مجلة الرسالة/العدد 931/بريطانيا العظمى

مجلة الرسالة/العدد 931/بريطانيا العظمى

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 05 - 1951



للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

سودي يا بريطانيا ... وأحكي

هذا هو نشيد القوم وحداؤهم، ولكنه ليس هتافا تردده الألسنة والحناجر، وتقعد عن تحقيقه الهمم والعزائم، وإنما هو دينهم الذي ارتضوه، ومذهبهم الذي اعتنقوه، يقدمون أرواحهم فداء له، ويستعذبون الردى في سبيله، ولا عجب فإنهم يقولون (إذا ذهبنا فإنجلترا باقية

وبريطانيا التي أحدثك اليوم عنها أيها الصديق الكريم هي سيدة البحار، وحاملة لواء الاستعمار، زعيمة الديمقراطية، و (دينامو) السياسة الدولية، وهي تجثم على صدر العالم وتتحكم فيه، ولعلك تلمس في جميع المشاكل القائمة الأصابع البريطانية

ومن واجبنا نحن الشرقيين أن نعرف مواطن الضعف في أنفسنا فنعمل على إزالتها، يدفعنا إلى ذلك عاملان: أولهما حبنا لأوطاننا ولحرياتنا، ونحن إذ نفعل ذلك لا نبغي إثما ولا عدوانا؛ وإنما نريد أن نعيش أحرارا كراما. . وثانيهما أن ديننا يأمرنا بذلك، فهو يطلب إلينا أن نكون أعزة في بلادنا، وقد وعد الله المجاهدين منا إحدى الحسنيين، فإما نصر في الدنيا وعزة وكرامة، وإما استشهاد وقد كرم الله الشهداء حيث قال (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) ووعدهم جنات تجري من تحتها الأنهار. . لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما

وعندي أنه لكي تحقق الأمة آمالها وأهدافها لا بد لها من أمرين: أولهما إيمانها بقضيتها، ذلك أنه لا انتصار لأمة لا تؤمن بحقوقها ويختلف أفرادها في حقيقة مطالبها، فإن هذا الخلاف يستغله الغاضب الأجنبي لإيقاع الفرقة في صفوف أبنائها مما يؤدي إلى انحلالها، وهذه السياسة هي ما اتفق على تسميته بسياسة (فرق تسد)

والأمر الثاني أن تعمل الأمة على إعداد أفراد شعبها من الناحيتين الروحية والعسكرية: فالجندي الذي لا يؤمن بالقضية التي يحارب من أجلها يكون قلبه هواء؛ وسرعان ما يولي الأدبار حين ينزل في ساحة الوغى والقتال. وكذلك ليس من العدل أن نرسل الأفراد العزل، إلى ميادين النزال حيث تلتهمهم المدافع والقنابل

إذا تحقق هذان الأمران، وعرف كل فرد من أفراد الأمة قضية بلاده وحقوقه المهضومة، وعمل على استخلاصها من يد الممثل الأجنبي، فتأكد يا صديقي أن أمة هذا شأنها لا بد واصلة إلى تحقيق أهدافها وغاياتها

واجب علينا إذن أن نعرف مواطن الضعف في أنفسنا فنقومها؛ وواجب علينا أيضا أن نعرف مواطن القوة في غيرنا فنعمل على الأخذ بأسبابها في بلادنا؛ وبريطانيا هي المحرك الأول لسياسة الدنيا في هذا العصر، ولعل من الخير لنا أن نحاول فهم الأسباب الرئيسية لقوتها وعظمتها

الأسد البريطاني:

حاول أيها الصديق الكريم أن تنظر إلى خريطة سياسية للدنيا، وسيسترعي انتباهك حتما سعة أملاك بريطانيا مما جعل البريطانيون على حق فيما يذهبون إليه من (أن أملاكهم لا تغرب الشمس عنها أبدا). ويذكرنا ذلك باتساع الإمبراطورية الإسلامية في عصرها الزاهر مما دفع الخليفة هارون الرشيد أن يخاطب سحابة كانت تمر به قائلا: (أمطري حيث شئت يأتني خراجك)

تمتاز الأملاك البريطانية باتساعها، ولا عجب، فإن بريطانيا تحكم ثلث اليابس، إذ تملك أستراليا وتجثم على صدر معظم أفريقيا، وتتحكم في معظم آسيا، ولها ممتلكات واسعة في أمريكا

ولعل مما يثير اهتمامك وانتباهك أيضا أن بريطانيا شديدة أشد الحرص على أن تكون مفاتيح البحار في يدها، فلها في كل بحر من البحار، ومحيط من المحيطات، جزائر متناثرة، ولكن أهميتها عظيمة لأنها مأوى الأسطول البريطاني الذي تسود به بريطانيا على الدنيا

الأسطول البريطاني:

بريطانيا سيدة البحار، هذا هو ما تزعمه وهو صحيح من غير شك، فما يزال الأسطول البريطاني (الدرع الواقي) لإنجلترا حتى أيامنا هذه؛ بل إنني أعتقد بحق أن الجندي المجهول الذي كسب لبريطانيا الحرب الأخيرة، مع أن الناس لم يشعروا بقيمة الحرب البحرية في الحرب الأخيرة ولم يقدروها حق قدرها ولعلنا نذكر أن ألمانيا قد استطاعت أن تكتسح أوربا في فترة وجيزة حتى بلغ بها الأمر أن استولت في ليلة واحدة على دولتين: هما النرويج والدانمارك، وفي مدى أسبوع سقطت فرنسا تحت أقدامها، وأصبحت ألمانيا سيدة أوربا ولم يبق أمامها سوى إنجلترا

وقد وجهت ألمانيا إلى بريطانيا طائراتها فأخذت تقذف عاصمتها بوابل من قنابلها ليلا ونهارا، وكانت تبغي من غير شك إضعاف نفسية الشعب الإنجليزي حتى تضطر حكومته إلى طلب الصلح. ولكن الخلق الإنجليزي لا يبدو واضحا جليا إلا في أوقات الأزمات؛ فقد صمد الشعب الإنجليزي وخاب فأل الألمان

ولعلك تسألني لم لم ترسل ألمانيا قواتها فتحتل أرض بريطانيا كما فعلت مع فرنسا وأنا أجيبك بأن ألمانيا قد فكرت في ذلك من غير شك، فلما تحققت أن الأسطول البريطاني واقف لها بالمرصاد نكصت على عقبيها وارتدت عن فكرتها ولجأت إلى الحرب الجوية وانتهى الأمر بفشلها، وظلت ألمانيا حبيسة في داخل القارة. ولما تمكنت إنجلترا من جمع حلفاء حولها نظمت قواتها وقوات حلفائها وعمدت إلى إثارة الشعوب الأوربية ضد ألمانيا ثم نزلت قواتها إلى البر في أرض حليفتها بالأمس فرنسا، وظلت تحارب حتى تم لها النصر، وكان الأسطول يحاصر ألمانيا وأملاكها وينقل العتاد والذخائر والمؤن إلى بريطانيا وحلفائها

لعلك قد تبينت أيها القارئ الكريم أهمية الدور الذي لعبه الأسطول البريطاني في الحرب الأخيرة، وأنا الآن أنتقل بك إلى موضوع آخر هو: كيف أصبحت بريطانيا أمة بحرية، وكيف تمكنت من إحراز السيادة العالمية البحرية؟

وأحب أن أحدثك قليلا عن بريطانيا قبل أن أجيبك عن هذا السؤال. إن تلك الدولة العتيدة تتكون من عدة جزائر أهمها جزيرتان: الجزيرة الكبرى وهي تضم إنجلترا وويلز واسكتلندا، والجزيرة الثانية وتشمل أيرلندا، وهناك عدة جزائر أخرى متناثرة حول هاتين الجزيرتين

وتقع الجزائر البريطانية في شمال غرب أوربا، ويفصلها عن القارة بحر المانش وبحر الشمال وقد كان لهذا الموقع أهمية كبرى في تاريخ بريطانيا، ذلك أنه جعلها بعيدة عن التأثر بالتيارات السياسية، والانقلابات التي تتعرض لها القارة الأوربية، وجعلها بمنجاة من الغزو الأوربي

كيف أصبحت بريطانيا أمة بحرية وكيف أصبحت سيدة البحار؟ لقد رأينا فيما سبق أن بريطانيا تتكون من عدة جزائر تحيط بها البحار والمحيطات، ومن طبيعة أهل السواحل أن يلجئوا إلى البحر المجاور التماسا للرزق وسعيا وراء السمك، وقد ساعد الإنجليز على ركوب البحر توفر الغابات والأخشاب اللازمة لصناعة السفن في بلادهم، ثم إن الإنتاج الزراعي لا يكفي حاجة السكان مما جعلهم يلجئون إلى البحر. هكذا تعلم البريطانيون الملاحة

وفي عصر النهضة والاستكشافات راع الإنجليز ما أحرزته إسبانيا من ممتلكات في أمريكا، وما استولت عليه من ثروات ضخمة، فبدأ ملاحوها المعروفون باسم قراصنة البحر بزعامة سير فرنسيس دريك يهاجمون السفن الإسبانية، وانضمت إنجلترا إلى جانب هولندا التي ثارت ضد إسبانيا وقدمت لها مساعدات قيمة. الأمر الذي أثار ثائرة فيليب الثاني ملك إسبانيا وبلغ النزاع أشده بين دولتين: إحداهما تتزعم المذهب البروتستانتي وهي إنجلترا، والثانية تتزعم المذهب الكاثوليكي وهي إسبانيا، فأعد فيليب أسطولا عظيما عرف باسم (الأرمادا) ليغزو به بريطانيا في بلادها، وهنا واجهت إنجلترا أزمة خانقة ولكنها وقفت ملكة (اليصابات) وشعبا في وجه الأسبان، وحطم البحارة الإنجليز الأسطول الإسباني الكبير في يوليو 1588 وهكذا بدأت بريطانيا زعامتها البحرية

على أن بريطانيا لم تلبث أن وجدت نفسها أمام دولة أخرى تنافسها في ميدان الاستعمار والسيادة على البحار وهي فرنسا، ولكن بريطانيا أخذت تنازل عدوتها، وفي خلال حرب السنين السبع 1756 - 1763 تمكنت من الاستيلاء على ممتلكات فرنسا في أمريكا والهند

وجاء عصر الثورة ونابليون، واستطاع نابليون أن يفرض - كما فعل هتلر - سلطانه على أوربا، وبقيت إنجلترا وفكر في غزوها، ولكن قوتها البحرية ردته إلى صوابه ففكر في طريقة أخرى ليضرب بها إنجلترا، ورأى أن خير طريقة، لتحقيق ذلك تكون بالقضاء عليها في مستعمراتها، ومن هنا جاء نابليون في حملته المشهورة إلى مصر 1798

وعرفت بريطانيا أن نابليون قد جاء إلى مصر ليقضي على إمبراطوريتها في الهند فوقفت له بالمرصاد، وحطم بطلها العظيم نلسن الأسطول الفرنسي في موقعة أبي قير البحرية في أول أغسطس 1798 وكذلك وقف السير سدني سمث يساعد الجزار باشا في عكا مما اضطر نابليون أن يعود أدراجه من حملته على الشام إلى مصر ومنها إلى أوربا

واستمر العداء مستحكما بين فرنسا زعيمة أوربا وبين إنجلترا سيدة البحار، وجدت إنجلترا في القضاء على البحرية الفرنسية قضاء تاما، وقد استطاع نلسن أن يحقق لها ذلك في موقعة الطرف الأغر في أكتوبر 1805 إذ حطم قوات فرنسا البحرية وكذلك قوات حليفتها إسبانيا، وكتب للبحرية الإنجليزية نصرا رائعا دفع لها ثمنا حياته، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت إنجلترا زعيمة البحار غير منازعة. وما يزال الإنجليز إذا ذكروا نلسن ذكروا بطلا ضحى بحياته في سبيل مجد إنجلترا وإن أنس لا أنس منظرا شهدته بعيني: فقد كان المرحوم المستر جريفث يقوم بتدريس الأدب الإنجليزي لنا وكان يقرأ (حياة نلسن) فلما وصل إلى نهاية الرواية وفيها وصف مؤثر لسقوط نلسن في ساحة الشرف وميدان القتال؛ بكى الرجل ودمعت عيناه رغم أن نلسن كان قد مات منذ أكثر من قرن وربع من الزمان

وما تزال كلمات نلسن التي وجهها إلى بحارة الأسطول قبيل المعركة دستورا للإنجليز: (إن إنجلترا تتوقع أن يقوم كل فرد بواجبه)

وقد قام كل فرد بواجبه فتحقق النصر لبريطانيا، وقام نلسن بواجبه واستشهد في المعركة، وكان أخر عبارة فاه بها: (حمدا لله وشكرا، لقد أديت واجبي)

وقد كان من نتائج هذه المعركة أن ظل نابليون محبوسا في أوربا لا يستطيع عنها حولا، وظلت إنجلترا تقاومه حتى سلم نفسه إليها فنفته إلى جزيرة سانت هيلانة حيث قضى بقية حياته

وجدير بي أن أذكر قبل اختتام حديثي أنه في 1912 قرر قيصر ألمانيا إنشاء ست بوارج حربية، فقررت إنجلترا إنشاء 12 بارجة واحتج القيصر، ولكن بريطانيا ردت عليه قائلة، إن الأسطول البريطاني يجب أن يكون في تعداده وقوته مماثلا لأساطيل الدولة مجتمعة

أبو الفتوح عطيفة

مدرس أول العلوم الاجتماعية بسمنود الثانوية