مجلة الرسالة/العدد 930/القصص

مجلة الرسالة/العدد 930/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 04 - 1951



قانصوه الغورى

سلطان مصر الشهيد

للأستاذ محمود رزق سليم

مهداة إلى حضرة صاحب العزة الدكتور عبد الوهاب بك عزام

قانصوه الغورى أحد سلاطين مصر في العصر المملوكي، ولي عرشها زهاء ستة عشر عاما بين سنتي 906هـ، 922هـ. وكان يوم ولايته كبير السن متأبيا على السلطنة.

وامتلأت أيامه بالحوادث الكبرى في داخل البلاد وخارجها.

وفي أثنائها بلغ نشاط العثمانيين مبلغا عظيما، واتسعت أطماعهم حتى تطلعوا إلى امتلاك البلاد الشامية والمصرية. وقد خرج هذا السلطان الكبير للقائهم بنفسه، ومعه حملة عظيمة الشان. فاستشهد في سبيل بلاده

ويرى القراء الكرام فيما يلي، وتحت العنوان المتقدم، تاريخ هذا السلطان الشهيد، وتاريخ مصر في أيام حكمه.

نقدمه إليهم في أسلوب قصصي فيه تمثيل وحوار يلطفان من خشونة العرض العلمي السافر. وقد جهدنا ما استطعنا في تصوير نزاعات عصره من دينية أو سياسية أو اجتماعية أو أدبية أو علمية، على مقدار ما تحتمله قصة صغيرة.

ولم يلهنا خيال القصة عن تحري وجه الصواب في حقائق التاريخ. ولعلنا بذلك نقدم عملا متواضعا، يسفر منه تاريخ بلادنا العزيزة في حقبة من أهم حقبة

يوم التولية:

ثار المعسكر في وجه سلطان البلاد الملك العادل في آخر يوم من أيام رمضان عام 906هـ، حتى اضطر إلى الاختفاء. فسرى الخبر هما بين القاهرين، أن بيعة سلطان جديد ستتم الليلة، إذ يجتمع الأمراء للمشاورة والاختيار. ومن ثم يقومون برسوم التولية في صباح الغد، أول يوم من أيام عيد الفطر.

وما كان أحب مجالس البيعة وأخبارها عند القاهرين، وما كان أبهج حفلات التولية ومواكبها لديهم.

لذلك، ما بزغت شمس الاثنين مستهل شوال، حتى بكر كثير من أهل القاهرة في اليقظة، وأخذوا يعدون العدة لييمموا شطر القلعة، حيث تجري البيعة ويسير موكب السلطان ليمتعوا العين بمرأى هذا السلطان الجديد، وليتبينوه من هو؛ ومن يكون. . . ذلك لأنهم لم يكن لهم من أمر اختيار سلطانهم شيء. . واستبد بالأمر دونهم أمراء السلطنة الجراكسة، واستأثروا بالحكم فيهم، وقصروا على أنفسهم مسئولية اختيار السلطان. درج الشعب على هذا النظام، واستنام إليه، إن طوعا وإن كرها، تلك الحقبة الطويلة من الزمان.

وما هو إلا قليل، حتى امتلأت الطرقات بالوافدين عليها من كل حدب وصوب. واكتظت الميادين بقصادها، واختلطت الجموع بالجموع، وتراصت الصفوف خلف الصفوف، في أزياء فضفاضة، ذات أشكال متعددة، وألوان متباينة.

وأخذ النسوة والعذارى يطرقن الطرق، أو يذرعن المسالك في حللهن البهية، وأثوابهن الطلية. وتوارى بعضهن خلف الكوى والشرفات، يشرفن على الجمع من كثب، ويسترقن السمع والنظر، وتتنقل عيونهن بين الفرج، ليتمتعن كما يتمتع سائر الناس، بما ضرب من زينة عجلة، وما أشيع من حفاوة مرتجلة، أمر بإقامتها التجار والصناع وأصحاب الحوانيت وملاك المنازل وسكانها، هنا وهناك.

وبالقاهرين ومن حولهم من سكان الضواحي، شعور خفي يحفزهم إلى تعجل المسرة، واستدرار اللهو، واقتناص المتعة كلما سنحت فرصة لذلك، أو وجدوا إليه سبيلا. ولذلك عجلوا إلى تلك الزينات السريعة، ريثما يتم أمر التولية، استعدادا للقاء موكب السلطان. لعلهم بتلك المسرة المقتنصة يأسون جراح دهرهم العاسف، أو يطبون حظهم السقيم.

ومهما يكن من شيء فهم على الأقل يودعون سلطانا بادت دولته وذهبت صولته، ويستقبلون آخر أشرقت أيامه وأهلت لياليه. لعل لهم في ظله ما يحقق لهم آمالا جميلة، طالما غمرتهم أطيافها الحسناء في أحلام يقظتهم، ولم يتحقق منها أمل في العصر البائد.

على أنك ترى مرارة الحياة بادية على أحاديثهم، واضحة في محياهم، يغشيها ستار رقيق من الأمل الحالي، والرجاء المعسول. وهم ينفثونها أحيانا في نقدة لاذعة، أو يضمنونها فكاهة مرة، أو تورية بارعة.

لهذا يهرعون إلى الزينات - في مثل هذه المناسبة - فيضربونها، وإلى الرايات فينصبونها.

أنظر إذا إلى الحوانيت ووجوهها، والمنازل وجبهاتها، والمسالك وجوانبها، في أحياء القلعة وما حولها، تر قطع الأقمشة من كل لون زاه، قد تألفت طوائفها، وتألقت طرائفها، والثريات الزيتية منشورة، زينة للنهار الحاشد المنتظر، وعدة لليل الحافل المرتقب. والشعب مجتمع شمله، ملتئمة صفوفه، يسود بين أفراده لغط وضجيج، وهمس وعجيج. بين أقاويل متشعبة، فيها الصدق والكذب، وفيها الحق والباطل، وفيها العدل والجور. وهم ما بين لهج لاه بما هو فيه من نشوة وسرور، سباق إلى اقتناص فرصته وبلوغ غايته، ومتحدث رزين يرسل الحديث في روية وبطء، كأنما يقرأ في سطور الحاضر مخبآت المستقبل، وناقد يمتزج في نفسه وحديثه، النقد السطحي العابر، بالرغبة الواهمة في أن يأخذ من البهجة الماثلة بنصيب؛ وناقد آخر لاذع في نقده، جرئ في لفتاته، شجاع في ملاحظاته.

وبين هذه الجموع الضاجة وقف صديقان يسترقان النقاش، وقد علا وجهيهما الجد، واختلفا طربا وصخبا، وخفة ولجاجة. وتقاتلا شعورا ورأيا؛ واستطردا إلى أشياء في الماضي، وأمور في الحاضر، وآمال في المستقبل.

قال أحدهما لزميله:

- لله ما أبهى اليوم، وما أجمل الساعة! هاهم أولاء المماليك السلطانية قد انتشروا في الطريق وهم شاكو السلاح، ليعصموا اليوم من الفوضى، ويشيعوا في الموكب النظام.

- أعلمت لهؤلاء نظاما؟ أو نسيت عبث الجلبان والقرانصة، وما بين الفريقين من عداوة وشحناء. إن هؤلاء وهم جنود الدولة، مبعث الفوضى، ومصدر السوء، ومثار الفساد. . . هم عباد المال والشهوات. يبذلون للسلطان الطاعة والولاء، ما دامت يداه تفيضان عليهم تبرا وذهبا وهاجا. ويفرق فوقهم شتى منحه وعطاياه، ويفرق عليهم ما لذ من الطعام، وما ثمن من الثياب، وما فره من الخيل، مزودة بما تحتاج إليه من أغذية وأردية. ثم يتنكرون له، ويلبسون جلد النمر، إذا تراخى في عطائه، أو ازورت عنهم دراهمه ودنانيره، أو بدا لهم في أفق السلطنة مانح جديد.

ألم تشهد كيف غدروا بالملك العادل أمس؟ وكيف خاسوا بعهده؟ وكيف كادوا يبطشون به لولا فراره واختفاؤه! إنهم بذلك يمهدون السبيل لأمير آخر من أمراائهم، يسلمونه زمام السلطنة، لقاء ما ينالونه على يديه من حظ جديد! ثم ليتهم يستقيمون في تأييدهم حتى تتم بيعة السلطان المختار بغير شغب أو نزاع. . . لقد بلغني أمس أن الأمراء اجتمعوا للتشاور في منزل الأتابكي قانصوه خمسمائة، الذي لم يظهر من يوم اختفائه. وهذا المنزل في قناطر السباع. وفي مقدمة الأمراء المتشاورين، الأمير قبيت الرجي، وقانصوه الغوري، وطراباي، ومصرباي، ثم انضم إليهم أخيرا الأتابكي تانى بك الجمالي الذي اختفى من وجه الملك العادل، خوفا من أن يفتك به. فظهر أخيرا عندما سنحت له فرصة الظهور، وانضم إلى الأمراء المتشاورين.

واعتقادي أنه ما من أمير من هؤلاء إلا وهو يخطب السلطنة لنفسه، ومن ورائه فئة من الجنود يؤيدونه. . . ومع ذلك قيل إنه تم اختيار تاني بك الجمالي للسلطنة، ثم سرعان ما غدر به الجند، ولم يرضوا بسلطنته، فرجع الأمراء عن ترشيحه لها. وهكذا أفلت من يديه زمامها، قبل أن تتم رسومها.

واليوم تتردد الإشاعات أنها ستكون من نصيب الأمير قانصوه الغوري. . وهو على كل حال، أمير طيب القلب بلغ من العمر ستين عاما. ومع ذلك لا يزال فتى النفس، لم يبد في شعر لحيته بياض مشيب.

لكن! أرأيت إلى أي حد يعبث هؤلاء المماليك بمصير مصر وشعبها، بينما الشعب يغط في نوم عميق؟ لقد بلغني منذ قليل أن عددا من أشرار المماليك الجلبان انتهز فرصة عيد الفطر اليوم، وانصراف الناس إلى الراحة والاستجمام،! أو التفرج بالزينة والموكب، وعاثوا في أسواق القاهرة فسادا، وأحرقوا بعض الدور، ونهبوا ما فيها. فهل ترجو من أمثال هؤلاء نظاما أو إصلاحا؟

- صدقت في حديثك. . . ولكنهم - على أية حال - دعامة الدولة وسند السلطان. وهم حقا ضريبة من ضرائب الإهمال يفرضها الزمان علينا. غير أننا لا ننسى أنهم دفعوا العدو عن بلادنا زمنا طويلا. وحسبك ما مر من عشرات السنين كان للفرنجة في بلادنا مآرب لا تنقضي، وكان للتتار مآرب أخرى. فوقف لهم هؤلاء الأبطال، وأوقعوا بهم في مواقع عدة.

ففروا إلى حيث أتوا، مزودين بالهزيمة والاندحار.

- نعم! ولكن لنا القشر ولهم اللباب. لعلك نسيت مسلكهم الشائن معنا نحن أهل القاهرة. إنهم كانوا - وما زالوا - يهتكون فينا ويسلبون منا. ثم هم إنما يمثلون الفتن والقلاقل والدماء المسفوكة، والأشلاء المتطايرة والسجن والتشريد. . .

إن حياتهم ملأى بكل هذا العذاب، ما بين سيد فيهم ومسود، وظالم منهم ومظلوم، وحاقد بينهم ومحقود عليه. . . هذه هي سياستهم وسياسة أمرائهم وكبرائهم. . . ألا تعسا لحياة تمتلئ بكل هذا الشقاء. .!

- ليست هذه الحالة دائمة بينهم، وكأنني أراك تقرأ تاريخهم من حاضرهم فحسب. . لعلك من أولئك الذين وهب لهم حس مرهف ونفس مستوفزة، تطن فيها الأحداث الحاضرة، حتى تملأ أذنيها. فلا تسمع بعد أي صوت من أصوات الماضي. . .

لقد كان الجنود المماليك في عصر المنصور قلاوون يعيشون على خير نظام وفي أجمل هندام. فقد وضع لهم هذا السلطان العظيم قواعد للتربية قويمة، وأخذهم بها دون لين أو هوادة أو مهادنة. فرباهم في طباق القلعة وأبراجها. ووكل أمرهم إلى الحذاق من الزمامين. وفرض عليهم التمرينات العسكرية والرياضية القاسية، وعنى بطعامهم وشرابهم ولباسهم. وكان يشرف على كل أولئك بنفسه، فشبوا رجال خلق كريم، ونفس قوية، ودين سليم. ولم يكن يسمح لهم بالاختلاط بغيرهم من الطوائف حفظا لهم من عدوى الأخلاق.

- حقا لقد رباهم المنصور تربية محمودة، ونشأهم تنشئة حسنة، ولكن سرعان ما عدل السلاطين من بعده عن نهجه، واتباع سبيله، ففتر هذا النظام وقلت تلك العناية، وفرط السلاطين في إعدادهم، حتى أصبحوا من بعد، وليس لهم نظام متسق، ولا تربية محمودة، ولا خلق كريم، ولا نفس طيبة، حتى صاروا: (أرذل الناس وأدنأهم، وأخسهم قدرا، وأشحهم نفسا، وأجهلهم بأمر الدنيا، وأكثرهم إعراض عن الدين. ما فيهم إلا من هو أزنى من قرد، وألص من فأرة، وأفسد من ذئب.)

- إنك متجن عليهم أيها الصديق! ألا تدري أنهم لنا حمى، ولحياتنا مجن؟ إننا ننعم بسلام في بيوتنا، وأمن في سربنا، على حساب ما يبذله هؤلاء الشجعان من أرواح. حقا يسرف أمراؤهم وسلاطينهم في فرض الضرائب على الشعب، ويثقلون كاهله بالنفقات إزاء خدماتهم. ولكنهم إزاء ذلك أراحونا من شر القتال، وأخذوا على عاتقهم حمايتنا من شرور الأعداء.

ثم ما بالك تذكر سيئات أشرارهم وهنات صغارهم، وتنسى حسنات أخيارهم، ومحامد كبارهم؟ إن كثيرا من سلاطينهم وأمرائهم ينقادون للدين، وينطوون تحت أحكامه، ويعظمون أهله، وينشئون المساجد للعبادة، والمدارس للتعليم، ويدرون أخلاف الخير وضروع البر على المحتاجين من طلاب العلم وغيرهم. وذلك كله جدير بأن يطلق الألسنة لهم بالدعاء والثناء.

- إنك يا صاح انحدرت من حديث الرجال إلى أسلوب النساء. . .! ففي معانيك الضعف والضعة، وفي أفكارك الخور والجبن! حسبك عارا أنك تذكر حمايتهم لك من الأعداء. . . وفي الحق أنهم يحمون أنفسهم لا يحمونك أنت، ويدفعون عن ملكهم لا يدفعون عنك أنت. ولننزل على منطقك ونقول إنهم يحمونك. . . ولكن أتدري كيف ذلك، ولماذا؟. إنهم يحمونك كما يحمي الراعي بقرته خوفا على لبنها أن يتضب، وحرصا على جسدها أن يخور ويبلى. وهم قبل ذلك وبعد ذلك، سادتك! لا تقعد منهم إلا مقعد العبد. . . فهل بعد ذلك ذلة للرجال؟ اطلب إليهم أن يتركوا لك حماية نفسك بنفسك. فهل تراهم يجيبونك إلى سؤالك؟ ويجيزون لك أن تحمل السلاح وأن تنخرط في الجيش؟. كلا! وكأنما الجندية هبة اختصهم الله بها دون سائر أفراد الشعب وكأنما الروح العسكرية الحمية الوطنية وقف عليهم، وصفة ما خلقت إلا فيهم، ونزعة ما عرفت إلا لهم. أما أنت وأمثالك فلا تصلحون - في نظرهم - للكر، وإنما تصلحون للحلاب والصر. . . لقد حرمونا دخول الجيش، وحرموه علينا، ولم يتصلوا بنا إلا اتصال السيد بالمسود. وكفى بذلك هوانا. . . فأية عزة ترقبها لبلادك على يد هؤلاء الغرباء المماليك المستبدين الذين لم تجمعهم بالبلاد جامعة جنس ولا نسب ولا لغة ولا ألفة ولا عطف. . ثم هم لا يجمع بعضهم ببعض إلا أخوة في رق، أو اتفاق في ضغينة، أو ائتلاف في فتنة، أو التماس لمكيدة، أو ائتمار على غدر. . . أغلب ظني أن ما بناه أسلافهم من عز وسؤدد، سيهدمه هؤلاء الجلبان وهؤلاء القرانصة، ومن لف لفهم من هذا الخليط الدنس من أوشاب الأمم الذي تعج به بلادنا المنكودة. ألا تبالهم وقبحا وسحقا.! أما ما تنشدق به من مساجد ودور تعليم فحسبي أن أقول لك إنهم يبذلون في سبيل ذلك، على أنه منحة منهم للشعب وصدقة عليه، لا على أنه حق للشعب قبلهم يؤدونه إليه. . .

ألا دعنا من هرائك وسفسطتك! وقل لي كم رجلا في بلادنا يغار عليها غيرتك، ويخلص لها مثل إخلاصك؟ وكم فتى من فتيانها يحدب عليها كل هذا الحدب، وتتقطع نفسه عليها أسى، وتذهب حسرات، كما تتقطع نفسك وتذهب؟ وكم قلب بين قلوب بنيها يفيض عليها إشفاقا كما يفيض قلبك؟

لشد ما أتألم لأجلك. . لما لك من إحساس مرهف ونفس شاعرة!

اترك المستقبل لأهله، فليس علينا حمل أعبائه وهمومه. وحسبنا ما نحن فيه من حاضر فعم بحوادثه وآلامه. . . ولنخفف عن النفس أحزانها بما نراه من بهجة وزينة. . . انس ما في طواياك من هم. ولمسرح ببصرك في محاسن هذا اليوم، واقبس ما تشاء وتشتهي من مفاتنه. ثم إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده. .

انظر إلى أثواب الجند الزاهية الألاقة، وإلى وجوه الناس الباسمة المشرقة، وإلى الحسان الفاتنات يرحن ويغدون في حللهن الأنيقة البراقة. وإلى الأطفال الذاهلين من عيد الفطر، فقد غمرهم عيد التولية بموجة من موجات فرحه، ألا تخبرني من سيكون السلطان؟ ومن سينال شرف السلطنة اليوم؟.

واألماه! تدعوني إلى أن أنسى المستقبل، ولا أفكر فيه. . ألا تعلم أن الدعوة إلى إهمال المستقبل وترك الاهتمام بمصير البلاد هي الأنشودة البائسة الحزينة، التي ترتلها الأمة المنكوبة الخائرة كلما أحست بضعفها. . وأرادت أن تتلهى عنه وتخدع نفسها. . لو اهتم بأمرنا من سبقنا من الآباء والأجداد لاعتدلت لنا ريح حاضرنا ونعمنا فيه بشيء من صفو الحياة. وما دام كل جيل يسلم إلى الأقدار مستقبل بلاده، ويهمله، فستتلقفه الأحداث والغير، وتلقيه بين يدي مستبد، وإلى كف طاغية، وتتنقل به من بؤس، إلى بؤس، حتى تتقلب أجيالا في شقاء الحرمان أمدا طويلا. . .

أما سلطان اليوم فأظنه قانصوه الغوري - كما تردد الألسنة - لقد رشحه للسلطنة، كما ذكرت لك، كبر سنه، وطي نفسه وعيوفه عن السلطنة. . . وهذه وسيلة باعة من وسائل اقتناصها. . . قد قيل إنه رفضها وأباها. ولو ظهر أمس الأتابكي قانصوه خمسمائة، من اختفائه؛ لكانت السلطنة من نصيبه ولولا فساد قلوب الجند على الأتابكي ثاني بك الجمالي، لظفر بها أمس وتمت بيعته. . .

ألا قبح الله الملك العادل السفاك! من غريب ما يروى عنه أن المنجمين أخبروه أن السلطنة يسلبها منه أمير يبدأ اسمه بحرف (ق) فظنه صديقه (قصروه) فبطش به وقتله ظلما، بعد أن أبلى قصروه البلاد الحسن في معاونته على الحصول إلى السلطنة. . ولم يحسب العادل حسابا لقاف أخرى تبدو في الأفق. ولله! ما أكثر القافات في بلدنا. .!

انقطع الجدل بين الصديقين على إثر موجة جارفة من الضجيج تنتشر باقتراب موكب السلطان.

بدت طلائع الموكب. وكان الأمراء منذ قليل يشتورون في الحراقة بباب السلسلة بالقلعة. فتم رأيهم على اختيار الأمير قانصوه الغوري سلطانا على البلاد بعد فرار الملك العادل وإعلان خلعه.

ولقد تعصب للغوري الأميران: قيت الرجبي، ومصرباي. فبكى الغوري وأبى قبول السلطنة معتذرا بكبر سنه. فاستلانوه إليها بشتى وسائل خداعهم، حتى رضى بها مشفقا منها. وقد أتموا له البيعة، فبايعه الخليفة ووكل إليه - كالمعتاد - أمور السلطنة ثم بايعه القضاة. ولقب بالملك الأشرف. فذاع لقبه بين الجموع الحاشدة، وهيئوا ركبه ليسير من الحراقة إلى باب السر بالقصر الكبير، حيث يقدم له الأمراء واجب الطاعة والولاء.

لبس الغوري شعار السلطنة - ملابسها الرسمية - وهي جبة وعمامة سوداء. وامتطى صهوة فرس مسرج بالذهب. وأخذ في المسير تتقدمه شراذم من الجند في أزيائهم الرسمية وأسلحتهم المجلوة، وتقدم الأمير قيت الرجبي، وحمل بنفسه شعارا آخر للسلطنة، تبجيلا للسلطان وتعظيما لشأنه. ويتألف هذا الشعار من قبة من حرير ثمين تنشر فوق رأس السلطان وقت المسير، كأنها مظلة. وفوقها طائر من الذهب. وركب إلى يمين السلطان، خليفة العصر، وهو المستمسك بالله يعقوب العباسي، وبين يديهم الأمراء يسيرون بشاشهم وقماشهم - أزيائهم الرسمية - في ألوان زاهية وفوق جياد محلاة.

وبدت طلعة السلطان لشعبه، فدوى صوته هاتفا (نصر الله السلطان الأشرف)، (أعز الله الإسلام) وانطلقت من خلف الكوى وصوب الطيقان زغاريد النسوة تشق أطباق الفضاء، فرحة مستبشرة تؤذن بطلوع عهد جديد. . .

وكان الشعب يلمح بفراسته الساذجة الصادقة على محيا السلطان الجديد، جملة من المعاني المتشادة المتمازجة، فيها الشعور وفيها الإشفاق من المستقبل وما يخبئ من مفاجآت في طياته. وفيها عزيمة حادة جادة وتصميم على المجاهدة والمجالدة، والعمل على رفاهة مصر وشعبها، وإعلاء شأنها عند غيرها من الأمم، والمحافظة على نفوذها الأدبي والسياسي، كل ذلك تغشيه موجة من الفرح العابر، لا تكاد تستر من معالمه شيئا، ولا تخفى من آياته قليلا.

كان أفراد من المشاهدين يرقبون هذه المظاهر، ويلمحون هذه المعاني، فيفاجئ بعضهم بعضا بما يفطن إليه منها. ثم انثنوا بين مثن وناقد. على أن الحوادث كانت تمر بهم ولا أثر لهم في مسلكها، بيد أنها لا تتركهم إلا بمرارة لاذعة تتوطن النفوس وتقتعد غوارب القلوب، وهم لا يملكون لوقعها تخفيفا.

استقر ركب السلطان الغوري بالقلعة، فجلس على سرير الملك، وقبل الأمراء الأرض بين يديه. فأفاض عليهم خلعه ومنحه، من أقمشة نفيسة وأردية غالية، ومناصب سامية. وكلما أفاض على أحدهم شيئا، جأر له بالدعاء. وانصرف حامدا إلى داره في موكب حافل.

تتابعت على هذا النسق مواكب الخليفة والأمراء. وكانت مجالا لمسرة الناس وابتهاجهم. ونودي للسلطان في أرجاء القاهرة، فأقامت المدينة بقية نهارها وعامة ليلها في مرح ساهر وزينة حافلة. وكأن اليوم فيه عيدان لا عيد واحد.

محمود رزق سليم