشكه لظبا ... فالعدل أصبح في الدنيا بلا أذن
لم يعطك العدل شيئا وهو ذو منن ... والسيف يعطيك ما تهوى بلا منن
لا تنتظرن أن يرد العدل عنك أذى ... فالحق في محبس القانون والسنن
ضعف الخراف دعا ذئب الفلاة لها ... فالذئب للضعف، ليت الضعف لم يكن وأسمع الصافي يصيح أبن الجرس؟؟
جرس النهضة قد دق فلم ... نتيقظ حين دق الجرس
سرق الطامع أبهى مجدنا ... ومضى يعدو فأين العسس
قد رقدنا أملا في حرس ... ولقد نمنا نام الحرس
سهروا في أول الليل ومذ ... نهض السارق يسعى، نعسوا
نسمة الإصلاح هبي نحونا ... فلقد ضاق علينا النفس
هل نرى يوما سنا حرية ... فلقد ساء علينا الفلس
وخذ هذه القطعة العامرة بقوة الكفاح والمغالية في سبيل الحياة
إن غصبت من الأسود لقمة ... فاستخرج اللقمة من فم الأسد
إن مصاعب الحياة كلها ... شديدة، لكنما الذل أشد
أحفظ كيان الجسم منك سالما ... ثم اقطع العضو، إذا العضو فسد
لا تنصبوا من فسدت نيته ... فما يرى الأشياء طرف ذو رمد
حمدي الحسيني