مجلة الرسالة/العدد 930/في الحديث المحمدي

مجلة الرسالة/العدد 930/في الحديث المحمدي

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 04 - 1951



للأستاذ محمود أبو رية

تشديد الصحابة في قبول الأخبار:

كان الخلفاء الراشدون وكبار الصحابة وأهل الفتيا منهم يتقون - كما علمت - كثرة الحديث عن النبي (ص) بل كانوا يرغبون عن رواية أحاديثه، إذ كانوا يعلمون أن النبي (ص) قد نهى عن كتابة حديثه وأنهم لا يستطيعون أن يؤدوا كل ما سمعوه عن النبي على وجهه الصحيح، لأن الذاكرة لا يمكن أن تضبط كل ما تسمع، ولا تستطيع أن تحافظ على ما يبقى منه فيها على أصله، - مهما تحرى الإنسان الضبط - وأنهم إذا حدثوا بما سمعوا على وجهه، وكانت الذاكرة قد أمسكته وحافظت عليه كما هو، لم يأمنوا من يسمع منهم أن يغير فيما سمعه بالزيادة أو النقص، أو الغلط أو التبديل أو التحريف، إما لعدم ضبط الذاكرة أو لسوء الفهم أو لغير ذلك، وهم بما حملوا من أصول الدين وفروعه كاملا عن رسول الله ما كانوا ليرضوا بما رضى به بعضهم ومن جاء بعدهم من التابعين وتابعيهم من (رواية الحديث بالمعنى) لأنهم كانوا يعلمون أن تغيير اللفظ قد يغير المعنى، وأحاديث الرسول ليست كأحاديث غيره، وإنما هي أحكام أو بيان للأحكام. والحكم - وبخاصة في الحلال والحرام إنما يكون بنص قاطع وخبر متوارد قد جاء على حقيقته بلفظه ومعناه.

وقد بلغ من تحرجهم في رواية الحديث أنهم كانوا يتشددون في قبول الرواية من إخوانهم في الصحبة مهما بلغت درجاتهم، ويحتاطون في ذلك أشد الاحتياط، حتى كان أبو بكر لا يقبل من أحد حديثا إلا بشهادة على انه سمعه من الرسول (ص) وقد وضع بعمله هذا - أول شروط علم الرواية - وهو شرط الإسناد الصحيح، قال الذهبي في ترجمته (إنه أول من احتاط في قبول الأخبار).

روى ابن شهاب عن قبيصة أن الجدة جاءت أبا بكر تلتمس أن تورث فقال: ما أجد لك في كتاب الله شيئا، وما علمت أن رسول الله ذكر لك شيئا؛ ثم سأل الناس. فقام المغيرة فقال: كان رسول الله يعطيهم السدس. فقال: هل معك أحد يشهد! فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك فأنفذه لها أبو بكر. هذا هو عمل أبي بكر، أما عمر فقد كان أشد من ذلك احتياطا وتثبتا.

قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (وكان عمر شديدا على من أكثر الرواية أو أتى بخبر في الحكم لا شاهد له عليه، وكان يأمرهم بأن يقلّوا الرواية يريد بذلك أن لا يتسع الناس فيها ويدخلها الشوب ويقع التدليس والكذب في المنافق والفاجر والأعرابي).

وقال الذهبي في طبقات الحفاظ في ترجمته:

(وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل وربما كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب)

وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور! فقال استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت! قال (عمر) ما منعك؟ قلت استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت! وقال رسول الله (إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع. فقال: والله لتقيمن عليه بينة - زاد مسلم - وإلا أرجعتك - وفي رواية ثالثة فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتيني بمن يشهد لك على هذا! أمنكم أحد سمعه من النبي؟ فقال أبي ابن كعب والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم. فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي قال ذلك، فانظر كيف عمر تشدد في أمر ليس فيه حلال ولا حرام، وقدر ماذا يكون الأمر لو كان الحديث في حلال أو حرام! أو في أي شيء في أصول الدين أو فروعه.

وقد استند إلى هذه القضية من يقولون: إن عمر كان لا يقبل خبر الواحد، واستدل بها من قال: إن خبر العدل بمفرده لا يقبل حتى ينضم إليه غيره - كما في الشهادة.

وقال ابن بطال: يؤخذ منه التثبت في خبر الواحد لما يجوز عليه في السهو وغيره.

وقد رأيت من قبل ما فعله عمر مع أبي هريرة وغيره. ولم تكثر أحاديث أبي هريرة إلا بعد وفاة عمر، فقد روي عن أبي سلمة عن أبي هريرة - وقلت له - أكنت تحدث - في زمان عمر هكذا؟ قال:

لو كنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته، وفي رواية: إني لأحدث أحاديث لو تكلمت بها في زمان عمر - أو عند عمر - لشج رأسي!

وعن أبي سلمة سمعت أبا هريرة يقول: ما كنا نستطيع أن نقول قال رسول الله، حتى قبض عمر.

وعن الزهري: أن أبا هريرة كان يقول: أفكنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي! أما والله إذا لأيقنت أن المخفقة ستباشر ظهري، فإن عمر كان يقول: اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله.

ولهذا لما بعث أبا موسى إلى العراق قال له:

إنك تأتي قوما لهم في مساجدهم دوي بالقرآن كدوي النحل فدعهم على ما هم عليه ولا تشغلهم بالأحاديث وأنا شريكك في ذلك.

ولم يتمكن أبو هريرة من الاتساع في الرواية إلا لأن الخلفاء الذين جاءوا بعد عمر لم يتشددوا كما تشدد عمر، ومن ثم استفاضت الرواية وتوسع الناس فيها، ودخلها ما دخلها مما لا تزال - ولن تزال - باقية باستمساك الحشوية بها.

المنصورة

(للكلام صلة)

محمود أبو رية