مجلة الرسالة/العدد 934/بريطانيا العظمى

مجلة الرسالة/العدد 934/بريطانيا العظمى

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 05 - 1951



للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

لعلك أيها القارئ الكريم توافقني فيما أذهب إليه من أن عظمة المم ترجع أولا وقبل كل شيء إلى عاملين هامين: أولهما قوة روحية تدفع أبناءها إلى تضحية أرواحهم من أجلها وإلى استعذاب الردى في سبيلها وهو يمكن أن يسمى بالإيمان الوطني - وثانيهما قوة مادية تحقق لهم ما يبغون لوطنهم من نصر ومجد.

وقد قصصنا عليك فيما سبق مدى قوة الشعب البريطاني الروحية وعظم ثروته الخلقية، ووصفنا لك إيمان البريطانيين بوطنهم وحبهم له وإقبالهم على التضحية في سبيله.

وعندي أن القوة الروحية هي العامل الرئيسي، ولكن ذلك لا يمنع من خطر القوة الثانية وهي القوة المادية، فإن الجندي الذي ينزل إلى ميدان القتال وهو أعزل من السلاح مصيره حتماً إلى الدمار. وقد كفلت بريطانيا لنفسها القوة الثانية ويرجع الفضل في ذلك إلى أنها أولاً وقبل كل شيء دولة صناعية؛ بل إنها أنها أولى دول العالم الصناعية.

ويحسن بي قبل أن أحدثك عن الصناعة في بريطانيا أن أحدثك عن أمر له خطر وله شأنه. ذلك أن العلماء يقسمون حياة الأمم والأطوار التي تمر بها إلى أربعة أدوار:

الدور الاول: وهو المرحلة التي يحترف فيها الإنسان القنص والرعي. وأظنك توافقني على أن هذه المرحلة بدائية لا يتقدم فيها الإنسان ولا يرقى ولا يتحضر. وإن نظرة واحدة إلى حالة الزنوج في اواسط أفريقيا وإلى حالة البدو في الصحراء ستجعلك من غير شك تؤمن بصدق هذه النظرية، فإن الزنوج والبدو يعيشون هذه المعيشة منذ خلقوا، وسيبقون كذلك ما لم يضطروا اضطراراً إلى تغيير أساليب حياتهم.

الدور الثاني: وهو المرحلة التي احترف فيها الإنسان الزراعة وقد كانت الزراعة أول خطوة في سبيل التقدم والتمدن، ذلك أن الإنسان عندما اشتغل بالزراعة استقر في مكان وبدأ يعمل على تحسين حالته والنهوض بها، ومن هنا كانت الحضارة الأولى التي ظهرت في التاريخ حضارات زراعية قامت في مصر وفي العراق وفي الصين منذ آلاف السنين.

الدور الثالث: وفي هذا الدور أشتغل الإنسان بالنجارة وتعتبر هذه المرحلة أرقى من المرحلة السابقة.

وقد بدأ سكان بريطانيا حياتهم باحتراف الرعي والقنص ثم اشتغلوا بالزراعة، ولكن الزراعة لا تجود في بريطانيا ومن ثم اشتغل سكانها بالتجارة، وقد رأينا فيما سبق كيف أدى هذا إلى قيام الصراع بين إنجلترا وأسبانيا أولاً ثم بين إنجلترا وفرنسا ثانياً، وكيف انتهى الأمر بانتصار إنجلترا وتكوينها لإمبراطورية عظيمة هي أعظم الإمبراطوريات التي شهدها التاريخ، ورأينا كذلك كيف أصبحت بريطانيا سيدة البحار وهي الآن تملك أقوى أسطول تجاري وحربي في العالم.

ويطيب لي أن أذكر كذلك أن أهم عامل في أيام النزاع بين ألمانيا وإنجلترا منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى أيامنا هذه كان سيطرة بريطانيا التجارية على أسواق العالم.

الدور الرابع: وهو أعظم الأدوار شأناً وابعدها شأواً وأكبرها أثراً وهو الدور الذي تشتغل فيه الأمة بالصناعة، وتعتبر الأمم الصناعية أرقى الدول وأعظمها شأناً.

وبريطانيا هي أولى دول العالم ومن ثم كانت أعظم الدول شأناً وأكبرها أثراً في توجيه السياسية العالمية. ويطيب لي أن أنوه بأن التقدم الصناعي من ثمار التقدم العلمي ومن ثم كان اهتمام بريطانيا بالبحث العلمي عظيماً، فهي تتيح لصفوة علمائها كافة الوسائل لينقطعوا للبحث العلمي.

ولعلك أيها الصديق الكريم تسألني عن العوامل التي ادت إلى قيام الصناعة في بريطانيا وكيف وصلت بريطانيا إلى مكانتها الصناعية الحالية. وأنا أجيبك بأن الصناعة الحديثة تحتاج إلى الآلات أولاً، وإلى قوة تحركها ثانياً، وإلى الخام ثالثاً، وإلى اليد العاملة رابعاً. وقد توفرت هذه العوامل جميعاً لدى البريطانيين. فبلادهم غنية بالحديد ومنه تصنع الآلات، وهي كذلك غنية بالفحم والكهرباء وبهما تسير الآلات. أما المواد الخام والأيدي العاملة فهي موفورة ميسورة.

ويجدر بي أن أذكر أن الحديد دائماً ينتقل إلى مناطق الفحم ومن تركزت الصناعة حول مناطق الفحم، ذلك أن الآلات تستهلك الفحم دائماً ومن ثم فلتوفير نفقات نقله تركزت الصناعة في مناطق تعدينية ومنذ أكثر من نصف قرن استخدمت الكهرباء في إدارة المصانع والآلات فاستغلت بريطانيا مسقط المياه في توليدها، وبالتالي في إدارة آلات مصانعها به. أما عن المواد الخام فإنها موفورة ميسورة لبريطانيا، ذلك أن بريطانيا تملك كما رأينا أكثر من ثلث اليابس في الكرة الأرضية ولها أراضي شاسعةفي مختلف أنحاء العالم، وهذه الممتلكات تمتاز بكثرة إنتاجها للمواد الخام للصناعة، فمثلاً نستورد القطن من الهند ومصر والسودان وينيا وغيرها، والصوف من أستراليا، والمطاط من المناطق الاستوائية بأفريقيا ومن جزر الهند الشرقية الخ.

ومما يساعد بريطانيا سهولة اتصالها بمختلف أنحاء العالم، فلها أسطول تجاري كبير هو أكبر أساطيل العالم طولاً، بل أكثر من هذا أن بريطانيا قد عنيت تمام العناية بالمواصلات في داخلها، فاستغلت أنهارها وقنواتها للملاحة، وعبدت الطرق الزراعية، ومدت السكك الحديدية مما جعل المواصلات بها ميسورة مريحة: مائية وبرية وجوية.

هذه العوامل مجتمعة هي التي أدت إلى قيام الصناعة في بريطانيا، وأنا أحب أن أضرب للقارئ مثلاً يبين فوائد الصناعة من الجهة المادية: فقنطار القطن يباع في مصر بعشرين جنيهاً ثم ينتقل إلى إنجلترا حيث يغزل وينسج ويرد إلى مصر ليباع به، ووزن القنطار مائة رطل، ووزن المتر من النسيج أوقيتان تقريباً فيكون وزن الرطل يعادل خمسة أمتار تقريباً، وإذا افترضنا للمتر ثمناً 20 قرشاً يكون ثمن الرطل من النسيج مائة قرش ويكون ثمن القنطار مائة جنيه، وبذا يكون الربح في قنطار واحد ثمانين جنيهاً.

وتمتاز الصناعة في بريطانيا بتخصص كل منطقة صناعية في صناعات معينة: فتقوم صناعة القطن في منطقة لنكشير وأعظم مراكز غزله ونسيجه مدينة مانشستر، وأكبر موانئ تصديره لبفربول. وتقوم صناعة الصوف في يور كشير وأعظم مراكز غزله ونسيجه مدينة ليدز. وتقوم صناعة الأسلحة والآلات القاطعةفي وسط إنجلترا وأهم مراكزها شفلد وبرمنجهام، أما صناعة بناء السفن فأهم مراكزها جلاسجو ونيوكاسل وبورتسموث وبلموث وبلفاست وأما لندن فهي عاصمة بريطانيا العظمى والإمبراطورية البريطانية. وقديماً كان الرومان يقولون (كل الطرق تؤدي إلى روما) لأنها كانت العاصمة للإمبراطورية الرومانية، وفي العصور الوسطى كانت بغداد أكبر مدن العالم لأنها كانت عاصمة الإمبراطورية الإسلامية، وأما في عصرنا الحاضر فإن لندن هي أكبر مدن العالم، ونظرة واحدة إلى خريطة تبين الخطوط الملاحية للأساطيل التجارية تريك أنها جميعاً تتجه إلى لندن!! وأخيراً:

إن بريطانيا تتحكم في العالم بقوة إنتاجها الصناعي. ومن المفارقات أن مصر قد عقدت معها 1931، وفي هذه المعاهدة تعهدت بريطانيا بإمداد مصر بما يحتاج إليه جيشها من أسلحة وذخائر. ولكن كلما طلبت مصر من بريطانيا أن تفي بوعدها راوغت، وثار نوابها في مجلس العموم لأنهم يزعمون أن مصر قد تستخدم هذه الأسلحة ضد بريطانيا ذاتها. وها نحن أولاء في مركز لا نحسد عليه فقد قيدتنا بريطانيا بالمعادة ثم تركتنا لا نستطيع حراكاً، بل إنها أثناء حرب فلسطين 1949 منعت عنا السلاح ما كان له أسوأ الأثر، وما اصدق قول شاعر النيل حافظ بك إبراهيم:

لا تقرب التايمز واحذر ورده ... مهما بدا لك أنه معسول

أبو الفتوح عطيفة

مدرس أول العلوم الاجتماعية بمسنود الثانوية