مجلة الرسالة/العدد 927/القصص

لعناوين أخرى، أنظر في المقبرة (تشيخوف)

مجلة الرسالة/العدد 927/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 04 - 1951



بين المقابر

للقصصي الروسي تشيكوف

بقلم الأستاذ حسين أحمد أمين

(الريح تعصف، والظلام يزحف علينا. . أليس من الأفضل أن نعود؟)

كانت العاصفة تنساب بين الأشجار الطويلة القديمة عابثة بأوراقها الصفراء المتهالكة، وكان البرد يتساقط بغزارة على جماعتنا. . فإذا بواحد منا ينزلق على الأرض الموحلة فيمسك بصليب كبير يمنعه من السقوط. .

وبدأ الرجل يقرأ ما كتب على الصليب: (أيجور جريا سنورا كوف. . فارس ومستشار خاص. . أنني اعرف هذا الرجل لقد كان يحب زوجته. . ولم يقرأ في حياته كتابا واحدا وكان حسن الهضم وحياته جديرة بأن تعاش. . إنه لم يكن في حاجة إلى أن يموت. . غير أنه - ويا للأسف - مات ضحية لعبقريته وحبه للملاحظة والمراقبة، فبينما كان ينصت من ثقب الباب ذات مرة إذا برأسه يصطدم صدمة عنيفة مات بسبها. . فتحت هذا الصليب يرقد رجل كان يكره الشعر منذ أن كان في المهد. .

أرى شخصا قادما نحونا. .)

وتقدم منا رجل حليق الوجه في معطف قديم وتحت إبطه زجاجة من الفودكا وفى جيبه ربطة من السجق

وسألنا في صوت أجش (أين قبر موشكين، الممثل؟)

وقدناه إلى القبر وكان موشكين قد مات منذ عامين. . وسألناه: هل أنت موظف حكومي؟

- (كلا أنني ممثل وإنه لمن الصعب في أيامنا هذه أن نميز الممثل من الموظف الحكومي. . هذا شيء غريب وهو بلا شك لا يشرف الموظفين. .) كان قبر موشكين مختلفا عن سائر القبور وكانت الأعشاب تغطيه وعلى سطحه صليب صغير رخيص الثمن قد أتلفه الثلج وقرأنا على الصليب: الصديق المنسي. . موشكين. . وكانت الكتابة غير واضحة لتقادم الزمن عليها.

وتمتم الرجل وهو ينحني على الأرض فتلمس ركبتاه الطين المبلل: (لقد جمع الممثلون والصحفيون مالا لكي يقيموا له نصبا تذكاريا. . فإذا بهم بعد ذلك يبتلعونه)

(ماذا تعنى بقولك أبتلعوه؟)

(أعنى أنهم جمعوا المال لأقامة النصب ثم دسوا المال في جيوبهم. أنني لا أقول ذلك لائما لهم بل مقررا لحقيقة واقعة. . والآن سأشرب نخب صحتكم ونخب ذكراه الخالدة. .)

(إن الصحة لن تأتينا بشربك نخبها. . . والذكرى الخالدة أمر محزن. . لتكن الذكرى مؤقتة دائما فهذا خير للبشر. .)

(هذا حق. . لقد كان موشكين رجلا شهيرا. . وقد حمل الناس خلف نعشه عشرات من الأكاليل. . ومع ذلك فقد طواه النسيان في مدى عامين. . لقد نسيه من أحبوه. . أما من أساء إليهم فما زالوا له من الذاكرين إنني لن أنساه ما حييت. . أبدا، أبدا، لأنني ما تلقيت منه سوى الإساءة. . أنني لا أحبه. .)

(كيف أساء إليك؟)

تنهد الممثل وقد بدت على وجهه المرارة والألم: (إساءة كبرى. . لقد كان الرجل - طيب الله ثراه - وغدا لصا فبالنظر إليه والاستماع له أصبحت ممثلا. . وبفنه أغواني فتركت بيتي إلى الأبد وقد غرني المجد الفني. . وعدني بالكثير ولم يمنحني سوى الحسرة والدموع. . هكذا المصير الكئيب الذي ينتظر الممثل. . لقد فقدت كل شاء الشباب والعاطفة وشبهي بالآلهة وليس الآن في جيبي مليم واحد. وحذائي بال وملابسي ممزقة. . لقد سلبني الإيمان. . هذا اللص. . ومنحني التفكير الحر والحماقة دون أن يكون لدى أية موهبة. . إن الجو أيها السادة فهلا شاركتموني في الشراب؟ إن الزجاجة ما يكفينا جميعا. . فلنشرب نخب رقود روحه في سلام، أنني لا أحبه. . إنه الآن ميت. . ومع ذلك فلم يكن غيره في هذه الحياة. . وكان لي كأحد أصابعي. هذه هي آخر مرة أراه فيها فأطباء يقولون أنى سأموت قريبا لفرط الشراب. . وقد أتيت هنا لأودعه وأقرئه السلام والعفو عن أعدائنا واجب علينا

وتركنا الممثل ليتحدث إلى موشكين وسرنا وفى الجو رذاذ منعش. . . وعندما بلغنا الطريق العام جنازة تمر بنا وقد حمل النعش أربعة يلبسون أحزمة بيضاء وأحذية قذرة. .

وكانوا يسرعون في الظلام وهم يتعثرون في مشيتهم. . .

(لقد مكثنا هنا ساعتين فقط أدخلوا خلالهما ثلاث جثث إلى المقبرة. .

حسين أحمد أمين