مجلة الرسالة/العدد 934/من أدباء الحجاز
مجلة الرسالة/العدد 934/من أدباء الحجاز
1 - من أدباء الحجاز
عبد العزيز الزمزمي 900 - 976 هـ
للأستاذ عبد الله عبد الجبار
إن كنت - أيها القارئ الكريم - من أهل مكة المكرمة، أو ام تكن من اهله وقد أتيح لك أن تستمتع بتلك اللحظة الروحية، لحظة الغروب بالمسجد الحرام وقد أخذت مكانك خلف بئر زمزم انتظاراً لأداء فريضة المغرب، لا ريب أنك قد شهدت في (منظرة) مقام الشافعي رجلاً مرتدياً جبة بيضاء أو سوداء أو بين هذينمن الألوانقد لف عمامته على رأسه في رفق، وأخرج من جيبه ساعته العتيقة مدلاة من شريط أسود ثم نظر فيها ثم رفع رأسه إلى أعلى قليلاً بعد أن وضع يده اليمنى على خده وصدغه، وإبهامه على صماخ أذنه، ثم أرتفع صوته بالآذان صوب الآذان بتلك النغمة التقليدية: الله أكبر الله أكبر - وهو يميل لفظة الجلالة إمالة طويلة ويخطف لفظة أكبر خطفة سريعة: يكررها هكذا أربع مرات، ولا يكاد صوته ينطلق حتى تتجاوب المآذن بنداء السماء، وحتى تنطلق أفواه المصلين وقلوبهم وأرواحهم بترجيع النداء.
هذا الرجل - أيها القارئ الكريم - وأحد أفراد أسرة (الريس) التي اختصت بأن يكون لها شرف (رئاسة المؤذنين) في المسجد الحرام. ومن هنا كانت تسميتها (بالريس) بعد أن كانت تسمى في التاريخ بأسرة (الزمزمى) نسبة إلى بئر زمزم.
وعن شخصية من شخصيات هذه الأسرة سيكون بحثنا هذا، فتعال معنا إذن نعبر جسر الزمن لنطل على تاريخ هذه الأسرة بمكة في القرن الثامن الهجري:
هذه الأسرة تنتمي إلى علي بن محمد بن داود البيضاوي الشيرازي الأصل: وقد قدم علي بن محمد هذا إلى مكة في سنة ثلاثين وسبعمائة هجرية عام قدمها الفيل من العراق فباشر عن الشيخ بن ياقوت المؤذن في خدمة بئر زمزم. ولما آنس فيه الرشد والخير والكفاية آثره بخدمة هذا البئر متنازلاً له عنها، وزوجه بابنته فولد له منها ولده أحمد وغيره من اخواته، وأصبح في عقبة أمر البئر ومعها سقاية العباس رضى الله عنه. بعد ذلك تعال معي ننحدر مع الزمن لنشرف على القرن التاسع الهجري وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة حيث نشهد ميلاد عبد العزيز الزمزمي وهو موضوع هذا البحث، ففي سنة تسعمائة هجرية ك ميلاد هذا العالم الأديب بمكة، وكانت بواكير طفولته في بواكير القرن العاشر الهجري، وغير حياته الطويلة الحافلة بالتدريس والإفتاء والصلاح والتقوى والرحلات المختلفة إلى مصر والشام والمدينة واليمن وبلاد الروم حتى وافاه الأجل المحتوم وهو في السادسة والسبعين من عمره، وتوفي بأم القرى. ويمضي نسبه على النحو الآتي:
عبد العزيز عز الدين بن علي بن عبد العزيز بن عبد السلام ابن موسى بن أبي بكر بن اكبر بن أحمد بن علي بن محمد بن داود البيضاوي.
ثقافته وكتبه: وقد أخذا العلم عن كبار المحققين وجد وأجتهد حتى ذاع صيته وبرز أفرانه، وأفاد كثيراً من العلم والتجارب من أسفاره المتعددة وكان شافعي المذهب، وقد أرتحل إلى مصر في ريعان شبابه يطلب العلم على أيدي علمائها الإجلاء. . ومن مشايخه أحمد بن موسى بن عبد الغفار المالكي الذي مدحهبقصيدة مطلعها:
أريج مسك الأسحار ... فاح خلال الأزهار
وقد تفتقت عقلية الزمزمي حسب إمكانيات عصره وكما سمحت له ظروف حياته عن مؤلفات شعرية نثرية منها:
1 - الفتح المبين في مدح شفيع المذنبين.
2 - فيض الوجود في شيبتني هود.
3 - شرح على مقامات الحريري.
4 - (نظم علم التفسير) وهو منظومة لطيفة كان الطلاب ولا يزالون يحفظونها بمدرسة الفلاح بمكة، ولها شرح للشيخ منصور سبط الطبلاوي سماه: (منهج التيسير إلى علم التفسير) وللسيد محسن بن السيد علي المساوي المكي شرح لها سماه (نهج التيسير على نظم أصول التفسير) طبع في سنة (1352) وللسيد العلوي مالكي العالم المكي المشهور في العصر الحاضر حاشية على الشرح المذكور سماه (فيض القدير) وللشيخ يحيى أمان العام المدقق والأصولي البارع بمكة شرح سماه (التيسير على منظومة علم التفسير). وما زال الزمزمي يترق في مناصب العلم حتى أصبح عميداً لعلماء مكة في ذلك الزمان. وقد ذكر القطبي في تاريخه المراتب على السنين: (أنه في السادس عشر من المحرم سنة 976 قد وجه إلى الشيخ عبد العزيز الزمزمي تدريس المدرسة السليمانية بخمسين عثمانياً، وكان رئيس علماء مكة يومئذ.) وقد مدحه منوهاً بعلمه أبو الفيض الصديقي من قصيدة جاء فيها:
أجل جيران بيت الله قاطبة ... علماً إذا وصفوا في مكة العلما
شعره: وللزمزمي ديوان شعر منه نسخة خطية بالمكتبة التيمورية، وقد كلفت من نسخها لي. وتقع نسخته في ست وسبعين ومائة صفحة من الحجم المتوسط. ويشتمل هذا الديوان على ثلاثة أبواب وخاتمة.
الباب الأول: (النبويات) وهي القصائد التي مدح بها النبي (ص) وقد رتبها حسب الحروف الهجائية ونظم مدائحه النبوية من أغلب حروف المعجم، وترك الحروف الآتية: الثاء. والخاء. والذال. والشين. والصاد. والضاد. والطاء. والظاء. والعين. والغين. والواو: وقد استقرت النبويات (101) صفحةمن نسختي. وربما أدخل في هذا الباب قصائد ليست منه كقصيدته في مدح أبن عباس، وقصيدته حين زار مدينة عدن: وقد عرض الهمزية والبردة وجعل قافية الأخيرة مفتوحة، ويمضي مطلعها على هذا النحو:
أمن تذكر جرم جرمه عظماً ... أرقت في الخد دمعاً أم هرقت دما
أم البكاء لما أهملت جانبه ... من طاعة قد بكت أرض لها وسما
فوت خطة رشد كنت مدركها ... فصرت تقرع سنا بعدها ندما
الباب الثاني: مدح العلماء والصالحين ومن مدحهم الأمام الشافعي والشيخ أبن عربي ومحمد بن عراق.
الباب الثالث: في ذكر الكعبة المشرفة ومكة والحرام والحجاز والمشاعر المنيفة، ويبدأفي نسختي من ص (165) ولانجد في هذا الباب إلا قصيدة واحدة طويلة نسبياً ذكر فيها المنازل من مخا إلى زبيد إلى مكة، وذكر فيها الكعبة المشرفة، وقد نظمها في سيره من اليمين مع ركب الحج اليماني:
الخاتمة: وفيها نظم خمسة أحاديث نبوية وإليك مثلاُ منها:
وصالك جنتي ونعيم جسمي ... وقربك صحتي وجفاك سقمي
علام هجرتني هجراً عنيفاً ... بليغا زائدا من غير جرم
فلا وصل ولا مكذوب وعد ... ولا رؤياك في طيف ملم
لقد أفطرت في ظلمي فهلا ... حفظت حديث ظلم دون ظلم وقيمة هذا الديوان الصوفية أكبر من قيمته الفنية، وهذه النزعة الروحية كثيراً ما كانت سمة من السمات التي طبعت الحياة العقلية لكثير من المفكرين والمنتجين في هذه البلاد في كثير من العصور.
ويخيل إلي أن الزمزمي كان مشدوداً برباط وثيق إلى عالم ما وراء الحياة في رحلاته الكثيرة المتعددة لا يكاد يهبط بلداً من البلاد حتى يكون من اول ما يقوم به زيارة هذا الضريح أو ذاك لالتماس البركة من هذا الولي أو ذاك، ونظم ذلك كله شعراً صوفياً يرتاح له ضميره.
وكان لا تلم به كارثة من الكوارث أو تحق به أزمة من الأزمات حتى يشد رحاله إلى المسجد النبوي ينشد الفرجة من مقام النبوة العظيم.
وربما كانت فرقته للحجاز على كره منه، فهو يصرح بذلك في شعره، ويشكو إلى الله حالته الكئيبة الحزينة، وبعده عن عياله واوطانه وعن المشاعر المقدسة ومعاهد الطهر والإيمان، ويستعرض أمام عينيه ايامه التي سلفت. فما أكثر ما ظل عاكفاً بالمسجد الحرام يصلي حيناً ويدرس ويقرأ القرآن حيناً، وما أكثر ما وقف بعرفات، فلقد حج أكثر من خمسين حجة فهل يتاح له الوقوف بها مرة أخرى، وهل تناخ له بمنى، المنى وهل يبصر نفسه بين اهله وذويه، ورهطه وصحبه، وقومه وإخوانه؟ إنه يسجل كل ذلك في شعره إذ يقول:
إلى الله أشكو من تباريح أحزاني ... وبي وبعدي عن عيالي وأوطاني
بحكم زمان ظالم جار واعتدى ... على وعن قصدي عداني وعاداتي
ترى هل ترى أم القرى عين نازح ... بجثمانه والقلب منه لها واني
أعد لي حديثاً عن مشاعرها وعن ... معاهدها دامت معاهد إيمان
وعن حرم الله الأمين ومسجد ... حرام وبيت ضم أشرف أركان
فيا طالما في ظله عاكفاً ... لتدريس علم أو صلاة وقرآن
ومن عرفات لست أنكر موقفاً ... تعرفته من قبل إبان عرفان
وقفت به نيفاً وخمسين حجة ... فكيف فمي يجري له ذكر نسيان
ألا ليت شعري بعد فرقة جمعنا ... بليلة جمع عائد عيشنا الهاني
وهل بمنى يوما تتاح مني ... إليها والشوق أضر من نيراني وأبصر نفسي بين أهلي وأسرتي ... ورهطي وأصحابي وقومي وإخواني
وللزمزمي قصيدة نظمها في سيرة من اليمن إلى الحجاز مع ركب الحج اليمني ذكر فيها المنازل من المخا إلى زبيد إلى مكة المكرمة. وقد بدأ (بدوقة) يوم الخميس 18 من ذي القعدة وأتمها بالليث يوم الأحد غرة ذي الحجة الحرام سنة 958 هـ، وهذه القصيدة تعتبر (خريطة شعرية) تبين لنا خط سير قاصد الحج من اليمن إلى مكة في القرن العاشر الهجري، وفي مطلعها يقول:
ظعنا فنودينا عن الشر غبتموا ... وجئنا فقال الخير وجيتمو
وما كان ذاك البعد إلا دجنة ... جلالها اقتراب صبحة متبسم
نعمنا من بعد بؤس أصابنا ... فأذهب ذاك البؤس هذا النعيم
وأن الثوى في أرض مكة جنة ... وكل دنو من سناها جهنم
فوالل ما فارقتها عن كراهة ... ولا لأمور جمة تتوهم
ولكن مقادير بها حكم القضا ... وليس على حكم القضاء تحكم
رحلنا مطايانا إليها نؤمها ... فيا حبذا منها إليها التيم
وبعد ان كر كيف مضت بهم المطايا من المخا إلى الزهارى وكيف أقاموا بزيد ليالي، وكيف راحت العيس وحاديها شوق ملح لقرية المنصور والغانمية يقول:
ومرت إلى (مور) ومنها تشاءمت ... إلى (قطبة) والأفق مظلم
ومذ قصدت (جازان) جاز اقتصارها ... فأضحت وحاديها عليها مخيم
وبعد أن يذكر عالية وأبا قريش كان مقامهم بها ثلاثة ايام يقول:
ومنها إلى صبيا بنا العزم قد صبا ... وكان لنا في (بيش) شأن ملئم
وبعد أن يذكر وادي بيش وعتود يسجل كيف بدت لهم في الشقيق وجوه توسموا فيها عصيان السلاطين:
ولما دخلتا في (الشقيق) بدت لنا ... وجوه بعصيان السلاطين توسم
ومنها انصرفنا للغدير الذي على ... (عريب) بواديه الزيالع أقدموا
ومنه مسير الركب نحو مغيزل ... تمادى به والعيس للورد حوم
فمرت إلى (ذهبان) ذاهبة وقد ... حلا عندها الماء الذي منه ينجم وبعد أن يمضي قليلاً يأسى لعيس كيف كانت تئن من العجز وكيف دقت بكلكلها الثرى في (دوقة) وكيف ثابت بعد أن أقامت بها يومين، وكيف جازت مسيل الواديين ولم تقف به والليل أسود حالك، وإنما مضت في سرها سواد الليل وطرفاً من النهار. حتى إذا اعتلت الشمس صاروا إلى (ذكوان) وكان لهم فيه مقيل غير محمود، فقد بلغ الإعياء بهم مبلغاً عظيماً. وكانت الشقة بعيدة، وكان لا ماء علقماً والتمسوا (العجور) فلم يجدوه. . ثم ساروا حتى وصلوا (الليث) لم يطيلوا المكث به، بل راحوا (للهضب) حتى إذا صاحت حداة الركب: (هذي يلملم) ألمت به الأفراح واهتزت نفوسهم طرباً وأناخوا ركابهم ونزلوا واغتسلوا وصلوا ولبوا وأحرموا وكان للركب ضجيج، وكانت عيونهم تذرى الدمع فرحاً ولم يمكثوا هناك إلا بمقدار ما أدوا به شعار النسك، واستهلوا بلبيك اللهم لبيك، ومن ثم يمموا نحو البيت الحرام وهو يجهشون بالبكاء:
وفي (دوقة) دقت بكلكلها الثرى ... وقامت على عجز تئن ورزم
ولكنها من بعد يومي إقامة ... أثابت فسارت وهي للركب تقدم
وجازت مسيل الواديين لم تقف ... به والدجى بين المسلمين مقتم
وصارت إلى (ذكوان) حين ذكا اعتلت ... وكان لها فيه مقيل مذمم
هزال وإعياء إلى بعد شقة ... وقد عدم العجور والماء علقم
وما طوت مذ جاءت (الليث) لبثها ... (وللهضب) راحت والحداة تترجم
ألمت بنا الأفراح لما تباشر ... وصاحت حداة الركب هذي (يلملم)
أنيخوا المطايا وانزلوا وتغسلوا ... وصلوا ولبوا خاضعين وأحرموا
فكم ضجة للركب ثم وجلة ... وكم مقلة تذرى الدموع وتسجم
وما مكثوا إلا بمقدار ما أتوا ... به من شعار النسك ثمت أحرموا
بلبيك لبيك استهلوا وأجهشوا ... ومن ثم للبيت الحرام تيمموا
ثم بدت لهم معالم مكة:
وصرح بالأمر الحداة وبشروا ... وغنوهمو هذا المقام وزمزم
وذا بيت رب العرش ما دونه سوى ... ستور بالجلالة ترقم
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... وقر عيونا باللقاء المتيم عبد الله عبد الجبار
مدير البعثة السعودية بمصر