مجلة الرسالة/العدد 931/مع أبي تمام في آفاقه:

مجلة الرسالة/العدد 931/مع أبي تمام في آفاقه:

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 05 - 1951



قصيدة النار

- 4 -

للأستاذ محمود عزت عرفة

تتمة

. . . وثالثة القصائد التي أنشأها أبو تمام في الأفشين هي هذه لرائية الهاجية الشامتة التي لا تزال موضوع حديثنا. ولقد كانت أبياتها في وصف النار والمصلبين موضع العجب والإعجاب - كما رأينا - لدى القدماء والمحدثين جميعا. ذلك أنها تصوير مبتكر دقيق، لمنظر لنا أن نعده مبتكرا دقيقا أيضا، بما لابسه من هول المشهد وروعته، مشوبا بفرحة النفوس لهذا النصر المتتابع يمثله الخليفة لأبناء سامرا في جثث أربع، لأربعة من رؤوس الكفر والخلاف وأهل العداوة للإسلام هم: بابك الخرمي، والمازيار بن قارن، وناطس الرومي نائب عمورية، وحيدر الأفشين. إنه المشهد الذي قرت العيون بما تنظر منه، وهشت الأسماع لما تسمع عنه، وتلقت القلوب منه البشرى تبهجها فتطغيها، وأعلنت له الشماتة التي كانت في شرعة الفضيلة عاراً، فأصبحت بعد مما يرحض به العار. . .

يا مشهدا صدرت بفرحته إلى ... أمصارها القصوى بنو الأمصار

رمقوا أعالي جذعه فكأنما ... وجدوا الهلال عشية الإفطار

واستنشقوا منه قتاراً نشره ... من عنبر ذفر ومسك (داري)

وتحدثوا عن هلكه كحديث من ... بالبدو عن متتابع الأمطار

وتباشروا كتباشر الحرمين في ... قحم السنين بأرخص الأسعار

كانت شماتة شامت عاراً فقد ... صارت به تنضو ثياب العار

ثم يعود أبو تمام فيستعرض وجوه النعم التي حظي بها الأفشين في ظل المعتصم، فهو قد أحله من قلبه مكانة لا تنفذ إليها مؤثرات الأحداث، وأرتعه من العيش الهنيء في أطيب مرتع، وبوأه جانب الأمن والسلامة من أن يتقلب عليه قلبه، أو تأخذه بوقيعة يده؛ لأنه كان يطمئن إليه أكثر مما يطمئن الأب الكريم إلى أبنه البار. ثم ماذا؟ ثم تكشف الأفشين فجأة عن طوية خبيثة، فإذا هو يسر الكفر إسرارا، ويصر على اعتقاده إصرارا؛ بل هو يحن إلى سالف عهده فيه حنيناً لا يخرجه منه إلا أن يرتد إليه، ويبكي مجد مجوسيته الذاهب بكاء من فقد آثر الأشياء عنده وأعزها إليه:

قد كان بوأه الخليفة جانباً ... من قلبه حرماً على الأقدار

فسقاه ماء الخفض غير مصرد ... وأنامه في الأمن غير غرار

ورأى به ما لم يكن يوما رأى ... عمر بن شأس قلبه بعرار

فإذا أبن كافرة، يسر بكفره ... وجداً كوجد فرزدق بنوار

وإذا تذكره بكاه كما بكى ... كعب زمان رثى آبا المغوار

وحديث عمرو بن شأس الأسدي مع زوجته وولده مشهور كانت له امرأة من رهطه يقال لها أم حسان بنت الحارث، وكان له أبن يقال له عرار من أمة له سوداء، فكانت تعيره به وتؤذي عرارا ويؤذيها، وتشتمه ويشتمها. فلما أعيت عمراً بالأذى والمكروه في أبنه، قال الكلمة التي فيها هذه الأبيات:

ألم يأتها أني صحوت وأنني ... تحلمت حتى ما أعارم من عرم

وأطرقت إطراق الشجاع ولو رأى ... مساغا لنابيه الشجاع لقد أزم

فإن عراراً إن يكن غير واضح ... فإني أحب الجون ذا المنكب العمم

وإن عراراً إن يكن ذا شكيمة ... تقاسينها منه، فما أملك الشيم

أردت عراراً بالهوان ومن يرد ... عراراً لعمري بالهوان فقد ظلم!

أما وجد الفرزدق بزوجته (نوار) وندمه على تطليقها، فليس يعد لهما وجد ولا ندم. وهو القائل في ذلك

ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت مني مطلقة نوار

والذي يشير إليه أبو تمام من وثاء كعب لأبي المغوار، هو البائية التي أنشدها كعب بن سعد الغنوي في رثاء أبي المغوار واسمه هرم أو شبيب، وفيها يقول:

ودع دعا: يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجيبه عند ذاك مجيب

فقلت ادع أخرى وارفع الصوت دعوة ... لعل أبا المغوار منك قريب

يجبك كما قد كان يفعل، إنه ... مجيب لأبواب العلاء طلوب فإني لباكيه، وإني لصادق ... عليه، وبعض القائلين كذوب

وكان في آل كاوس جماعة من ذوي النفوذ والجاه كالفضل أبن كاوس أخي الأفشين الذي أبلى معه في حرب الخرمية بلاء عظيما. والحسن بن الأفشين زوج أترنجة أبنة القائد أشناس وكان يطمع في بعض مناصب الولاية في خراسان. فكان مقتل الأفشين مما يستوجب الضرب على أيدي أمثال هؤلاء ممن لا تؤمن بادرتهم، وقد نجحت خطة المعتصم في ذلك بمعونة عبد الله بن طاهر ولم يكن ليغيب عن أبي تمام لزوم هذا الإجراء الحاسم، فهو يذكره للمعتصم ويشير به عليه؛ ويذكر الأحرج في إلحاق أعيان آل كاوس بمصير سيدهم، لأنهم جميعا أهل فتنة وخلاف. ولئن كان الأفشين قد لقي من بينهم جزاء ما أظهر من خيانة، فكل منهم في خبيئة نفسه وباطن أمره (أفشين). فحقهم أن يلقوا ما لقي، وأن يذوقوا الكأس التي ذاق

ولا يفوت أبا تمام كعادته أن يستشهد على هذه الحقيقة بحوادث الغابرين، وأن يستنبط لها الأمثال من سير الماضين. فهو يذك لنا السامري صاحب موسى، وقدارا أشأم ثمود. وعنده أنهما لم يركبا من الشر ما ركبا إلا وكل منهما مؤيد من قومه بما طبعت عليه نفوسهم من الشر. وكأنما كان الله - سبحانه - ينظر إليهم بهذه العين حين شملهم بسخطه وعذابه جميعا وإذاً فليس أمام المعتصم إن تحرى الحزم والسداد إلا أن يأخذ جميع آل كاوس بجريرة صاحبهم الأفشين:

يا قابضا يد آل كاوس عادلا ... أتبع يميناً منهمو بيسار

ألحق جبيناً دامياً رملته ... بقفا، وصدرا خائنا بصدار

واعلم بأنك إنما تلقبهمو ... في بعض ما حفروا من الآبار

لو لم يكد للسامري قبيله ... ما خار عجلهمو بغير خوار

وثمود لو لم يوغلوا في ربهم ... لم ترم ناقته بسهم قدار

ثم يختم الشاعر الموضوع الأصيل من قصيدته بإعادة ذكر المصلبين وقد لبست أجسادهم من لفح النار سوادا كالقار. ثم عبثت بها أيدي النسائم فانعطف بعضها إلى بعض كأنها في سرار ومناجاة.

ويذكر بعد ذلك أنهم ركبوا مطايا ضوامر ليست كالجياد من لحم وعصب، ولكنها من حديد وخشب، وأنهم في امتطائهم إياها كانوا أشبه شيء بالسفر المغذين وهم مع ذلك لا ينقلون قدما أو يبرحون موضعا. وقد ذكرنا ثلاثا من هذه الأبيات أنشدت في مجلس محمد بن منصور، ونحن نعيد الأبيات هنا بجملتها، وهي ستة:

ولقد شفى الأحشاء من برحائها ... أن صار بابك جار مازيار

ثانيه في كبد السماء، ولم يكن ... لاثنين ثانيا إذ هما في الغار

وكأنما ابتدرا لكيما يطويا ... عن ناطس خبرا من الأخبار

سود اللباس كأنما نسجت لهم ... أيدي السموم مدارعا من قار

بكروا وأسروا في متون ضوامر ... قيدت لهم من مربط النجار

لا يبرحون ومن رآهم خالهم ... أبدا على سفر من الأسفار

وفي البيت الأول (ولقد شفى الأحشاء. . . الخ) إشارة إلى أولى التهم التي أخذ بها الأفشين، وهي حضه مازيار بن قارن على الخلاف في طبرستان. وفي الحق إنها كانت أخطر هذه التهم كذلك، ومن أجلها وحدها تقرر مصير الأفشين وصحت نية الخليفة على الإيقاع به. . .

ويكفي للتدليل على ذلك أن نقول إن القبض على الأفشين وقع قبل الدخول بمازيار إلى سر من رأى بيوم واحد. حكي ذلك الطبري فقال: (جلس المعتصم في دار العامة لخمس ليال خلون من ذي القعدة (225هـ) وأمر فجمع بينه - يعني مازيار - وبين الأفشين. وقد كان قبل ذلك بيوم. .) وإذاً فلم يكون سائر ما ألصق بالأفشين من تهم - إلى جانب تحريضه مازيار - إلا نوعا من الاستقصاء، وتلمسا لما يبرر الانقلاب عليه، وإخلاء موضعه منه. أو قل إن ضعف هذه التهمة. وقد أشرنا قبل إلى اضطراب الروايات حولها - استدعي أن يضاف إليها ما يعززها، ويضاعف من نسجها _

أما البيت الذي قال فيه:

وكأنما ابتدرا لكيما يطويا ... عن ناطس خبراً من الأخبار

فقد كان يند عني فهم المراد منه، حتى وقعت على تفسير له في تاريخ المسعودي. قال: ومالت خشبة مازيار إلى خشبة بابك فتدانت أجسامها، وكان قد صلب في ذلك الموضع ناطس بطريق عمورية، وقد انحنت نحوهما خشبته، ففي ذلك يقول أبو تمام: ولقد شفي الأحشاء. . . الأبيات

ولقد تجنى صاحب (الموازنة) على أثنين من هذه الأبيات، أولهما قوله:

ثانيه في كبد السماء ولم يكن ... لاثنين ثانياً إذ هما في الغار

أورده (ولم يكن لأثنين ثان) ثم قال: كان يجب أن يقول (ثانيا) لأنه خبر يكن، واسمها هم اسم بابك مضمر فيها. فليس إلى غير النصب سبيل في البيت وإلا بطل المعنى وفسد. ونقول: إن المعنى يبطل حقا بالرفع ويفسد؛ ولكن رواية النصب هي المأثورة، وقد وردت في الديوان، ويستلزم ذلك وصل الهمزة المنقطعة في (إذ) وتلك ضرورة شعرية يبررها استقامة البيت معها إعرابا ومعنى

أما البيت الثاني فقوله:

لا يبرحون ومن رآهم خالهم ... أبداً على سفر من الأسفار

يقول الآمدي: قال بعض الأعراب يصف المصلوب، وأنشد ثعلب:

قام ولما يستعن بساقه ... آلف مثواه على فراقه

كأنما يضحك في إشراقه

أخذ أبو تمام قوله: آلف مثواه على فراقه فقال: لا يبرحون. . البيت. وهكذا يعتد الآمدي هذا البيت من سرقات أبي تمام على وجه من التكلف بغيض، يكاد يطالعنا في كل ما عقده القدماء تحت عنوان (السرقات الشعرية)

وإلى هنا يفرغ أبو تمام من المعاني التي حشد لها فكره مما يتصل بحياة الأفشين وموته؛ وهو كما يرى القارئ، وكما شهد له معاصره، كان كثير الاتكاء على نفسه، حفيا بكل معنى مبتكر، يعني باستنباطه نفسه، ويشحذ له جد ذهنه، لا يحس في ذلك كلالا ولا يستشعر وهنا؛ حتى لكأنه يأخذ نفسه دائماً بما وصف به بعض شعره حين قال:

أما المعاني فهي أبكار إذا ... نصت، ولكن القوافي عون

ولا يختم أبو تمام قصيدته قبل أن يشيد باستحسان ما أقره المعتصم من ولاية العهد لأبنه هارون (الواثق بالله) ففي ذلك جمع لشمل المسلمين، وتحر لمصلحتهم. مع قمع شياطين الفتنة، وتوطيد دعائم الحكم العادل، وضمان صيانة هذه الملك العريض أن يفرط عقد أقطاره، أو يتعطل معصمه من سواره، وفي ذلك يقول أبو تمام: فاشدد بهارون الخلافة إنه ... سكن لوحشتها ودار قرار

بفتى بني العباس والقمر الذي ... حفته أنجم يعرب ونزار

ثم يقول:

فاقمع شياطين النفاق بمهتد ... ترضي البرية هديه، والباري

ليسير في الآفاق سيرة رأفة ... ويسوسها بسكينة ووقار

فالصين منظوم بأندلسي إلى ... حيطان رومية فملك ذمار

ولقد علمت بأن ذلك معصم ... ما كنت تتركه بغير سوار!

ويختم أبو تمام قصيدته بهذا المقطع الذي يرتقي به إلى أعلى ذروة المديح، ويسجل لبني العباس - بل لآل هاشم جميعا - مجدي الدين والدنيا، وعزتي النبوة والخلافة، وليس فوق هذين غاية تطلب ولا مقصد يرام:

فالأرض دار (أقفزت ما لم يكن ... من هاشم رب لتلك الدار

سور القرآن الغر فيكم أنزلت ... ولكم تصاغ محاسن الأشعار

وبعد، فهذا أبو تمام (الشاعر) عرضنا في قصيدة واحدة من قصائده. ونحن نرجو أن نكون قد جلونا للقارئ صفحة من روعة فنه، وعبقرية شعره، وتجنيح خياله، وتألق ديباجته، وأريناه إياه ملحقا في سماء القريض الفذ إلى الغاية التي يقصر دونها كل شاعر.

أما أبو تمام (الحكيم)، أبو تمام المفكر الفيلسوف، فذلك إنسان تسامع به أهل الأدب جميعا - وإن كنا نشك في أنهم عرفوه حق معرفته - منذ ما أومأ إلى هذه الحقيقة أبو العلاء في عبارته المقتضبة العابرة: المتنبي وأبو تمام حكيمان، وإنما الشاعر البحتري!

(تم البحث)

محمود عزت عرفة

المدرس بمعلمات شبرا