مجلة الرسالة/العدد 933/الشعر والحياة

مجلة الرسالة/العدد 933/الشعر والحياة

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 05 - 1951



(مهداة إلى الأستاذ الشاعر الكبير الأستاذ محمود غنيم)

للأستاذ أحمد مصطفى حافظ

يقول الرافعي الخالد: (لو سئلت أزمان الدنيا كيف فهم أهلها معاني الحياة السامية، كيف رأوها في آثار الألوهية عليها، لقدم كل جيل في الجواب على ذلك معاني الدين ومعاني الشعر. وليست الفكرة شعراً إذا جاءت كما هي في العلم والمعرفة، فهي في ذلك علم وفلسفة، وإنما الشعر في تصوير خصائص الجمال الكامنة في هذه الفكرة على دقة ولطافة. . كما تتحول في ذهن الشاعر الذي يلونها بعمل نفسه ويتناولها من ناحية أسرارها.

فالأفكار مما تعانيه الأذهان كلها، ويتواطأ فيه قلب كل إنسان ولسانه. . بيد أن فن الشاعر هو فن خصائصها الجميلة المؤثرة، وكأن الخيال الشعري نحله من النحل، تلم الأشياء لتبدع فيها المادة الحلوة للذوق والشعور، والأشياء باقية بعد كما هي لم يغيرها الخيال، وجاء بما لا تحسبه منها وهذه وحدها هي الشاعرية. .)

ويقول الزيات الفنان (الفكر والخيال والعاطفة هن ملكات النفس الأدبية الثلاث، يصدر عنهن فيض القريحة، ويرد إليهن إلهام العبقرية؛ لا يهيمن عليه إلا الخيال والعاطفة؛ أما حاجته إلى الفكر فمحدودة بمقدار فما يضيء لهما الطريق حتى يأمنا الضلالة.

فالفكر للعبقرية بمثابة العين، والخيال والعاطفة لهما بمثابة الجناحين، فإذا تغلبا عليه كان الشرود والزيغ، وإن تغلب عليهما كان الجفاف والعقم. ومن هنا جردوا أكثر ما قال أبو العلاء وأقل ما نظم أبو الطيب من الشاعرية).

وآراء أستاذي الجليلين المتقدمة هي لب ما هدف إلى التعبير عنه هذا الموضوع الذي لا أحب أن أحداً غير ابني بجدتها - الرافعي والزيات - قد استطاع أن يشبع نهمي وتحرقي إلى قراءة قول شاف واف فيه.

فالشعر تعبير ذاتي ممتاز، مثل شاذة القاعدة والقانون تعبير غير مطرد، عارض غير مستديم.

وقد يعترض معترض على ذاتية الشعر، فنقول إن ذاتية الشعر ليست ذاتية خالصة، فإن فيها طرفاً من الموضوعية. . فكون الشعر خاصاً لا يمنعه أن يأخذ صفة العموم يوصفه العموم تعبيراً، والتعبير خروج من الذاتية إلى الموضوعية؛ وعلى قدر اقتدار الفنان على أن يضمن شعره جانبي الذاتية والموضوعية تكون عبقريته.

فطبيعة الشعر - حسب هذا التحليل - لا تسمح بأن يكون لغة حياة، أو لغة حوادث ومادة حوار. . فالمسرحية الشعرية مثلاً كائن فني يبتدئ في ثوب ممتاز، غريب على الواقعية، إلا أنه على قدر هذا نجاح هذا الكائن الغريب في تمثيل الحياة، يكون نجاح الفنان وتوفيقه.

إن الشعر ليحمل في طبيعته الذاتية قوى تأثيرية، يحتاج إليها تصوير الحياة من وجهة نظر الفنان. . فوزن القصيدة - وهو في صميمه مدى الجو النفسي لأعماق الفنان حين الخلق الفني - لن تسلك فيه الألفاظ عبثاً.

ليس البحر الشعري مجرد تقسيم مقطعي للجملة الشعرية، ولكنه زمن للتعبير الذي تحمله العبارة.

ليست القافية مجرد لفظة، ولكنها لمحة تكر على وحدة الموضوع. . وفي ذلك منتهى الشعور العميق بتكامل النفسية، أداها الشاعر الفنان على غير وعى منه؛ ولم يكن الشاعر الفنان قد قرأ تكامل منازعه النفسية في كتب (أدلر) أو غيره.

بل إن علم النفس هو الذي أستقصي قوانينه من عمق الغناء، والذي أراه سليماً أن الفنان الحق تعبير صاف، خالص من الشوائب، عن أعمق، وأصرح، وأصدق المشاعر الإنسانية.

هو الشخص الذي إذا أتيح لسائر أعضاء المجتمع الذي يملك (الميكروسكوب). . وما أصدق وأدق المثل الإنجليزي القديم الذي يقول

احمد مصطفى حافظ